في اوائل سبعينات القرن الماضي، زار التلفزيون بيتنا أول مرة، اتذكره، بلون الصاج، وبحجم متوسط اقل من 20 بوصة.. اشتراه أبي من محل "ابو محمود الكردي" بالتقسيط المريح جدا، بيتنا كان عبارة عن غرفتين وهول وثمة ساحة كبيرة مبلطة، وسطها "البالوعة" التي نديم تفريغها، عن طريق سيارات خاصة تزورنا كل شهر مرة... وفي زاوية منها نبتت شجرة رمان عملاقة، ترسل اشارات مجيء الربيع قبل حلوله، حينما تظهر الزنابق الحمراء.. وردات حمر تتحول فيما بعد الى ثمار الرمان.
وضعنا "التلفزيون" في الهول (كانت امي تسميه تلفزون وبقيت تسميه هكذا الى وقت متأخر) على كوميدون من الحديد.. كان يتخذه أبي "قاصة" يضع فيها راتبه الشهري، ويقفله ويضع المفتاح بخيط يربطه مع ساعة الجيب التي يديمها عبر " الزنبرك " فكانت ساعة أبي ومفتاحة والتلفزيون علامات الرفاهية الهائلة التي كانت تفرحنا. اسعدنا كثيرا الزائر الجديد بشاشته ـ الاسود والأبيض ـ كذلك استقطب الكثير من الاصدقاء، اصدقائي، واصدقاء أخوتي، نتجمع في الهول ونراقب شادية وهي تقدم شفتيها الشهيتين الى فم رشدي اباظة الذي نحسده على " بكلته " وقدرته على اسقاط النساء في حبائله... لكن هناك مشكلة كانت تشيع الحزن والالم في نفوسنا.. بعد ان يشتغل التلفزيون بساعة أو أكثر تبدأ الصورة بالحركة إلى الأعلى أو إلى الأسفل.. الأمر الذي يؤلم عيوننا ويصيبنا بالصداع، لكننا كنا نصر على متابعة ما يعرض بإصرار عجيب.. حتى مرعلينا احد المصلحين الذين جلبهم أبي.. أشار إلى اسطوانة بلاستيكية بيضاء بحجم الاصبع الصغير.. قال انها جهاز تنظيم الصورة.. حالما تبدأ الصورة بالحركة.. تحرك الاسطوانة الى اليمين او الى اليسار برفق حتى تثبت الصورة.. وفعلا نجح الأمر في البداية وتولى اخي "رزاق" ـ الذي اخذته حرب الثمانية أعوام بعيدا بعد اندلاعها بعامين ـ القيام بتحريك الاسطوانة، ارتاحت عيوننا وزاد فرحنا لفترة، لكن ولأن الاسطوانة كانت رقيقة "انكسرت تحت اصابع رزاق وبدأت الصورة تتحرك مرة اخرى.. لكننا اكتشفنا امرا، انه بمجرد ان يضع احدنا اصبعه على المكان المكسور تتوقف الصورة، وتتحرك حالما يرفع اصبعه منها، ووضعنا كرسي قرب التلفزيون ويجلس احدنا عليه ويبقي اصبعه على المكان لحين انتهاء السهرة، ولأن الامر متعب، فقد كنا نتناوب الجلوس على الكرسي لحراسة الصورة وإيقافها عن طريق الاصبع.. الى اليوم الذي كان فيه دور "رزاق" وكانت مسلسلة "كابتن سبوك" تلك السفينة الفضائية التي كنا نتابع ما يجري فيها بشغف.. مد رزاق اصبعة على الزر ولم تتوقف الصورة.. الح كثيرا.. ولم تتوقف الصورة.. رفع رزاق التلفزيون بحظنه وهو غاضب ويريد ان يرميه على الارض، هرعنا كلنا واوقفناه... واعدنا تشغيل التلفزيون.. الذي توقف عن الحركة.. وبدأنا نرى الصورة بانتظام.... لكنها كانت صورة واحدة لمجموعة من فتية صغار يتطلعون الى الشاشة وهم يترقبون ما يجري فيها... بقيت الشاشة تحمل صورهم الى يومنا هذا.... رحل "رزاق" وأبي وأمي واصدقاء كثر كانوا معنا ساهمين ويحملون حزن العالم...... تحية "للتلفزون" الذي كان يجمعنا، كما كانت امي تنطقها واللعنة على الحرب التي فرقتنا.

عرض مقالات: