يندرج كتاب "جدار بين ظلمتين" لرفعة الچادرچي وبلقيس شرارة تحت أدب السجون السياسي الذي يروي مذكرات سجينين أحدهما داخل الجدران، والثاني خارجه ولكن يضمهما معاً السجن الاشمل الذي يحتوي الشعب العراقي بأكمله. وينقسم الكتاب الى محاور او فصول متوازية ضمن صوتين متوازنين: صوت الزوج الذي يحكي الحدث من وجهة نظره وحسب ما عاناه من وطأة الاعتقال والحكم المؤبد الذي صدر بحقه، وصوت الزوجة التي تحكي الحدث نفسه من وجهة نظرها وحسب ردود افعالها الشعورية وردود افعال العالم المحيط بها.
ومن المؤكد إن هذا الكتاب يمثل صرخة احتجاج ضد كل أنظمة التعذيب والانتهاك والقهر والقمع بوجه عام، والقمع العراقي بوجه خاص حتى ولو على سبيل المقاربات الحديثة والتاريخية كما في موسوعة عبود الشالجي الشهيرة "موسوعة العذاب" بمجلداتها السبع التي تروي حكايات التعذيب البشعة التي مارسها سلاطين الظلم ووعاظهم الذين كانوا اسلافاً لأمثال صدام حسين. ولا عجب ان يأتي إهداء محمد حسين الاعرجي في كتابه "جهاز المخابرات في الحضارة الاسلامية" الى أرواح شهداء القمع: يعقوب النجار العامل العنيد الشهيد في أقبية التعذيب في مديرية أمن النجف 1961، ونزار حبيب الاعرجي شهيد انتفاضة معسكر الرشيد 1963، وفاضل صالح الاعرجي 1991 شهيد انتفاضة آذار 1991 وغيرهم من الذين لم تذهب تضحياتهم سدى.
وتأسيساً على ذلك، يشكل أدب السجون شكلاً من اشكال المقاومة التي هي تسجيل للقمع واحتجاج عليه. بتعريته والكشف عن آلياته ولوازمه، وذلك على نحو يمتزج معه التسجيل الذاتي بالتوثيق الموضوعي، ويكتسب السرد ملامح نوعية يتحول بها السارد الضحية الى شاهد على جلاديه وتتحول الكتابة الى فعل من افعال الادانة.
والآن، سنترك الحديث عن الكشوفات والمعطيات الخاصة بأدب السجون التي منحت الرؤيا النقدية أفقاً جديداً لإدراك ما سوف يأتي. إذ يتوجب العودة الى الوراء ومعاودة خيط قصتنا "جدار بين ظلمتين".
* من الاعدام الى المؤبد
ينتمي المهندس المعماري رفعة الچادرچي إلى عائلة بغدادية معروفة في الجاه والسياسة ممثلة بعميدها الأب كامل الچادرچي زعيم الاتحاد الوطني الديمقراطي وصاحب جريدة "الاهالي" المشهورة بنهجها العلماني الوطني وميولها اليسارية. ويعد رفعة من الجيل المعماري المؤسس لعمارة الحداثة في العراق والوطن العربي منذ خمسينيات القرن العشرين وحتى اليوم. ومن أشهر اعماله الهندسية نصب الجندي المجهول في ساحة الفردوس عام 1959 ونصب الحرية في ساحة التحرير عام 1960 بالاشتراك مع المهندس الانشائي احسان شيرزاد، فضلاً عن دائرة انحصار التبع في الباب المعظم ومبنى الاتصالات في شارع الرشيد وعمارة اتحاد الصناعات العراقي في ساحة الخلاني، وسلسلة من العمارات والمشاريع الانمائية في الكويت وبعض بلدان الخليج العربي.
اما السيدة بلقيس شرارة فهي كاتبة وناشطة مدنية معروفة تنتسب الى عائلة شرارة ذات الجذور اللبنانية، ويعد والدها الأستاذ محمد شرارة من انشط الشعراء الوطنيين في العراق خلال مرحلة العهد الملكي والعهد الجمهوري الاول، وكان من المحررين الناشطين في الصفحات الثقافية لجريدتي "اتحاد الشعب" و"طريق الشعب" في مراحل متعاقبة من تاريخ صحافتنا الوطنية.اما اختها الراحلةحياة شرارة فهي أديبة ومترجمة للأدب الروسي ومن ابرز اساتذة كلية اللغات في جامعة بغداد حتى رحيلها المفجع في سنوات الحصار التسعيني المنصرم.
ومن نكد الدنيا أن رفعة الچادرچي لم يدخل سجن ابو غريب محكوماً بالمؤبد لأسباب سياسية تتصل بمعارضة صدام حسين مثلاً أو اختلافه مع حزب البعث الحاكم في التوجه، او غير ذلك من الاسباب التي دفعت بآلاف العراقيين الاحرار الى هذا السجن الرهيب، وانما بسبب خلاف سياسي لا علاقة له بين الحكومة العراقية والحكومة البريطانية. وتعود الحكاية الى حادثة اغتيال عبد الرزاق النايف"أحد أقطاب انقلاب 17 تموز 1968" في المنفى البريطاني الذي اختاره لنفسه بأيدي المخابرات الصدامية. وقد قبضت الحكومة البريطانية على الشابين المجندين اللذين اغتالا النايف، وطالبت الحكومة العراقية بالإفراج عنهما ورفضت بريطانيا لأنها قدمتهما الى المحكمة، ولا بد أن ينالا العقاب حسب القوانين البريطانية، فحاولت الحكومة العراقية اللعب في الفراغ عن طريق الضغط المضاد، وقبضت على احد رجال الأعمال البريطانيين، المدعو "سباركي" مدير الشرق الأوسط لشركة ويمبي بلا سبب مقنع، واحتجزته مع استجوابه عن معارفه الذين ذكر على رأسهم رفعة الچادرچي، فقبضت على الچادرچي لهذا السبب، وحوكم بتهمة تشبه الخيانة العظمى.
والطريف ان يسعى محامي البعث المأجور الى إنقاذه بتخفيف حكم الاعدام الى المؤبد، وكانت بداية المأساة التي أطاحت بالچادرچي الى "جهنم ابو غريب" قرابة عامين، وظل الامر على ذلك الحال على الرغم من وساطات العائلة واصدقائه العرب والاجانب من دون جدوى.
وعندما تقرر إقامة مؤتمر عدم الانحياز في بغداد، سأل الرئيس صدام حسين عن اهم المعماريين العراقيين الذين بمستطاعهم إعادة تخطيط عاصمة ملكه ليزهو بها على رؤساء الدول القادمين إلى هذا المؤتمر، فأجابوه من دون لف أو دوران: واحد في السجن هو رفعة الچادرچي، والثاني في الخارج هو الدكتور محمد مكية الذي ترك العراق منذ بداية السبعينيات، فأمر الرئيس بالإفراج عن رفعة الچادرچي واستقدم محمد مكية ليقوما بمهام التخطيط المعماري الجديد لمناسبة انعقاد المؤتمر المذكور سنة 1982 وبالفعل يفرج عن الچادرچي، ويمارس الرجل عمله، ويلقاه الرئيس ليتفقد معه النماذج في أيلول 1980 ويصدر بعدها قراراً جمهورياً بإنهاء قضيته تماماً.. ولعل هذا القرار هو من أندر حالات الطاغية حينما يكون عدله النادر والزائف مكرمة يتغنى بها العبيد.
* الكتابة في ثلاثة مستويات
خرج الچادرچي من سجنه بواسطة احدى هذه المكرمات، وهي دلالة تشير الى عشوائية اعتقال البشر في الانظمة الاستبدادية، حيث لا توجد ضمانات لحقوق الإنسان، ولا محاكمات عادلة، ولا قانون حقيقي أو دستور يحتمي به المواطنون، ولا أحزاب حقيقية يمكن أن تدافع عن مناضليها في مواجهة عسف النظام فان دلالة المفارقة نفسها تشير إلى الدكتاتور المهيب القيصر الأعظم في الأنظمة الاستبدادية ذلك الذي تتجمع بين يديه مصائر البشر، يفعل بها ما يريد دون رقيب او حسيب، وحسب مزاج يمكن ان ينقلب من النقيض الى النقيض.لقد حاولت أمه وزوجه وأقرباؤه المحاولات المتكررة للحصول على هذه المكرمة سدى، بعد ان بذل الاصدقاء من الخارج كل المحاولات بلا فائدة، ولم ينقذ الرجل سوى الحاجة اليه، فاخرج من السجن الذي ما كان ينبغي أن يدخل إليه أصلاً. لكننا نشعر إن دخوله الى السجن قد أفاده وأفادنا، فرحنا نرى بعينيه جموع الشعب العراقي المختلفة، واحزابه المعارضة التي جاورته في سجنه الرهيب، وهو يقترب منها، يشاركها القمع والمرض والجوع ضمن فانتازيات حياتية مختلفة.
ولعل من أبرز ما اتسم به كتاب "جدار بين ظلمتين" ثلاثة مستويات متكررة او ثابتة، أولها انه كتاب لم يكتب تحت وطأة الحدث القمعي للسجن او غيره مباشرة، كما حصل لبعض المذكرات أو اليوميات المهربة،فقد لاحظت شخصياً من خلال عتبات الكتاب ومتنه ان الكتاب قد كتب عام 2001 وصدر عن دار الساقي في طبعته الاولى عام 2003 بعد سقوط نظام صدام حسين، وان التجربة التي يحكي عنها الكتاب وقعت ما بين 16 كانون الاول 1978 والعشرين من آب 1980 في فترة زمنية لا تتجاوز اكثر من عشرين شهراً، وان صاحبها ظل بعد هذه التجربة في العراق قرابة عامين، عاقداً العزم على مغادرة العراق حين تتاح له الفرصة. وقد قيض له أن يغادر العراق نهائياً في أواخر عام 1982.
المستوى الثاني، إنه كتاب استخدم التوثيق "أسماء وتواريخ" وسيلة للإدانة،وكشفاً عن بشاعة الجرم، سعياً الى زيادة عدد المحتجين على النظام السياسي الذي أنتج ظاهرة الاستبداد غير الانسانية، وفضحاً لهذا النظام ورموزه وزبانيته في أعين العالم كله،وتأكيداً للحقيقة التي سعى هذا النظام الى إخفائها وراء شعارات براقة واكاذيب باطلة.
المستوى الاخير لهذا الكتاب انه قد كتب خارج وطنه بعيداً عن النظام الديكتاتوري الصدامي السابق وفراراً من بطشه، ولكنه نشر بعد سقوط ذلك النظام بأشهر معدودات، الامر الذي يكشف شيئاً دالاً، وهو شحوب مذكرات السجن العراقي وندرتها بالقياس الى بقية البلدان العربية، خصوصاً طوال فترة نظام صدام حسين، وذلك لما عرف به هذا النظام من مطاردات مستمرة لمعارضيه في الخارج، ونجاحه في تصفية واغتيال رموز عراقية في المنفى على نحو مرير.
لقد قرأنا "جدار بين ظلمتين" بعد انتهاء التجربة الموجعة والبشعة وعلى سبيل الاسترجاع الذي يسعى صاحبه الى تجسيد مشاهد الرعب على الورق، وتثبيت مشاعر الخوف والقلق والالم والحزن والغضب واليأس والاحباط على الورق خوفاً من النسيان، وقصداً إلى أن تظل وقائع العذاب باقية في الوعي الجمعي كالعار، وفي تاريخ الطغاة كالجريمة، وفي مسيرة التحرر كالدافع المتجدد والمتوهج الى الابد.
وبالطبع ليست الامكانات العملية هي التي تحول دون الكتابة لروايات السجن أو مذكراته، وانما الامكانات النفسية ايضاً..فمن الذي يمتلك رفاهية الوقت والكتابة وسط عواصف التعذيب المتكررة، وفي مناخ الانتظار الدائم للأفظع والأقبح والأقتل؟