ليس كامل شياع فردًا كبقية الناس، بل هو مؤسسة ثقافية لها مشروعها الذي اعتمدت عليه منذ ان حل في بروكسل، وكنت على اطلاع على هذا المشروع الذي اختص بالترجمة والتأليف لتيارات الحداثة الفلسفية والأدبية، ويوم اشتركنا معًا في ثقافة 11 في بلجيكا كان يُطعم مشروعها باقتراحات من هذه المناهل، وحققنا بعضه في استقدام الدكتور نصر حامد ابو زيد لأكثر من محاضرة، والدكتور صادق جلال العظم في ندوتين والدكتور فالح عبد الجبار، إضافة إلى ندوات في الشعر والتشكيل والثقافة، كل ذلك كان جزءا من مشروع ثقافي رعاه كامل شياع واسس له. هذه الطاقة التي غُدر بها، حين حط رحاله في وطنه بعد غياب، أملا في أن يواصل مشروعه التحديثي للثقافة وللمثقف،وقد أسهم بشكل مباشر في تأسيس مشروع للثقافة الوطنية أعلنت أولياته في مؤتمر للمثقفين العراقيين، وفي آخر لقاء لي في بيته كان يستشعر الخطر، ويردد القول انا شخصيا ليست لي أية عداوة مع أحد، ولكنك كمثقف قالها أحد الأصدقاء ستكون في عين المشهد، ولم يخطر ببالنا جميعا أن تغتاله يد قذرة ملطخة بسواد جهنم وعفونه الثقافة التي يؤمن بها، تغتاله وهو في بداية تأكيد ذاته من خلال تأكيد مشروعه. غادرنا بعد أن امتدت يد الجبن لتقتله بكاتم صوت، هذا الكيان المعرفي الذي تزداد فجاعة  ذكرى اغتياله كلما مرت عليها السنون، مناضل لم يسع لجمع المال والعقار والوظائف وحسابات في بنوك، لأن زاد رحلته في الحياة مؤونة فكرية تكفي رفاقه لأن يتزودوا بها، ما تركه كامل شياع من إرث هو ذلك الموقف الوطني الذي جسده باختياراته لحلقاته الفكرية، وبرامجه للنهوض بالثقافة الوطنية، هو مشروع  لو انتبه إليه  المعنيون لأنقذوا الثقافة من ترهلها وهامشيتها، وفكرتة لو طبقت لكانت مسارًا لغيرها، ومقترحًا في مجال لو عمم لاستزاد سعة، ما تركه كامل شياع  من إرث كان أمثولة المناضل: عمل دؤوب، وصوت واضح في الحق، وحوار جدلي مقنع، ورغبة حقيقية في المشاركة بالتنوير. وألق صاف عندما يلتقي بمهاجر عائد الى وطنه، وصديق زائر لمكتبه، ورفيق يقضي معه دورة اجتماع أو جلسة حوار، وهناك الكثير الذي يعاد تداوله، منذ ان اشتركنا في حلقات حوار في لاهاي وبروكسل وبرلين ولندن، فحقيبته الفكرية لم تفتح بعد، وكأن القتلة يعرفون ماذا تحتوي وما هي مشروعاتها. فأصدقاؤه يحملون في ذاكراتهم تصوراته عن الكيفية التي يخطط فيها للثقافة، بعضها خاص يتعلق بالعلاقة الثنائية مع الآخرين، وهو مدار أحاديث يومية ، والبعض الآخر عام يتعلق بشؤون الوطن والمستقبل والحداثة والفلسفة.

المجرمون الذين تتبعوا خطواته، وهو يغادر شارع المتنبي، يعرفون من هو كامل شياع، وما هي المهمات التي عاد من أجل تنفيذها، ويعرفون لمن ينتمي وما هي خططه التنويرية للثقافة العراقية، ويعرفون قيمته إذا ما استمر يدور بين حلقات الثقافة والمثقفين، وقبل ان يقدموا على اغتياله  في الشارع، تحسسوا مسدساتهم كاتمة الصوت أكثر من مرة، كانوا جبناء بدون هذه المسدسات، لا حوارا فكريا يواجهونه به، ولا نقاشا يستطيعون أن يطروحوا وجهات نظرهم، ربما أن المسدسات لا تعمل، وربما أنهم سيخافون عندما ينظرون في عينيه ، ولكنهم كأي مجرمين يعرفون أنهم سقتلون راية ثقافية  كبيرة، راية لا تزال حية ، ليس على مزارات قبره، بل على كل محطة وضع فيها قدميه. فما تركه يفوق كلماتنا.

اليوم، وأنا اتتبع عدد الضحايا الشباب على يد قوات ومليشيات أحزاب السلطة، تذكرت كامل شياع، هؤلاء الذين غدر بهم ستجدون كامل شياع في انتظاركم على باب الخلود، انتم أجزاء من ضمائر يشع نورها طريق شهداء الحزب الشيوعي والحركة الوطنية، لن ينساكم أحد، مازالت صحائفنا مليئة بتواريخ اعدام وغدر نفذها الفاشيون منذ عام 63 حتى اليوم، نم في قرة عيوننا وذاكرتنا ايها المثقف- كامل شياع -  الاستثنائي الكبير.

عرض مقالات: