دشن القرن الحادي والعشرون موجات من الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية ومشاركة مميزة من الشباب والنساء ومنظمات المجتمع المدني تحت شعارات عالمية ووطنية. فمن الاحتباس الحراري وتأثيراته، الى قضايا السلام والحقوق الانسانية في الصحة والعمل والتعليم والسكن. وامتدت ايضا لتشمل المنطقة العربية بما سمي بالربيع العربي، وصولاً الى العراق الذي شهد اندلاع احتجاجات شعبية كان اوسعها التي انطلقت في تشرين ٢٠١٩ وحاولت السلطة اغتيالها عبر القمع المفرط واستخدام المليشيات والعصابات، وأودت بحياة مئات الشهداء والآلاف من الجرحى والمعوقين.
هذا الواقع طرح موضوعة الجماهير ودورها التاريخي، التي ينظر اليها لوبون من المنظور الشكلي المثالي كونها تجمع للأفراد يتحركون وهم ضمن الجماعات على أساس سلوكيات يمكن تفسيرها نفسياً، على خلاف المنظور المادي الذي يرى ان الجماهير تصنع تاريخها وفق شروط وقوانين موضوعية مرتبطة بالشروط المادية للتطور الاجتماعي وتعكس مصالح طبقية محددة وذات علاقة عضوية مع نشاط الافراد وليس مجرد وسيط ناقل لرغبات سيكولوجية لاشعورية كما يرى لوبون، او الروح المطلقة لدى هيجل.
والجماهير في المنظور المادي التاريخي مفهوم يختلف عن السكان، وهي ليست مجرد كم من الناس بل تمتاز بقدرتها النوعية على صنع التاريخ، ويتغير تركيبها الطبقي حسب طبيعة النمط الانتاج السائد، وتقف على النقيض من الطبقات السائدة. ففي فرنسا مثلاً، اثناء فترة الثورة الفرنسية (ايار ١٨٧٩)، والتي تأثر بها لوبون، كانت الجماهير الداعمة للثورة على النقيض من قوى الاقطاع والكنيسة التي كانت خلف النظام الاقطاعي السائد. كما تغير مستوى تنظيمها ووعيها مع الانتقال من مرحلة الانتفاضة الى الثورة.
موضوعياً، في العراق أدى تغول البرجوازية الطفيلية وتبلور الطغمة المالية الى تعمق أزمة النظام الطائفي البنيوية الذي وصل الى السلطة بدعم من قوى الاحتلال بعد ٢٠٠٣، ووصولها الى طريق مسدود وفشل محاولات الالتفاف على الأزمة الاقتصادية والمالية والأمنية، مع احتواء وتقويض مطالب الاحتجاجات الجماهيرية خشية من استمرار الظروف الموضوعية التي ستؤدي لامحالة الى الارتقاء بالدور التاريخي للجماهير الشعبية العراقية لحل هذه الأزمة وإقامة نظام سياسي ديمقراطي بديل ينهي تسلط الطغمة الطائفية الحاكمة ويفتح الطريق امام مواصلة عملية الانتقال الى نظام اقتصادي عصري ينسجم مع الواقع العراقي. وهي جزء من العملية التاريخية التي قطعها الاحتلال الامريكي وحكم البيروقراطية الطفيلية الطائفي المغلف بشعارات دينية.
وهذا اول افتراق منهجي عن اطروحات غوستاف لوبون الذي يطلق على الجماهير الشعبية الغوغاء او الحشود، والتي حسب تعريفه لها اكبر من حاصل الجمع العددي للأفراد المكونين لها وتتميز بحالة نفسية سائدة وسلوكيات مغايرة لما يقوم به الفرد لأن شعور الفرد بذاته ضمن الجماعات يختفي ليصبح انتماءً مشتركاً للمجموعة التي تبقى كحالة مؤقتة. لكن عندما يترك الفرد الجماعة يعود الى طباعه وسلوكه السابق والتحول من حالة اللامعقول واللاوعي الى العقلانية والوعي.
السلوك الجمعي
ولد غوستاف لوبون في فرنسا (١٨٤١-١٩٣١)، وهو طبيب ومؤرخ فرنسي له مؤلفات عديدة اشهرها كتاب “سيكولوجية الجماهير”. واهتم لوبون ايضا بالطب النفسي وله دراسات عن سلوك الجماعة، ووسائل التأثير عليها، والتي اصبحت مرجعا ثقافيا وسياسيا في النصف الأول من القرن العشرين، خصوصاً وانه كان من الداعين الى التفوق العلمي والعقلي للعرق الابيض وكان أحد الذين استخدمتهم الفاشية الالمانية والايطالية في ايديولوجياتها. وتأثر لوبون بفرضيات فرويد حول اللاشعور. وقد كرّس فرويد اربعة مؤلفات في سنواته الاخيرة عن علم النفس الجماعي وتحليل الأنا، وتركز مقاربة التحليل النفسي الفرويدية في تكوين الجماعة على العناصر الانفعالية اللاشعورية التي تساعد على تماسكها او تفرقها.
وكانت مشاركة لوبون حول سيكولوجية الجماعات مهمة في بدايات القرن العشرين كونها من أولى المحاولات لوضع أساس لعلم نفس الجماعات واستقراء تأثير الدعاية والتحريض على الوعي الشعبي، على الرغم من ان توصيفاته تستخف بدور الجماهير وتؤكد السهولة التي يمكن التلاعب بمشاعرهم وسلوكياتهم عبر تدفق معلومات مضللة وصور مبسطة ليس لها أساس علمي بل مجرد فرضيات ومشاهدات وافتراءات غير معللة. ومن مقاربات لوبون المهمة هي لاشعورية نشاط الجماعات الكبيرة، والعوامل والميول لتكون جماعات غير متجانسة، مثل غوغاء الشوارع التي تنبثق بعفوية اكثر من تلك التي تتكون على أساس مجموعة متناسقة مثل التجمعات الدينية.
وجوهر فكرة لوبون هنا ان التجمعات البشرية او الجماعات (الجماهير) هي عبارة عن تجمعات بشرية تتغلب عليها المشاعر البدائية والاستقطاب والتطرف ورفض الرأي الآخر، والذي يؤدي بها ان تتغول وترفض الحوار وتتبنى مواقف غير معقولة او مفهومة لتأثرها بالإيحاءات والانفعالات.
وتؤدي الى تكون عقل جمعي خاص بهذه الجماعة أساسه لاشعوري من رغبات وانفعالات مشتركة تتأثر بالاشاعات وتنطلق منها المشاعر العدوانية المكبوتة نتيجة ضعف الضوابط المجتمعية، حيث يختفي الوعي داخل هذه الجماعات لتتشكل روح جمعية مؤقته لاشعورية تجد لها مرتعاً داخل الجماعة وتمنح شعوراً بالقوة والتسلط، متأثراً بظواهر اشبه بالتنويم المغناطيسي التي تفرض على الفرد ان يضحي بمصالحة الشخصية لحساب الجماعة. فتتلاشى الشخصية السوية وتتمكن الجوانب اللاعقلانية بسبب تأثير التحريض وعدوى العواطف والانفعالات التي تنتشر بين الجماعات كالنار في الهشيم وتصبح اكثر عنفا وبربرية. ولكن خارجها يختلف سلوك الفرد كلياً، حيث يحل محل الوعي اللاعقلاني المتوحش للجماهير وعي الفرد العقلاني المنضبط اجتماعياً.
وعي الفرد العقلاني
وينتقل تأثير التحريض وسط الجماعات كعدوى مرض الطاعون نتيجة اوهام مصدرها التذكر والتخيل الغامض الذي يغزو ساحة العقل. وكلما اجتمعت الجماهير على قضية ما كلما كانت أبعد عن الحقيقة. ومن هنا يؤكد لوبون على عدم مصداقية الجماهير او الثقة بها وبعدها عن الحقيقة. اما عن دور الفرد او الزعامات في التاريخ فهي ليست حقائق بل مجرد أساطير تتغير وتتحول نتيجة خيالات الجماهير متأثرة بالظرف التاريخي والاساس العرقي. وهو في رأي لوبون يشمل الزعامات الدينية والسياسية والعسكرية، فيتحول من قائد رحوم وطيب القلب الى دموي ومستبد لتحقيق طموحاته في السلطة والثروة والمجد. أي ان التاريخ لا يخلق القادة بل أساطير واوهام تنسجها مخيلة الجماهير.
لذا فان كتاب “سيكولوجية الجماهير” محاولة لتوصيف الديناميكية النفسية الداخلية لنشاط الجماعات ومقارنتها بالأفراد، ولكنه ينفي دور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي، والذي كان في ذلك الوقت سائداً في اوساط اليسار الاشتراكي، بل يعزيه الى العناصر اللاواعية التي تعكس روح العرق الابيض ويجمعها المزاج والعقائد الايمانية.
لوبون “وروح السياسة”
وتتكامل آراء لوبون حول سيكولوجية الجماعات مع تحليلاته في كتابه بعنوان “روح السياسة”، حيث ينعت ما يُكتب من معارف سياسية ويخص الأفكار الاشتراكية، مثل السان سيمونية، كونها ذات طابع تبسيطي نتيجة الاوهام والمزاعم الباطلة التي استحوذت عليهم. لقد جاء لوبون بملاحظة مهمة وهي ان تاريخ الشعوب ليس مجرد وصف للملوك والزعامات، وهي صحيحة، الاً ان ما قدمه من إجابة تتناغم مع المقاربة المثالية في تحليل نفسية الجماعات. حيث يرى ان المهم هو معرفة روح السياسة، والتي تعني لديه أساليب الحكم وفن السياسة، وخاصة العلوم النفسية. ويعزو الهفوات السياسية التي حدثت في التاريخ الى انها نتيجة الجهل بعلم النفس، فكما تخضع الفنون والعلوم لقواعد لا يمكن نقضها، كذلك قيادة الناس لها قواعد حيث يؤدي خرقها الى عواقب وخيمة. ويشيد بكتاب ميكافيلي الذي يعتبره عالماً سياسياً عبقرياً ذا نظرة ثاقبة لحقائق الأمور في بحثه عن الممكن. ويُسفّه لوبون دور المعرفة والوعي لدى الشعوب ويعزو مقبولية الفكر الاشتراكي الى اعتماده على مبدأ الأمل، أي تحسين القدر والمستقبل السعيد بين الجاهلين بشكل خاص ومن لديهم اعتقاد ضعيف بقدرتهم على تحسين أمرهم في الحياة الآخرة، فهي أشبه بديانات الأرض، ولكن تؤثر الأعراق والأجناس على التباين في الافكار الاشتراكية. لقد عاصر لوبون ثورات ١٩١٩ التي امتدت في اوروبا وصعود احزاب الاشتراكية الديمقراطية وبرامجها الاصلاحية التي يتهمها لوبون بإضعاف القدرات السياسية والاقتصادية والعسكرية بسبب سنّها قوانين لإستمالة الغوغاء.