د. نمير العاني*
نشر الدكتور فوزي الهيتي مقالاً في صحيفة "المثقف" (العدد 4270 الصادر في 15-05-2018)، يُستشف منه وكأن هنالك تعارضاً او عدم توافق بين فلسفة الوجود لدى ماركس، من جهة، وفلسفة الإنسان لديه ومجمل فلسفته الإجتماعية، من جهة اخرى. إذ ذلك يفقد معناه القول الوارد في المقال بـ"ان اغلب القراءات العربية لماركس كانت تنطلق من فلسفته الميتافيزيقية للوجود"، في حين "ان الثيمة والمحور الأساس الذي يصح اعتماده والانطلاق منه في قراءة فلسفة ماركس هو مفهوم الانسان، ومن ثم تصوراته في الاجتماع والسياسة".
وبالإرتباط مع هذا اجد من الضروري التوكيد هنا على إن غالبية الماركسيين انما ظلموا ماركس، ليس لأنهم إنطلقوا في قراءته، كما جاء في المقال، "من فلسفته الميتافيزيقية للوجود". بل لأنهم، كما ارى، قاموا بتشويه هذه الفلسفة. كما تجدر الإشارة إلى إنهم لم يكونوا الوحيدين الذين ظلموا ماركس بتشويه تعاليمه. فقد سلك المسلك نفسه المفكرون البرجوازيون، عندما إبتدعوا تعارضاً، بل وتناقضاً بين ماركس المبكر (الشاب) وماركس المتاخر (الشيخ)، مصورين الأول مفكراً ذا نزعة إنسانية ليبرالية، ومعتبرين الأخير فيلسوفاً شمولي التفكير.
إن هذا التعارض هو مجرد بدعة مختلقة أُريد بها تسفيه الماركسية لدافع طبقي، لا اكثر. نعم، إن ماركس بدأ مشواره الفلسفي، كما هو معروف، هيجلياً، حين إنتمى وهو شاب يافع إلى حركة الهيجلين الشباب وهي حركة فكرية يسارية سعت إلى إستخلاص وبلورة إستنتاجات ثورية من الفلسفة الهيجلية.
إلأ إن المقام لم يدم به طويلاً في صفوف هذه الحركة، إذ لا يلبث ان يترك صفوفها، متخلياً ليس عن مثالية هيجل المطلقة وحسب، بل وعن المثالية الفلسفية إجمالاً، بإنتقاله تحت تأثير لودفيج فويرباخ إلى مواقع المادية الفلسفية. غير إن إنبهاره بمادية فويرباخ الأنثروبولوجية لا يلبث هو الآخر ان ينتهي سريعاً.
ومنذ لحظة تخليه عن فلسفة فويرباخ بسبب طابعها الميتافيزيقي (اللأديالكتيكي) يأخذ ماركس ببلورة نظامه الفلسفي الخاص، والذي يشيد صرحه بالتعاون مع فريدريش إنجلس. والخطوط العريضة لهذا النظام يحددها ماركس في موضوعاته الشهيرة الإحدى عشر عن فويرباخ (1845)(1). ومنذ ذلك الحين من الممكن ان نقول ان ماركس قد اصبح ماركساً بالفعل.
وعليه، فعند الحديث عن ماركس ينبغي ان يكون المعني ليس ماركس الهيجلي، ولا ماركس الفويرباخي، بل ماركس الماركسي إن جاز التعبير. وعندئذٍ، سنجد انه ليس ثمة تناقض او اي تعارض بين ماركس (الماركسي) الشاب او المبكر وبين ماركس (الماركسي) الشيخ او المتأخر. فهذا وذاك لهما الموقف المبدأي نفسه من الوجود والإنسان والمعرفة والتاريخ..إلخ.
فالنزعة الإنسانية لماركس والتي نجدها ماثلة في "موضوعات عن فويرباخ" هي نفسها التي نلقاها متجسدة في المجلد الأول من "رأس المال" (1867). إلا إن هذا لا يعني باي حال من الأحوال ان تصوراته لم تتطور. على الضد من ذلك نجد إن هذه التصورات التي طرحت بشكل اولي، مجزء ومكثف في "نحو نقد فلسفة الحق الهيجلية" (1843)، و"المخطوطات الإقتصاد فلسفية" (1844)، و"العائلة المقدسة" (مؤلف مشترك مع إنجلس) (1844)، و"موضوعات عن فويرباخ"، و"الأيديولوجيا الألمانية" (مؤلف مشترك مع إنجلس) (1846)، و"بؤس الفلسفة" (1847) وغيرها من المؤلفات المبكرة وجدت تدقيقها وتطويرها في الأعمال اللاحقة لماركس ولإنجلس.
اما الفلاسفة الماركسيون، فهم في غالبيتهم اساؤوا ايضاً قراءة وفهم ماركس. ومن الملاحظ في هذا الخصوص إن تشويه الماركسية من قبل مفكرين عدّوا انفسهم ماركسين قد بدأ في حياة ماركس، الذي قال عن نفسه في سياق تعليقه على آراء "ماركسيي" نهاية سبعينيات القرن التاسع عشر الفرنسيين، وفق ما نقله إنجلس، ما يلي: "إنني اعرف شيئاً واحداً، الآ وهو إنني لست ماركسياً"(2).
إن العامل الأساسي، او أحد العوامل الأساسية التي افضت إلى تشويه الفلسفة الماركسية يكمن، حسبما اعتقد، في السياسة عموماً وسياسة الدولة على وجه الخصوص. فالسياسة هي التي حاولت تدجين هذه الفلسفة التي اصبحت رهينة لديها. إنها هي التي حولتها إلى وسيلة مطاوعة تمكنها من الوصول إلى غاياتها وتحقيق اهدافها.
وبالفعل، نجد إن الحزب الشيوعي السوفييتي والدولة السوفياتية، وكذلك الدول التي كانت تٌدعى الإشتراكية واحزابها الشيوعية والعمالية، بل ومجموع الحركة الشيوعية العالمية، قد حولوا الفلسفة الماركسية ومجمل النظرية الماركسية إلى مطيّة لتحقيق مآربهم وتبرير سياساتهم. إنهم مسخوا الفلسفة الماركسية بإلغاء وظيفتها كمرشد في العمل الهادف نحو تغيير العالم. إنهم إغتالوا الروح الثوري لهذه الفلسفة بتحنيطها، محولين إياها، وكذلك مجمل النظرية الماركسية، إلى نصوص جامدة، إلى مومياء، إلى أيقونة، إلى كتاب مقدس.
هذا ما قامت به الفلسفة الماركسية الرسمية (السوفييتية وغيرها) والتي هي بعيدة كل البعد عن تعاليم ماركس وإنجلس، الفلسفة التي جند غالبية الفلاسفة الماركسين خلال القرن المنصرم انفسهم لصياغة تصوراتها وفبركة علاقتها بماركس. وفي ضوء ذلك استطيع ان اقول، بل وان اجزم ان ماركس (وكذلك إنجلس) بريء تماماً من اغلب ما أُلصق بإسمه من تصورات واحداث في القرن العشرين.
إن الفلسفة الماركسية هي نظام متسق من المبادىء والمفاهيم موحد على نفسه، بحيث لا يمكن إجتزاء اي من مكوناته ومعارضته بالمكونات الأخرى. ومما لا شك فيه إن اساس هذا النظام يتمثل في المادية الديالكتيكية التي تشكل في جوهرها التعاليم الماركسية عن الوجود (الأنطولوجيا الماركسية)، والتي تجد إمتدادها في التعاليم الماركسية عن الوعي (الجنوسيولوجيا او نظرية المعرفة الماركسية).
إن بعض الفلاسفة الماركسين قد ذهبوا إلى نفي وجود انطولوجيا ماركسية بذريعة ان ماركس وإنجلس لا يستخدمون مصطلح الأنطولوجيا في مؤلفاتهم. وتحضرني الآن تلك المنافسة التي إحتدمت في سيتينيات القرن الماضي بين المدرسة اللينينغرادية (الأنطولوجية) في قراءة المادية الديالكتيكية والمدرسة الموسكوية (الجنوسيولوجية) في تمثلها.
لقد بدت لي هذه المنافسة خالية تماماً من اي اساس موضوعي، أكان من ناحية الشكل، أو من زاوية المضمون. فالمادية الديالكتيكية تشكل في الحقيقة وحدة لا يمكن فصم عراها للأنطولوجيا والجنوسيولوجيا. ولذا، فلا يمكن معارضة اي من هذين المكونين بالمكون الآخر، وإختزال مضمون هذه الفلسفة برده إلى اي منهما.
اما غياب مصطلح "الأنطولوجيا" لدى ماركس وإنجلس فلا يمكن ان يفسر باي حال من الأحوال كغياب لنظرية الوجود في فلسفتهم. فاغلب الظن إنهما لم يستخدموا هذا المصطلح نظرأ لأنه كان يردد في زمانهم بمعنى مقارب لمضمون مفهوم "الميتافيزيقا" بمدلوله القديم، اي بمعناه التاملي المجرد، وهو المفهوم الذي قاما برفضه بطبيعة الحال.
إن ما لا جدال فيه إن ماركس وإنجلس قد صاغا بوضوح تصوراتهم الخاصة عن المادة والحركة والتطور والزمان والمكان والرابطة العامة لظواهر الواقع..إلخ، التصورات التي تؤلف في وحدتها العضوية نظريتهم الفلسفية للوجود، او، بكلمة واحدة، انطلوجيتهم، التي تشكل بدورها النواة الأساسية للمادية الديالكتيكية.
ومما لا جدال فيه ايضاً إن المادية الديالكتيكية هي التي تؤلف ذلك الأساس الذي على ارضيته تقوم المادية التاريخية والتي لذلك لا تشكل في حقيقتها إلأ إمتداداً لها. وهذا يعني إن المادية الديالكتيكية هي التي مكنت ماركس وإنجلس من تعميم ونشر المبدأ العام للمادية الفلسفية على تفسير التاريخ وفهم الظواهر الإجتماعية. وعليه، فبدون المادية الديالكتيكية، و، إذن، بدون الأنطولوجيا الماركسية التي تؤلف نواتها المركزية، لا يمكن ان تقوم قائمة للتفسير المادي للتاريخ.
وكل هذا يعني إننا بدون الرؤية الأنطولوجية لماركس لا نستطيع الولوج بشكل سليم إلى عالمه الإجتماعي ولن نتمثل بصورة صحيحة تصوراته الفلسفية عن الإنسان والتاريخ العالمي. والجدير بالملاحظة والتوكيد هنا إن انطولوجية ماركس لا يجمعها جامع مع الصورة الميكانيكية للعالم. إن ماركس وإنجلس قد إستخدما المنجزات العلمية لعصرهما، بما في ذلك المنجزات المشهودة التي حققتها الفيزياء الكلاسيكية (بما فيها ميكانيك إسحاق نيوتن)، معممين إياها عند بلورة وصياغة منظومتهما الفلسفية. ولكن لا يرقى الشك ايضاً إلى إنهما قد اخضعا تصورات ومفاهيم المادية الميتافيزيقية عموماً والمادية الميكانيكية خصوصاً لنقد قاسٍ في مؤلفاتهما المختلفة.
فإن اخذنا، على سبيل المثال لا الحصر، مفهومي الضرورة والمصادفة، سنجد إن ماديي ما قبل ماركس اضافوا طابعاً مطلقاً على الضرورة، ناكرين من خلال ذلك وجود المصادفة في الطبيعة. وقد طابقوا في الحقيقة بين الضرورة والسببية، محولين بذلك المصادفة إلى مفهوم معبر ليس عن حالة الأشياء بحد ذاتها، بل عن حالة معارفنا عنها، او في الواقع عن غياب هذه المعارف.
فالمصادفة وفق هذا التصور تصبح مفهوماً مجسداً للظاهرة التي نجهل اسبابها. وما ان نعرف هذه الأسباب حتى يتحول ما إعتبرناه قبل ذلك مصادفةً إلى ضرورة. فلا مصادفة في العالم الموضوعي، ومع المصادفة تختفي منة الحرية ايضاً. وقد افضى كل ذلك إلى بلورة مبدأ الحتمية الميكانيكية الذي وجد صياغته الكلاسيكية على يد العالم والفيلسوف الفرنسي بيير سيمون لابلاس.
لقد رفض ماركس وإنجلس هذه التصورات جملةً وتفصيلاً. فالضرورة والمصادفة وفق رؤيتهم هي اضداد جدلية متلازمة مع بعضها، بحيث لا يمكن لأي منهما ان يوجد بمعزل عن الآخر. فلا ضرورة بلا مصادفة ولا مصادفة بدون ضرورة. وبهذا تصبح المصادفة كالضرورة قانوناً لوجود الأشياء بحد ذاتها، تظهر بحكمه هذه الأخيرة وتختفي. ومع المصادفة تصبح الحرية واقعاً موضوعياً قائماً في العالم نفسه. وفي ضوء ذلك تتم صياغة مبدأ الحتمية الديالكتيكية والذي بموجبه تصبح الضرورة واقعاً متحققاً من خلال سلسلة طالت ام قصرت من المصادفات.

لا تغيير للعالم بدون تفسيره

واخيراً، عن الموضوعة الحادية عشر عن فويرباخ: يقول ماركس في هذه الموضوعة المهمة "ان الفلاسفة فسروا العالم فقط بصور مختلفة، اما المسألة فتكمن في تغييره"(3). فهل يعني هذا إن ماركس ليس مع تفسير العالم، بل مع تغييره فقط. هل هذا يعني "ان حد الفلسفة وغايتها عند ماركس هو التغيير لا التفسير"؟ لا ابداً.
إن الموضوعة المذكورة لا تعني سوى إن الفلاسفة السابقين فسروا العالم وتوقفوا عند التفسير، اي إكتفوا بذلك، في حين إن المهمة تتلخص في ضرورة المضي بعد ذلك نحو تغيير العالم. إن تفسير العالم، هو، إذن، نقطة الإنطلاق، نقطة البداية في المشوار الفلسفي، وليس نقطة النهاية فيه، والتي تتمثل في تغيير العالم.
إلأ ان هذا يعني في الوقت نفسه إن تفسير العالم هو شرط ضروري لتغييره. وهذا امر مفهوم بشكل عام، لأن العالم لا يمكن تغييره وفق اهوائنا ونزواتنا، بل إن ذلك يمكن ان يجري فقط وفق قوانين العالم نفسه والتي لا يمكن لنا ان نفوز بها إلأ بتفسيرنا له.
ولهذا بالذات يترتب علينا ان نفسر العالم بصورة سليمة اولاً، اي ان نفهم القوانين الفاعلة والمتحكمة فيه، ومن ثم نقوم بإستخدام معرفتنا هذه في مسعانا من اجل تغيير العالم. فالإنسان في الحصيلة يغير العالم بواسطة العالم نفسه، وليس بالضد منه. ولهذ،ا فلا تغييرللعالم بدون تفسيره.
وعليه، نستطيع ان نقول بان ماركس في موضوعته آنفة الذكر يعارض تفسير العالم من اجل التفسير فقط، مطالباً بتفسيره من اجل التغيير. وبهذا تصبح وظيفة الفلسفة، وفق رؤيته لها، هي تفسير العالم بغية تغييره، اي هي تفسير العالم وتغييره. وبالفعل، إن الفلسفة لا تقوى ان تصبح مرشداً في عملية تغيير العالم إلأ في حالة تفسيرها له تفسيراً سليماً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*
سانت بطرسبورج– روسيا
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1-
انظر: نمير العاني. القيمة العلمية لموضوعات ماركس عن فويرباخ. الثقافة الجديدة. العدد 51، 1973.
2-
إنجلس ف. رسالة إلى كونراد شميدت في 5 آب 1890 // ماركس ك. وإنجلس ف. المؤلفات. الطبعة الثانية. المجلد 37 ، ص. 370 (بالروسية).
3-
ماركس ك. موصوعات عن فويرباخ // ماركي ك. وإنجلس ف. المولفات. الطبعة الثانية؟ المجلد 3، ص. 2 (بالروسية).