لم يكن التغيير هدفاً أساسياً للفلسفة قبل ظهور الماركسية، وقد أصبح كذلك بعد ان وجدت ان جل ما فعله الفلاسفة حتى الآن هو فهم التاريخ، بينما المطلوب هو تغييره. وقد عبر ماركس عن هدف الفلسفة الجديد في الاطروحة الحادية عشر حول فلسفة فورباخ "لقد اكتفى الفلاسفة بفهم وتفسير العالم؛ أما الهدف فهو تغييره". لقد اقترن تصور ماركس لهدف الفلسفة بالانخراط الفعلي بنشاط الحركات الديمقراطية والعمالية المطالبة بالتغيير. سأتناول الـتأثيرالذي تركته الماركسية على حركة نشاط الإنسان وسعيه من اجل تحقيق أحلامه في الحرية والعدل والمساواة في ثلاثة محاور.
المحور الأول: أثر الماركسية على تطور الفكر الإنساني.
المحور الثاني: المارشكسية وتجربة البناء الإشتراكي.
المحور الثالث: معوقات تطور الماركسية.
المحور الأول: أثر الماركسية على تطور الفكر الإنساني
لماذا نحتفي بالماركسية بعد مائتي عام؟
يرى كثرة من الباحثين، ان ذلك يعود إلى سببين، الاول منهما، راهنية أفكار ماركس، وثانيهما، علاقة الماركسية بالتجارب الاشتراكية المنهارة. لقد أكد أهمية الماركسية في الظروف المعاصرة، ليس المنتمون للفكر الماركسي فقد، بل حتى المفكرين الليبراليين، فعلى سبيل المثال في عام 1969، بعد اكثر من مئة عام على صدور البيان الشيوعي، قال السير جون هكز، الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد: إنه لأمر استثنائي حقا لم يطرأ أي جديد، إلا ما ندر، رغم مرور مائة عام. وعن أهمية ما اضافه ماركس لدارسي التاريخ، يقول المؤرخ، أيرنت غلنر: إن مناقشة جادة للتاريخ البشري تعود إلى ماركس، وهي بدأت من حيث بدأ.
ماهي الماركسية؟ هل هي نظرية كاملة؟ هل هي عقيدة؟ هل هي إيديولوجية؟ هل هي أصولية؟
قال ماركس ، قال إنجلز، قال لينين، بليخانوف، تروتسكي، كاوتسكي، غرامشي، قال ماوتسي تونج.. قال بريجنيف؟ هل هي كتابات ماركس وأنجلز، أو كتابات لينين او ستالين، هل هي تقارير مؤتمرات الاحزاب الشيوعية والعمالية؟ هل هي الاشتراكية التي أقيمت في الاتحاد السوفييتي وبعض بلدان أوروبا الشرقية؟
الماركسية هي منظومة أفكار فلسفية واقتصادية واجتماعية وسياسية تشكل نسيجا واحدا لتكون منهجا فكريا للتعرف على العالم. وفي مجال البحث العلمي يمكن اعتبارها طريقة التفكير / لتحليل الظواهر، تعتمد المنهج الديالكتيكي/ الجدلي لفهم الواقع كما هو بهدف تغييره للاستجابة لحاجات الإنسان.
ورأت الماركسية أن تغيير الواقع يتطلب شيئين، أولهما توفير أدوات معرفية والثاني فعالية بشرية، بمعنى أن المعرفة لا تكون تغييرية إلا إذا ارتبطت بالحركة السياسية للإنسان.
أدى تطبيق منهجية التفكير الماركسية، في دراسة الطبيعة والمجتمع إلى ظهور قواعد فكرية منطقية، أدت إلى تحولها، أي طريقة التفكير، إلى منهج أطلق عليه المنهج الماركسي لتحليل الظواهر المختلفة. إذن الماركسية هي منهج كبقية المناهج ولكنه يختلف عن المناهج الأخرى بكونه منهجاً جدلياً تاريخياً له سمات عديدة من أهمها:
1ـ دراسة الظاهرة بالاعتماد على الواقع الاجتماعي، كما هو، ومصالح الطبقات والفئات الاجتماعية وصراعها من أجل مصالحها الخاصة.
2ـ تناول الظاهرة بارتباطها مع الظواهر المجتمعية الأخرى والتأثير المتبادل بينها.
3ـ دراسة الظاهرة بكونها معطى تاريخيا متغيرا، يرتبط بالزمان والمكان والمعارف المتوفرة.
4ـ دراسة الظواهرالاجتماعية باعتبارها تحمل جانبين، مترابطين ومتصارعين بنفس الوقت، الجانب الاول قديم والجانب الثاني يتكون عن عناصر جديدة، الأول يعمل للحفاظ على وجوده، والثاني يعمل لتغيير القديم والحلول محله، وبهذه الطريقة تختفي ظواهر وتنشأ ظواهر جديدة محلها.
المنهج الماركسي لم يولد فجأة على يد ماركس وإنجلز، بل هو نتيجة تطور المعرفة والفكر الإنساني، لذلك فهو ليس منهجا مكتملاً ثابتا، خارج حدود الزمان والمكان، بل يتطور تبعا لتطور الظروف المختلفة ويمكن أن يعطي نتائج مختلفة تختلف عن النتائج التي توصل إليها المؤسسون له.
نتجت عن تطبيق المنهج الماركسي في الحياة الاجتماعية، نظريات عديدة، نظرية فائض القيمة، نظرية الدولة، نظرية الثورة، نظرية الصراع الطبقي، دكتاتورية البروليتاريا، البناء الفوقي والبناء التحتي وغيرها.
في مجرى التطور الاجتماعي وتطور المعرفة البشرية، فأن تطبيق المنهج الماركسي يؤدي إلى ظهور نظريات جديدة ربما تكمل أو تنفي النظريات التي انتجها ومنها التي أشرت لها، ولكن اهماله في تحليل الظواهر التي رافقت تطور الدول الإشتراكية على سبيل المثال، أدت إلى نتائج كارثية ليس على تطور الدول الاشتراكية، بل حتى على الاحزاب والحركات الاجتماعية التي تبنت هذا المنهج، كما نتحدث عن ذلك في المحور الثالث.
المحور الاول: أثر الماركسية على تطور الفكر الإنساني
سأتطرق في هذا المجال إلى قضية لها علاقة مباشرة بارتقاء الإنسان، وهي قضية الاغتراب التي عاشها الإنسان على مر تاريخ البشرية، مركزاً على شكلين من الاغتراب، الاغتراب السياسي والاغتراب الاقتصادي. وكان للماركسية دور في توضيح أسباب الاغتراب وكيفية تجاوزه.
ففيما يخص الاغتراب السياسي، رأت الماركسية إن طريقة إدارة المجتمعات تطورت إلى ان وصلت إلى شكل الديمقراطية البرجوازية، وهي ديمقراطية ناقصة، لانها تمثل قلة من المجتمع وهي الطبقات المتنفذة اقتصاديا والمرتبطون بها من المفكرين والكتاب والإداريين والصحفيين وغيرهم. وبناء على ذلك فان الإنسان العادي كالطبقات الكادحة والفلاحين والفئات التي تعمل في الخدمات المختلفة ـ وهذه الفئات تشكل أغلبية المجتمع في كل الدول ـ مغيب عن إدارة الدولة، لانها بيد الطبقة البرجوزية والفئات المرتبطة بها اقتصاديأ وسياسياً.
لذلك أكد ماركس على تجاوز النقص السابق في الديمقراطية ولكي تكون الديمقراطية، معبرة عن إرادة الأغلبية، اقترح ماركس نظام الإدارة الذاتية التي تتم عن طريق "انتخاب موظفين ينتخبون على أساس الاقتراع العام؛ الغاء جميع السلطات المحلية التي تعينها الدولة".
أما ما يخص الاغتراب الاقتصادي، فقد رأى ماركس، إهمال الديمقراطية الليبرالية للجانب الاجتماعي، فعلى الرغم من تأكيده على أهمية الاعتراف القانوني بالحقوق السياسية وما تتضمنه من حريات فردية وسياسية، إلا ان ماركس يرى ان ذلك لا يكفي فلا بد من توفير الشروط الاجتماعية التي تمكن المواطنين من التمتع بالحقوق السياسية، لذلك ركز على نقد الطابع الطبقي للديمقراطية الذي اعتبره محور الصراع الذي رافق تطور مفهوم الديمقراطية من الناحية النظرية والممارسة العملية على مر التاريخ.
ونظرا للغموض الذي يلف موقف الماركسية من الديمقراطية، بعد الاخطاء التي ارتكبت خلال تطبيقها في البلدان الإشتراكية، نوجز أهم الاسهامات التي قدمتها الماركسية للفكر الديمقرطي:
1ـ بث الوعي السياسي عند الفئات الكادحة، حيث يعتبر الوعي أحد أهم العوامل التي تحفز نشاط الإنسان ويكسبه القدرة على تحليل الواقع وكيفية تجاوز سلبياته.
2ـ دعمت الماركسية الثورات الديمقراطية ودعت أنصارها إلى نصرة هذه الثورات والمساهمة الفعالة فيها. فقد ورد في البيان الشيوعي "يعمل الشيوعيون في كل مكان على الاتحاد والتفاهم بين الأحزاب الديمقراطية في جميع الأقطار".
3 ـ الدعوة إلى الأسلوب الديمقراطي "النضال السلمي" لتحقيق أهداف الثورة الديمقراطية. وقد جرت الإشارة إلى الأسلوب السلمي للنضال الثوري في كتابات ماركس وانجلز، كطريق للوصول الى السلطة السياسية عبر الاقتراع العام.
4ـ لعبت حركات الطبقة العاملة دوراً تحريضياً من خلال المشاركة في نضال المواطنين الهادف الى توسيع الحقوق الاجتماعية وممارسة الحقوق السياسية.
5ـ تنظيم الحركة الجماهيرية في منظمات سياسية، أحزاب، ، نقابات عمالية.
6ـ نقل النشاط الوطني للحركات العمالية إلى صعيد دولي عبر تأسيس المنظمات العمالية على الصعيد العالمي (تشكيل المنظمات الأممية للحركة العمالية والتي بدأت بالأممية الأولى 1864).
7 ـ وضع البرامج النظرية لتحقيق المساواة والعدالة الاجتماعية، تضمن البيان الشيوعي الذي صدر في 1848، العديد من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية التي تسعي الطبقة العاملة لتحقيقها، منها على سبيل المثال:
ـ نزع الملكية العقارية وتخصيص الريع العقاري لتغطية نفقات الدولة.
ـ فرض ضرائب متصاعدة.
ـ مركزة وسائل النقل كلها بيد الدولة.
ـ مركزة التسليف كله بيد الدولة.
ـ تكثير المصانع.
ـ توفير العمل وجعله إجباريا.
ـ جعل التربية عامة ومجانية لجميع الأطفال والجمع بين التربية والإنتاج المادي.
إن هذه الأهداف وغيرها لم يجر الترويج لها في الفترات اللاحقة، بسبب حدة الصراع الذي نشب بين تيارات الحركة العمالية وانشقاقها إلى تيارين رئيسين، بعد انتصار ثورة أكتوبر الاشتراكية العظمى، هما التيار الاشتراكي الديمقراطي والتيار البلشفي/ الشيوعي، حيث تمسك التيار الاشتراكي الديمقراطي بالأسلوب السلمي للسيطرة على السلطة بينما تبنى التيار الشيوعي، الطريق العنفي" الثورة المسلحة".
إن إسهام الماركسية في تطوير الفكر الديمقراطي، المتمثل بالربط بين الجانبين الديمقراطي السياسي والاجتماعي، حفز نشاط الملايين من البشر وأدى إلى توسع النشاط السياسي للمواطنين للضغط على السلطات الحاكمة لتحقيق العدالة الاجتماعية.
المحور الثاني: الماركسية وتجربة البناء الإشتراكي
أبدأ هذا المحور بسؤال عن العلاقة بين الماركسية والاشتراكية. أشرت في المحور الأول، إلى أن الهدف الأساسي للماركسية الكلاسيكية، هو انهاء اغتراب الإنسان بهدف خلق الشروط المناسبة للارتقاء بمستوى حياته.
اما الإشتراكية فأنها تهدف إلى بناء نظام اجتماعي يعمل على توفير بيئة يكون فيها الأفراد أحرارا في التعبير عن مصالحهم الحقيقية، حريتهم الإبداعية، ورغباتهم دون أن تعيقها أشكال السيطرة الاجتماعية التي تجبر الأفراد على العمل لصالح طبقة من المالكين الذين يصادرون فائض الإنتاج. بمعنى أن الاشتراكية لها سمات ثلاث مترابطة: ديمقراطية؛ مساواة ؛ السيطرة الاجتماعية على الجزء الأكبر من الاقتصاد.
إذا هناك علاقة وثيقة بين الماركسية والاشتراكية، حيث أن الأولى توضح كيفية الوصول إلى الإشتراكية والأسس العامة التي تقوم عليها.
قامت ثورة اكتوبر الإشتراكية في روسيا عام 1917، بأول محاولة في التاريخ لتطبيق الاشتراكية على أرض الواقع، وهذا دلت عليه كثرة من الوقائع الفعلية منها:
أولا، العمل على ازالة النواقص التي رافقت تطبيق الديمقراطية في البلدان الرأسمالية، حيث عملت السلطة على تشكيل برلمان جديد: سوفيتات العمال والفلاحين الذين كانوا يشكلون أغلبية السكان، فاصبحت الديمقراطية تمثل حكم الأغلبية، بشكل فعلي، بعد ان كانت تمثل رأي الأقلية "الفئات المتنفذة اقتصاديا والمتعاونين معهم". ومن أجل التسريع بعملية بناء المجتمع والاقتصاد الوطني الذي دمرته الحروب الخارجية والداخلية، جمعت السلطتان التنفيذية والتشريعية بمجلس السوفيتات.
ثانيا، أصدرت السلطة الاشتراكية مرسوم السلام، الذي اوقف اشتراك روسيا في الحرب العالمية الأولى.
ثالثا، أصدرت السلطة الجديدة مرسوم الأرض الذي انهى سيطرة كبار الملاكين على الأراضي الزراعية، وتوزيعها على الفلاحين.
رابعاً، دعم نشاط نقابات العمال والفلاحين والنساء والشباب، وتوفير الظروف المناسبة لهذه المنظمات للمشاركة في إدارة الدولة واعادة بناء الاقتصاد الوطني.
خامسا، اتخاذ سياسة اقتصادية مرنة تقوم على سيطرة الدولة على المؤسسات الاقتصادية الرئيسية، الصناعية والتجارية، مع تشجيع القطاع الخاص والمختلط.
سادسا، حل القضايا القومية وفق حق تقرير المصير، المتمثل بالاختيار الحر بين حق الانفصال وتكوين دول مستقلة او الاتحاد مع روسيا. أدت هذه السياسة إلى استقلال فنلندا وتكوين الاتحاد السوفيتي الذي أصبح أكبر دولة متعددة القوميات في العالم. وقد أدى الاتحاد إلى تطوير عدد كبير من القوميات التي كانت تعاني من التخلف والاضطهاد القومي من قبل القومية الروسية.
سابعا، القضاء على النزعة الفاشية التي نشرت الدمار والخراب في أوروبا بعد اشعالها الحرب العالمية الثانية.
ثامناً، المساعدة في تخلص دول أوروبية عديدة من نظام الاستغلال الرأسمالي وتكوين المنظومة الاشتراكية.
تاسعاً، خلق نهضة علمية وتكنولوجية رائدة على الصعيد العالمي، توجت بغزو الفضاء الخارجي في أواخر خمسينيات القرن الماضي الأمر الذي عزز من سمعة ومكانة الدولة الإشتراكية على الصعيد العالمي.
عاشراً، أدت السياسة السابقة، إلى ان يكون الاتحاد السوفيتي القوة الثانية اقتصاديا على الصعيد العالمي، بعد أن كان دولة متخلفة عن باقي الدول الاوروبية. وأخيرا تمكن الاتحاد السوفيتي من خلق توازن عسكري استراتيجي بينه وبين الدول الرأسمالية مما قلل من مخاطر نشوب حروب عالمية جديدة.
وفي ختام هذا المحور لا بد من الإشارة إلى التأثيرات التي تركتها تجربة المنظومة الأشتراكية على الصعيد العالمي، وأجملها بنقطتين:
الأولى: تطور حركة التحرر الوطني ونشوء العشرات من الدول المستقلة نتيجة التأثير المعنوي للدول الاشتراكية والمساعدات المتعددة الأشكال التي قدمتها لحركات التحرر الوطني.
الثانية: التأثير الحاسم للنموذج على ظهور تيار سياسي جديد يعمل على التقليل من اغتراب الإنسان المتمثل بتيار الديمقراطية الاجتماعية، الذي حقق منجزات كبيرة منها:
1ـ تكوين دولة الرعاية الاجتماعية في عدد من بلدان شمال أوروبا التي عملت على تطوير اقتصاد السوق الاجتماعية ، بما يضمن آلية لاعادة توزيع الثروات الاجتماعية لتحقيق مستوى معقول من العدالة الاجتماعية. لقد تم ذلك تحت تأثير قوة الدفع التي خلقتها المنجزات الاجتماعية التي تحققت في ظل السلطة الاشتراكية.
2ـ تطوير الديمقراطية، بحيث أصبحت القرارات المهمة تتخذ بما يشبه الاجماع، بمعنى الحد من قدرة الأغلبية الحاكمة على الإنفراد باتخاذ القرارات المهمة التي تخص المواطنين على سبيل المثال نظام التقاعد، نظام التأمين الصحي والاجتماعي، العلاقات الدولية، كالانضمام للتحالفات العسكرية والاقتصادية الدولية أوالخروج منها والتي يجب أن تتم عن طريق الاستفتاءات الشعبية، كما جرى خلال الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة أو حلف الأطلسي في حينها، منطقة اليورو، الخروج من الاتحاد الأوروبي . في الختام، أشير إلى أن انتهاء تأثير النموذج الاشتراكي، بعد إنهيار تجربة الاشتراكية مما فسح المجال لتيار الليبرالية الجديدة المحافظة في كثرة من البلدان للعمل بنشاط للحد من نظام الرعاية الاجتماعية من خلال أساليب عديدة، أهمها خصصة قطاع الخدمات في بعض الدول، كنظام التعليم والرعاية الصحية والضمان ضد البطالة.