انشغلت سوريا وبلدان الشرق الأوسط والعالم بالقرار المنفرد الذي أعلنه الرئيس الامريكي المثير للجدل دونالد ترامب عبر تغريدة له بالتويتر، والقاضي بسحب القوات الامريكية المتواجدة منذ سنوات في سوريا.
وقد لا يتسع المجال لتناول التصريحات والاخبار والتفاصيل التي اعلنت منذ الاربعاء الفائت، ولكن من الضروري الاشارة الى اهم الافكار والرؤى التي يمكن تناولها، والتذكير بالصفقات المخفية، والتي قد يصعب الوصول الى طبيعتها وتفاصيلها، والتي يمكن ان تقول كلمة الحسم فيها، الى جانب الحقائق الواضحة التي اشرها قرار الرئيس الامريكي، في ما ستشهده المنطقة في المستقبل القريب.
فاجأ القرار وزراء حكومة الرئيس المعنيين بالملف مباشرة، وجاء ليضرب عرض الحائط التصريحات الاخيرة لوزراء الدفاع والخارجية، القائلة بان القوات الامريكية باقية في سوريا مادام التواجد العسكري الايراني باشكاله المختلفة مستمر فيها. وعكست هذه المفاجأة تصريحات معارضة للقرار من داخل الحكومة وحزبها الجمهوري، ناهيك عن الحزب الديمقراطي المعارض.
ولم يقلل من عمق التناقضات داخل مؤسسات الهيمنة الامريكية الحديث عن امكانية اقناع الرئيس بالتراجع عن قراره، او ان القرار جاء عبر تغريدة شخصية للرئيس ولم يصدر عبر قنوات القرار المعروفة، وكذلك ان عملية الانسحاب المرتقبة ، ستستمر الى اكثر من مائة يوم. واخيرا التصريحات الامريكية الرسمية،التي اكدت ان القرار سوف لن يؤثر على استمرار التحالف الدولي المعادي للارهاب.
ولذلك لايكفي ربط القرار الامريكي بنتائجه المباشرة، مثل اطلاق يد الرئيس التركي باستكمال فصول احتلاله مناطق سورية ذات غالبية سكانية كردية جديدة. ولاحتى سعي ترامب للضغط على بلدان الخليج العربي بدفع المزيد من المليارات، حيث حاولت السعودية وحلفاؤها الخليجيون ثني الرئيس الامريكي عن قرار الانسحاب الذي كان متوقعا في اذار 2017 ، اي ان القرار الصادر عبر تغريدة التويتر الأخير لم يكن مفاجأة بالكامل، وليس مقطوع الجذور.

ردود افعال متعارضة ولكنها مفهومة

لا شك ان قوى التحرر والسلام والتقدم في العالم وفي المنطقة تستقبل اي انسحاب امبريالي من المنطقة بايجاب وتركز على ما يمكن تحقيقة على اساسه لصالحها في اطار الصراع الصعب المحتدم. وعلى هذا الاساس رحبت اغلب قوى اليسار بالانسحاب الامريكي، معتبرة اياه اشارة واضحة تكشف عن الطبيعة الحقيقية للاستراتيجية الامريكية، وتخبطها.
سكان المناطق السورية المعنية مباشرة بالقرار، والادارة الذاتية الديمقراطية، والاحزاب القومية الكردية المؤثرة، رأت في القرار الامريكي خيبة امل كبيرة، واطلاق مقصود ليد الرئيس التركي في عدوانه ضد سكان المنطقة، ودعما لموقف جميع حكومات المنطقة المعنية مباشرة بالقضية الكردية، والمبني على تضيق افاق تحقيق مكتسبات جدية على طريق تحقيق تقرير مصير بمضمون ديمقراطي للشعب الكردي. تجربة العقود السابقة تؤكد هذه الحقيقة ومحطات الخذلان وبيع الشعوب عنوان كبير لا يمكن لصقور النظام الراسمالي التخلي عنه. وبالتالي فان على قوى التغيير في المنطقة، والعاملة من اجل مستقبل افضل لشعوبها الخروج من دائرة الرهان على المصالح الدولية والاقليمية وتوازناتها، والتشديد على تحالف الشعوب وقواها الديمقراطية، كحجر الاساس لعملية التغيير المنشود، وعدم الوقوع في وهم تجزئة وحدة نضال الشعب في سوريا، وفي هذا عدم نضج سياسي بيّن.
كان موقف الحكومة السورية، وحلفائها هو الآخر مفهوما، فيمكن على الأقل توظيف الحدث لتأكيد نجاحها، وتحقيق نجاح جديد لحلفائها، وخصوصا ايران التي يشكل لها الحدث، مدخلا مهما لتعزيز دورها داخليا واقليما في ظل ضغوطات ومصاعب داخلية وخارجية اقتصادية يتعرض لها النظام السياسي فيها.
الموقفان التركي والاسرائلي واضحان جدا، فالانسحاب الامريكي لا يعني تخلي الولايات المتحدة عنهما، بل الاكثر من هذا، يوفر القرار فسحة راحة كبيرة لكليهما للاستمرا في السياسات العنصرية والعدوانية. ويساعد القرار الرئيس التركي في ترحيل مشاكله الداخلية المستعصية بحرب خارجية خاطفة اخرى، لا سيما وان تركيا تقف على اعتاب انتخابات محلية مهمة مقبلة. ويعطي القرار زخما لجرائم اسرائيل بحق الشعب الفلسطيني، في اطار سعيها المتواصل لمحو هويته الوطنية.
ويأتي القرار الامريكي لتحقيق مكتسبات تبدو محدودة، ولكنها مهمة في اطار صراعها مع روسيا الاتحادية، منافسها الاقوى عالميا، فالقرار وصفقة صواريخ الباتريوت مع تركيا عضو الناتو، تشكل خطوة مؤثرة في اضعاف التعاون والتنسيق بين الاخيرة وتركيا وايران. ولكن الحلقة المفقودة، وفق المتوفر من المتابعات هو حقيقة اطلاع الزعيم الروسي على خلفيات القرار الأمريكي، وحقيقة الموقف الروسي من القرار، لان الموقف الروسي المعلن اعلاميا، والذي يؤكد على فشل السياسة الامريكية في سوريا والمنطقة، ليس بجديد.
موقف الحكومة الفرنسية، الذي يمكن اعتباره اساسا لمواقف البلدان المتنفذة في الاتحاد الأوربي، يدعو الى ضرورة الدفاع عن شعوب المنطقة، ويخطأ موضوعة هزيمة داعش على الطريقة الامريكية، ولكن من الضروري فهم الموقف الفرنسي على انه موقف تكتيكي يسعى للحفاظ على مصالح فرنسا والاتحاد الأوربي في اطار التنافس والصراع بين المراكز الراسمالية العالمية.
واخيرا تاتي الشائعات القوية عن توجه امريكي لخفض عديد القوات الامريكية في افغانستان. ومسار المفاوضات غير المباشرة الجارية مع طلبان في دولة الامارات العربية، لتقي المزيد من الاهمية على ضرورة التعمق في تحليل المواقف الامريكية والدولية والاقليمية الاخرى، وعدم الاكتفاء بالمواقف المعروفة، وان كان الكثيرمنها يحتفظ باهميته، وخصوص بالنسبة لقوى التحرر والتغيير.