طريق الشعب
عندما جاءت مارغريت تاتشر الى الحكم في بريطانيا في 1979، بدأت على الفور في تفكيك دولة الرفاه والهجوم على النقابات العمالية وتطبيق أحد أول وأعنف برامج الليبرالية الجديدة في العالم حينذاك. وإثر دحرها الحركة العمالية بعد إضراب المناجم في 1984، ورغم أنها أُقيلَت غداة نجاح تظاهرات مناهضة الضريبة الموحدة التي حاولت فرضها ، كان يبدو بالفعل أن مقولتها “لا بديل للسوق الرأسمالية" قد اصبحت مهيمنة. وجاء انهيار الاتحاد السوفييتي ليدشن مزيدًا من تراجع اليسار بمعناه الواسع.
كان حزب العمال تاريخيًا يتبنى سياسات تدافع عن دولة الرفاه وعن مجانية الخدمات الأساسية من تعليم وصحة وملكية الدولة لوسائل النقل والطاقة. ولكن هجمة تاتشر في الثمانينيات وانهيار الاتحاد السوفييتي في بداية التسعينيات فتحا الطريق لسيطرة جناح يميني في حزب العمال بقيادة توني بلير، الذي حوَّل الحزب نحو تبني نفس سياسات تاتشر اليمينية. وأصبح حزب العمال تحت قيادة بلير حزبًا نيوليبراليًا بكل معنى الكلمة؛ ينافس المحافظين في طرح السياسات اليمينية. وفي سياق هذا التاريخ فإن صعود جيرمي كوربن، أحد أقطاب أقصى اليسار لقيادة هذا الحزب هو حدث مهم، ليس فقط لليسار البريطاني وإنما لليسار عالميًا.
جيرمي كوربن ليس ثوريًا، وبرنامجه لا يدعو الى الإطاحة بالرأسمالية سواء بطرق برلمانية أو ثورية. لكن، في سياق هيمنة الليبرالية الجديدة منذ عقود حتى في قيادة حزبه، أحدث ما يطرحه برنامجه زلزالًا في الساحة السياسية والاجتماعية البريطانية. فحزب العمال تحت قيادة كوربن يدعو مثلًا الى إعادة تأميم السكك الحديدية وشركات الطاقة والمياه، ويدعوا الى المجانية الكاملة للتعليم في كل مراحله، ومضاعفة الخدمات الصحية المجانية، والتوسع في الحضانات الحكومية المجانية. وكما يدعو الى تمويل ذلك بزيادة الضرائب على الدخل الى الخمسة في المائة الأغنى من السكان، ورفع الضرائب على الشركات من 19 إلى 26 في المائة. وهذه السياسات تصيب الليبراليين الجدد بالهلع.
كان رد فعل اليمين المهيمن وقتها في حزب العمال هو أن هذه السياسات ستتسبَّب في هزيمة الحزب في الانتخابات، وأن كوربن وسياساته “غير قابل للانتخاب”. ولكن الحزب تحت قيادته فاجأ الجميع بحصوله على أكبر زيادة في الأصوات منذ عام 1945 .
و تحوُّل الوعي لدى قطّاع واسع من السكان في اتجاه معاكس للسياسات الاقتصادية السائدة منذ ثمانينيات القرن الماضي. والسبب الرئيس لهذا التحوُّل هو آثار الازمة المالية العالمية في 2008 وسنوات السياسات التقشفية. فهناك اليوم الملايين ، خاصة من الشباب مستعدين لتأييد برامج وأفكار يسارية جذرية (انضم نصف مليون شاب وشابة الى حزب العمال منذ تولى كوربن قيادته).
ولكن الوضع السياسي الحالي في بريطانيا غاية في التعقيد. فالغضب تجاه السياسات النيوليبرالية مثلما يدفع بالملايين الى النظر مجددًا لليسار فإنه يدفع بملايين آخرين نحو أقصى اليمين وتوجيه غضبهم نحو كبش فداء مثل اللاجئين أو الاجانب . فرغم أن الكثير ممن صوَّتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فعلوا ذلك لمعارضتهم السياسات التقشفية المرتبطة بذلك الاتحاد، فكثير منهم أيضًا فعل ذلك تحت تأثير الأفكار العنصرية والمعادية لللاجئين والمهاجرين.
من جانب آخر، يواجه جيرمي كوربن ومشروعه ثلاثة تحديات أساسية. التحدي الأول يتمثل في محاولات اليمين في حزب العمال الإطاحة به. وقد رأينا محاولات وصمه بمعاداة السامية بسبب مواقفه المؤيدة للفلسطينيين (يدعو برنامجه الى وقف تصدير السلاح الى إسرائيل)، و قبل ذلك الادعاء بأن وصوله الى الحكم سيعني انهيار الاقتصاد، وأنه متطرف، إلخ. لكنه حتى الآن تمكَّن من صد هذه الحملات بفضل ما له من تأييد شبابي واسع النطاق. ولكن ما مِن شك أن مثل هذه الحملات ستزداد شراسةً كلما اقترب من الحكم.
التحدي الثاني يتمثل في الضغوط التي سيتعرض لها في حالة فوزه بالانتخابات. فأجهزة الدولة الرأسمالية (بما فيها بالطبع الجيش والقضاء والشرطة والمخابرات) والشركات الكبرى ستفعل كل ما تستطيع لشله ولمنع تطبيقه إصلاحاته، ولإفشاله بكل الوسائل القانونية وغير القانونية. ولن يتمكن كوربن من الوقوف في وجه هؤلاء والمضي قدمًا في إصلاحاته إلا من خلال أوسع تعبئة ممكنة خارج البرلمان من إضرابات عمالية وتظاهرات جماهيرية، بل والتصعيد في إجراءاته المناهضة للرأسمالية.
فهل سيتمكن كوربن من ذلك أم سيضطر الى تقديم تنازلات؟
أما التحدي الثالث فهو العزلة العالمية التي سيواجهها، فحكومات أوروبا اليمينية لها مصلحة أكيدة في إفشاله لوقف انتقال عدوى الاشتراكية الى باقي القارة، وطبعًا الإدارة الأمريكية ستعاديه من اللحظة الأولى وستواجه سياساته الخارجية التقدمية بحصار اقتصادي ودبلوماسي. وهنا أيضًا سيواجه اختيارًا صعبًا: إما التراجع عن السياسات التقدمية والتقيد بالسياسات البريطانية التقليدية ، التي تراعي المواقف الأمريكية، أو المضي قدمًا والاعتماد على تعبئة التضامن الأممي المتعاطف مع سياساته.