اعتاد القارئ المحلي وربما العربي على استقباله السرديات العراقية ضمن تقنيات مختلفة، بدءا من الواقعية بتعدد مناهجها وصولا الى الرواية داخل الرواية وللمتواليات القصصية. والروائي حر في الكتابة الا ان الاهم في استقبالات المتلقي هو ان تكون هناك شخصية سردية تتحرك خارج سيرة الكاتب وخصوصياته الحياتية.
ربما تكون رواية السارد عبد الكريم العبيدي "كم اكره القرن العشرين، معلقة البلوشي" مع سواها من الكتابة السردية للروائيين العراقيين تمثل فعلا مكانيا قادرا على انتاج سرديات مختلفة، فكما للمكان تأثير في اقامة تشكيلاته الاجتماعية كذلك له تأثير كبير في اقامة الثقافة عامة والسرد خاصة.
في "معلقة البلوشي" لا يذهب السارد الى المكان، البصرة وأحوازها وشوارعها وحاناتها بل ذهب الى تشكيلة اجتماعية، أقلية سكانية، تشكل مجتمعا مصغرا له عاداته وتقاليده وعلاقاته، بل وله لغته الخاصة به، وضمن فترة عصيبة، فترة الحرب العراقية الايرانية وتصاعد محاولات الغاء الآخر بحجة الحفاظ على الوطن. كما ذهب الروائي الى مغامرة الاستفادة من لغة غير رسمية محاصرة، لغة غير متداولة ومستهدفة ومحصورة بين افراد وجماعات ينتمون الى عرق قومي واحد. إذاً هناك اكثر من مغامرة.
المتابع لـ عبد الكريم العبيدي في المعلقة التي تبناها كتابة وابداعا ومغامرة يلاحظ بان الكاتب يضع القارئ منذ اول صفحات الكتابة لا في قفص الكتابة بل في فضاء مفتوح. يوفر للقارئ نوعا من المشاركة عبر صناعة شخصيات تنتمي مرجعيتها الى القارئ فقط، ولكنها تابعة لما استطاع الكاتب ان يوفر للفعل الكتابي من المديات المنفتحة على تاريخ شخصيات وعوائل واقوام اخرى.


الفعل الروائي الذي بين يدي القارئ لا يمكن ان يكتبه سوى الملك الضليل عبد الكريم العبيدي. هنا تتوضح خصوصية المنجز الابداعي الذي استطاع الكاتب ان ينجزه بمعزل عن الكتابات الروائية الاخرى، فالكتابة عن واحدة من فترات الحرب قد لا تشكل وحدها فعلا مؤثراً. السارد هنا يدخل مغامرة الكتابة عبر اناس غير معنيين بالسلطة ومشاريعها والحرب واحتياجاتها ولم يدخل مغامرة التدجين كما يفعل الكثيرون من الكتاب اذ يتحولون الى قادة اصلاح بل الى مصلحين اجتماعيين. لم يكن الكاتب رغم التزاماته الذاتية فكريا وثقافيا واجتماعيا لم يكن يمثل سلطة تحويل الهاربين، الفرارية من الجيش الى جنود مقاتلين.
ما زال عبد الكريم العبيدي في كتاباته مستندا إلى وعي وفكر ومقدرة يتمكن من خلال منظومة كهذه معرفية اجتماعية وثقافية ان يشيد بنية الكره والاعلان عن قباحة القرن العشرين وما يعود اليه من ممتلكات، سلطات وخزائن، حروب وتدمير وحرائق. فهذا القرن كان وما زال مستودعا للمئات من الحروب الداخلية والاقليمية والدولية المعتمدة على الغاء الآخر عبر حس عنصري متطرف اضافة الى الصراعات والحروب الطبقية والاقتصادية. القرن العشرون قرن الفتوحات والغزوات والاجتياحات التي تعتمد القوة والبطش. كان قرنا منتجا للملايين من القتلى، كان منتجا للحرائق والسجون والمعتقلات والتهجير والالغاء واذا ما كانت كل هذه العنوانات تشكل الوجه القبيح للقرن العشرين.
الكتابة كفعل ابداعي كمنتج جمالي للحياة، معلقة البلوشي مثالا وسيرة حياة الدكتورة "ميّا" وشقيقها وقدرات الملك الضليل وجماعته ممن يشتغل في حقول الجمال والابداع والاختلاف من كتاب وفنانين وصناع ثقافة، ومخيلات السرد والنص والشعر وتعدد المشاريع المنتمية الى الفعل الانساني، كل هذا والكثير سواه يمثل الجانب الآخر المضيء من حياة القرن العشرين الجانب الجميل المتجدد الذي لا تسعى العسكرتارية الى ان تتبناه، أو ان تتخذه علامة من علاماتها.
هل كان التعالق النصي الواقع بين الكيس الملغوم والهذيانات والاستذكارات وما كتبه شقيق ميّا كنزيل مستشفى والذي كان تحت عنوان "ليالي روتردام" والنص الذي كتبه عبد الكريم العبيدي تحت عنوان "كم اكره القرن العشرين- معلقة البلوشي" ام ان الكاتب قد اجهد نفسه كثيرا في الاثنين "المسودة، الحقيبة الصغيرة" وملحقاتها المعلقة، ام ان لعبة الكتابة كانت من السعة والعمق بحيث استطاعت ان تتبع للكاتب الكثير من الصناعة السردية التي تعتمد المخليلة الخصبة.
استطاع العبيدي وعبر روايته "كم اكره القرن العشرين- معلقة البلوشي" ان يشكل اكثر من فعل متواز مع الحياة رغم التناقضات، بدءا من العنوان والتنويه حول واقعية او عدم واقعيته، والاهداء واللقاء. لقد مهّد للكثير من الاقتراحات المختلفة ليتمكن بالتالي من الكتابة بما يوازي الواقع واللاواقع والرؤية الابداعية من كتابة فعل ينتمي ولا ينتمي الى طرفي المعادلة، هذا الانتماء لا يمكن ان يتشكل وفق حالة اعتباطية، بل ان التخطيط والبحث وتجاوز السائد هو ما يمكن ان يكون الجهة الرئيسة لانتاج الابداع.
عبد الكريم العبيدي لم يتحول الى ناقل اوراق او سامع للكاسيتات، ولم يتحول الى متابع للطبيب النفسي متخليا عن المتوقع، بل عمل كل ما في وسعه ليأخذ من كل حقل ما يوثق فعله الابداعي من غير ان يكون وثيقة تاريخية وان يأخذ من المتخيل ما يجنب الكتابة الانتماء الى المرآة.
ان ثقافة اللغة وما يتبعها من امثال وحكم واقوال لا يمكن ان تتوفر للجميع، فالانتماء المكاني للروائي العبيدي بصريا، جغرافياً منحه حالة من الالمام بطرق الحياة وما يتميز به انسان هذه الجغرافية او الديانة او القومية او الثقافة او المذهب من سلوكيات وطروحات ومفروزات، فإحاطة الكاتب، كاتب ما بأمور حياتية لاقوام ما لا تشكل أفعالا مشاعة بل انها من الامور الصعبة الانقياد لغير الكاتب النبه الحاذق الذكي، ولكل من القارئ والكاتب، الا ان المغامرة هي التي تفرض احكامها وسلطتها على مجريات امور الكتابة.
المغامرة الكتابية لا تطلع من الفراغ بل ان تربتها الخصبة تتحدد بوجود الثقة بإمكانات الكاتب، بما يجوز عليه من استعدادات. البعض من الكتاب تتحول المغامرة بين يديه الى كائن من غير قدرة على الوصول الى المدينة او الصحراء او البحر او الغابة، ليجد نفسه واقفا عند نقطة التيه والضياع. لقد جُبل الانسان المكتشف على صناعة المغامرة، اللا واقع على توفير البدائل للمفاصل الملغاة.
العبيدي كان يجهز استعداداته عند ارضية صلبة تعتمد التخطيط والقصدية من غير جاهزية كهذه يدخل الكاتب منطقة ومفهوم الانتحار والاندحار والخيبة.
لقد وجد الروائي عبد الكريم العبيدي كائنه السردي بمواجهة كم هائل من الخصوصيات التي تشكل اكثر من تاريخ لمجموعة بشرية، تنتمي الى الاقليات القومية ليدخل امتحان المغامرة امتحان الكتابة من بعض جوانب تاريخ منسي، غير معروف لسوى ابنائه. واذا ما تمكن الانسان العراقي من التعرف على عموميات البلوش فان خصوصياتهم لم تزل شبه مخفية، مدفونة حيث يكون الوصول اليها امرا غير مضمون الجانب، الا ان الوجود التاريخي والانتماء الجغرافي للكاتب حيث الجنوب، وحيث البصرة وحيث المناطق السكنية البعيدة عن العين، حيث الانسان من غير لغة ام من غير اعتراف الآخر بكينونتهم. تمكن الروائي من الاحاطة او اليسير من المعرفة لتتاح له وسائل الوصول الى تاريخ مطمور ربما.
ربما يشكل البلوش فئة، شريحة اجتماعية استثنائية كائنات معزولة بحكم انتمائها اللغوي والتاريخي والجغرافي، كائنات اتخذت من مدينة البصرة جغرافية وحيدة عراقياً. جغرافية مقتطعة من بلاد واسعة لم تعرف الحدود الادارية وتقسيماتها وليتمكنوا عبر المئات من السنين من ان يقيموا ما يشبه التجمعات السكانية، الكمبات من اجل الحفاظ على وحدة ربما تكون مستهدفة وعلى تشكيلات حياتية منها ما ينتمي الى البدائية من اجل توفير فعل الحماية الجسدية لمكوناتها البشرية.
الروائي عبد الكريم العبيدي عمل على توفير كائن كتابي ساعد تحت عنوان "حواش" وهو فعل ينتمي الى اجلاء الغموض عبر التفسير والسرديات والترجمة، فقد كان لمحلية الانماط دافع كبير لصناعة هذه التوجيهات قد لا تعني القارئ الاعتيادي ولكنها تشكل ما يمكن للمغامرة الكتابية ان تفعله من اجل الكشف عن المستور وتدمير الحصارات المضروبة على الاقليات، تلك التي تمثل مجموعة البلوش تشكيلة بشرية واضحة. وقد تكون هذه التوجيهات ضرورية للقارئ المتابع لتطورات الشأن السردي العراقي، ومتابعة المنجز الابداعي للروائي العراقي، ربما سيجد القارئ البصري الكثير من تاريخياته، الكثير من خصوصيات الجنوب عامة والبصرة خاصة متمثلة بشريحة اجتماعية ، اقلية، سيتابع القارئ البصري التغييرات والتحولات المخفية، تحولات الفرد والعائلة والمجتمع، وموقف السلطة الحاكمة وسلطة الحزب الواحد، وسلطة الحروب المقدسة من الواقع الاجتماعي والثقافي الذي بات يشكل اكثر من بؤرة تنتمي الى المعارضة.
عبد الكريم العبيدي عمل في "معلقة البلوشي" على استفزاز الواقع التاريخي للمجتمعات التي ما زالت تعاني من الفكر العسكري المستند إلى افكار المقدس، ممارسات وافكار وتوجهات. وان وجود الـ -انا- القامعة يعتمد على الغاء الآخر وتذويبه، هذه المعادلة لا تنتج افعالا مهادنة، بل ان تصاعد الصراع على المستوى الفردي والجماعي يكون هو الناتج الفعلي للتصادم، حيث يتشكل المتطرف والعدمي والفوضوي وعدم الانسياق او الاستجابة للطرف السلطوي.
من المؤكد ان الروائيين عامة وعبد الكريم العبيدي خاصة، لم يقولوا كل ما لديهم ولم يدونوا كل شيء، كل ما يعلمون به، ويعملون على اشاعته فلا بد من ترك ما ينتمي الى الخميرة من افكار وتصورات من اجل مخلوق سردي جديد.
ورغم مشاعية الاحداث زمنياً وجغرافياً واحداثاً فالحروب والالغاءات تكاد تشمل الجميع حتى صاحب مرجعية الحروب الى نظام او حزب او فكر او شخصية عسكرية.
الا ان الروائي في معلقة البلوشي يعمل على انتقاء الفعل ذي الخصوصية الذي يهدف الى الذهاب الى الاطراف بقدر اصراره على الاتجاه نحو قلب الحدث الى حيث الكائن البشري المستهدف حيث البؤرة الممولة للطاقة، الحراك القادر على تنمية فعل المعارضة قريبا او بعيدا عن التنظيم او عن الفوضى، لقد كانت خصوصية النسيج الاجتماعي البلوشي يشكل اكثر من صندوق اسود واكثر من محاولة الدفاع عن الذات، حيث يتصاعد التمرد والمواجهة او الانسحاب الى الداخل الى حيث التكتل البشري حيث من الممكن ان يمتلك الانسان شراسة الحيوان.
لا بد للقارئ ان يشعر بثقل مهمة السارد العراقي المبدع عامة، وبالحرج الذي وجد عبد الكريم العبيدي نفسه ضمن اتفاقية هولير في الكتابة عبر تحويل ما يمكن ان يسمى السيرة او الترجمة الحياتية لشريحة اجتماعية تعاني الاقصاء ومحاولة تحويل اللا كلام، اذا ما اعتبر القارئ تلك الهذيانات والوقائع والطلاسم نوعا من اللا كلام، الى فعل سردي يمثل سيرة جماعية لمجموعة بشرية تجاهد من اجل البقاء.

عرض مقالات: