الدارمي فن من فنون الشعر العامي (الشعبي) والاسم مأخوذ من (دارم) التي هي بطن من قبيلة (تَميم)، ويكاد الباحثون يتفقون على سبب التسمية هذه، وهو أمر له ما يناظره في أدبنا العربي، فالشعر العذري سُمي بهذا الاسم نسبة الى قبيلة (عذرة)، لشيوعه في هذه القبيلة، وقد رجَّح الناقد ريسان الخزعلي سبب تسميته بـ(الدارمي) نسبة الى قبيلة دارم، وكذلك ذهبَ كل من الاستاذ ربيع الشمري والاستاذ السيد ماجد شبر هذا المذهب في سبب التسمية، ولكن الاستاذ الخزعلي طرح رأياً آخر في سبب التسمية بقوله: " انه جاءَ من (الدردّمة)، وهي الحالة الصوتية التعبيرية، عندما يضيق الانسان ذرعاً من حالات الانفعال، وبذلك يكون انفعالي (دَرَميّ)، وتحول بالتدريج الى (دارمي) كما هي العادة الجارية في الابدال بين أحرف الكلمات، وخاصة في الريف " ص14، وهذا الرأي بعيد عما تتعامل به اللغة في قواعد النسب، لأن النسب الى (الدردمة) (دردَميّ)،وكذلك لا إبدال في اللفظة.

أما الوزن الذي ينظم عليه هذا اللون من الشعر فهو: (مستفعلن فعلان مستفعلاتن)، ويجوز استبدال (فاعلاتن) بـ (مستفعلن)، وقد أشار الى الخلط بين التفعيلتين الاستاذ ربيع الشمري بقوله: " والسبب هو تشابه موسيقى الأجزاء قليلاً لدى الذين تعوزهم الأذن الموسيقية، وعدم التمييز بين (مستفعلن وفاعلاتن) ص100، وما أشار اليه الشمري واقعي وسليم في التشابه، وأرى أن هذا الخلط بين التفعيلتين لا يدل على قصور في الأذن الموسيقية، ولكنّ الأذن العربية تتقبل هذا الاختلاف، ومن ذلك:

جثر عذاب الروح آنه أرضه يهواي

بالحشر بلجي ايطول موكافك إوْياي

فالبيت الثاني (بالحشر...) جاءَت (فاعلاتن) بينما البيت الأول (جثر...) جاءَت (مستفعلن)، وقد نجد هذا الخلط بين التفعيلتين عند كبار المبدعين، كالحاج زاير حين يقول في واحد من موالاته:

(والورد قدم لوايح واشتكى وادعه)، فقد ابتدأ بـ(فاعلاتن) بينما جاءَت (مستفعلن) في كل  ابيات الموال، وكذلك فعل الكبير مظفر النواب في رائعته (للريل وحمد) التي وزنها يدور في فلك البحر البسيط – على حدّ تعبير الاستاذ ريسان الخزعلي، ولكن النواب في مقطع من مقاطع القصيدة، ينتقل من (مستفعلن) الى (فاعلاتن) في قوله: " جَن حمد فضّة عرس"، فهل نستطيع أن ندّعي أن الحاج زاير والنواب تعوزهما الأذنُ الموسيقية؟!

أما الأغراض التي طرقها الدارمي، فلا يمكن حصرها في غرض واحدٍ، ولذلك أرى أن اطلاق (غزل البنات) على هذا النوع من الشعر، يفتقر الى الدقة، فكثيرٌ مما قيل منه من قبل النساء يتناول هموم المرأة وأحزانها وتعبها، وما تعانيه من ظلم اجتماعي، كقول احداهن:

مَتحزمه بحزامين كل لَطمي ويلي

أطبك نهاري إوياه من يكضي ليلي

فلا غزل في هذا الدارمي بل فيه شكوى من معاناة تعانيها المرأة لِكثرة ما تلاقي من الأعمال المرهقة، وثمة أمر آخر يؤيد ما ذهبت اليه في عدم دقة تسمية هذا الفن بـ(غزل البنات)، وهو أن كثيراً من الدارمي كتب من قبل رجالٍ لا نساءٍ. مثل:

زِرْ زيجك اعله الثوب يسمر ولك عيب

صاير دلع ممشاك مستحجر الشيب

فليس من شك أن القائل رجل لا امرأة، والشواهد على ذلك كثيرة.

بقي أن أشير الى القيمة الفنية لهذا النوع من الأدب، وهل هو جدير بهذه المنزلة التي يحتلها في الانتشار، حتى غدا أدباً جماهيرياً يميل اليه الناس بمختلف أجناسهم وثقافاتهم، فيتغنون به، فالباحث لا يعدم العثور على نماذج من الدارمي تشير بوضوح الى أن قائلها مطلع على عيون الادب العربي فيأخذ معنىً من الفصيح ثم يصوغه ويولد منه، كقول أحدهم:

الأرض كلهه أرواح خفف مشيتك

حتى على الميتين عمت خطيتك

فهذا المعنى مولد من قول المعري:

خفف الوطءَ ما أظنّ أديم الأرض إلا من هذه الأجسادِ

وقول الآخر:

الگلب مثل الجام كسراته كسرات

يجذب الكلمن كال ترهمله جبرات

وهذا مأخوذ من قول المعري أيضاً:

تحطمنا الايام حتى كأننا

زجاج ولكنْ لا يعاد له سَبْكُ

وأرى أن الدارمي اكثر توفيقاً من قول المعري، وذلك بسبب لفظة (الگلب) التي لها وقعها في اثارة المشاعر لأنها هي – كما يُعتقَد- مركز الانفعال العاطفي، فهي لفظة موحيةٌ اكثر من كافة اعضاء الجسم، كما هو الحال عند المعري، ولاشك ان اللفظة الموحية يختص بها الشعر، ولذلك قال الدكتور محمد فتوح احمد في كتابه (شعر المتنبي قراءة أخرى): " اللغة في القصيدة منبع إثارة وتحريك لأدق المشاعر والانفعالات " أي أن اللغة " ذات وظيفةٍ ايحائية تتخطى حدود التصريح والتقرير والتسمية " ص5، وبما أنّ التكثيف والاختزال من أهم ما يتسم به الدارمي، كما عبر فأحسن التعبير الاستاذ ريسان الخزعلي بقوله: " إنَّ الطاقة التعبيرية المكتنزة في شعر الدارمي موجهة شعرياً باتجاه التركيز والايصال السريع وبما يختزل الكثير من التفاصيل " ص16، فلنستعن بمثال تطبيقي مأخوذ من كتاب السيد شبر ص150:

ولما تلاقينا على سفح واحة

وجدتُ بنان العامرية أحمرا

فقلتُ خضبتِ الكف بعد فراقنا

فقالت معاذ الله ذلك ما جرى

ولكنني لما استقل بي النوى

 بكيتُ دماً حتى بللتُ به الثرى

مسحت بأطراف البنان مدامعي

فصارت خضاباً بالأكف كما ترى

لاحظ الاختزال والتكثيف والايحاء، لكل ما قيل في الابيات السابقة، كيف جاء به الدارمي:

كلت الهه تتحنين بجفاج اليه

كالت مسحت العين واثر بديه

ختاماً إن الاهتمام بهذا اللون من الأدب فيه فوائد جمة، فهو يحفظ لنا تراثاً شعبياً، قد تحتاجه الأجيال القادمة خصوصاً في الدراسات الأدبية والاجتماعية، ولذلك من الضروري أن يشرح الباحثون الالفاظ العامية متوخين الدقة في ما يفسرون، لأني وجدت تفسيراً خاطئاً في اللفظ والمعنى لبعض الالفاظ، كتفسير السيد شبر لقول النواب: " يا ريل جيم حزن أهل الهوى امجيمين.

فهو يقول: " تستعمل هذه الكلمة – جَيّمْ- فيالعراق على الآلة التي يعلوها الصدأ ولم تعد تعمل " ص20، فهو قرأها جيماً بنقطة واحدة وهي جيم سومرية فارسية بثلاث نقاط وَ (چيّم) فعل أمر لاشعال حطب التنور، وهو المعنى الذي قصده النواب، والاسم منه (چيمة)، وهذه اللفظة شائعة في أرياف الجنوب العراقي، وكذلك أخطأ السيد شبر في تفسير (إشليله)، في قول النواب:

" مدكك ابماي الشذر ومشله اشليله "، فقد فسر (اشليله) بـ(الشليله) التي هي الخيوط الملفوفة بترتيب والنواب يقصد طرف الثوب (الدشداشة) وهي لفظة معروفة في اللهجة العامية، وكذلك فسّر:

"تو العيون امتلن... " فالسيد شبر يكتبها (تون العيون) والتون – كما يرى – هو الوعاء الذي يمتلئُ بالدمع، وقد فاته أن (تَو) العامية هي بمعنى (الآن) وهي مأخوذة من الفصحى، ولكن الفصحى تنونها (تواً) والعامية تركت التنوين، وربما مصدر هذه الاخطاء هو أن السيد شبر من عائلة كريمة وهي عائلة مدنية لا ريفية، ولعلَّ الاستاذ الخزعلي هو القادر على التفسير لجذوره الريفية، وكم تمنيت لو أن الخزعلي، فسر وشرح ما غمض من العامية في منجزه الرائع (الهايكو السومري) الذي حفظ لنا (715) دارمياً ستكون مرجعاً ومصدراً للاجيال القادمة.

ــــــــــــــــــــ

- ربيع الشمري، عروض الشعر الشعبي.

- ماجد شبر، الشعر الشعبي العراقي.