عمدت نصوص ما بعد الحداثة الى الإطاحة بالمسلمات التي جاءت بها نصوص الحداثة وما قبلها، فشكلت قطيعة معرفية شاملة تقوم على زحزحة البنى الأجناسية التقليدية المستهلكة باتجاه تفعيل دور المتلقي الذي اهملته البنيوية وما قبلها، الا انها استفادت من البنيوية اهتمامها بكيفية بناء النصوص دون علاقتها بما هو خارجها وكان من نتائج هذا الاهتمام هو هدم الأسوار بين الأجناس لتقديم نص تنافذي تسهم في تخليقه اجناس وانواع مختلفة بما في ذلك نصوص الواقع وإعادة انتاجه بصيغ جديدة تتيح للمتلقي مساهمته في انتاج مغزى النص عبر فعالية التأويل بعد لم شتات بنى النص المختلفة، لذا فقد كان "جامع النص" حسب تعبير جيرار جينيت او "النص التنافذي" حسب ما اسميناه في مقالة سابقة هو النص المعبر عن حالة المتلقي المعاصر الذي شكلت ذائقته الجمالية والمعرفية خبرة متسعة ومهارات قرائية مختلفة مكنته من التفاعل بإيجابية مع هذا النص" الما بعد حداثي" لتستكمل دائرة الاهتمام بمكونات النص " المؤلف، النص، المتلقي" اذ اهتمت المناهج النقدية الكلاسيكية بالمؤلف والمناهج البنيوية بالنص فيما اهتمت مناهج ما بعد البنيوية التي مثلت مرحلة ما بعد الحداثة بالمتلقي بعده عنصرا ايجابيا وهو المعني بالرسالة وهدفها، وعلى صعيد السرد الروائي فقد كان لإعادة صيغ حكي الوقائع "المتخيلة والحقيقية" وفق آليات تجاوزت كثيرا موجهات السرد الحداثي أثرا في توسيع دائرة استدعاء المتلقي مرجعياته للتفاعل مع المعنى الذي يتوصل اليه النص وتجاوزه الى التوصل الى المغزى المنتج عبر وجهة نظر خاصة بالمتلقي وفق التأويل الذي يتمكن من الوصول اليه استفادة من الصيغ الجديدة والآليات السردية التي يستخدمها النص في اعادة انتاج الوقائع، ومن هذه الآليات هي تنافذ وتلاقح النص الروائي مع غيره من النصوص الخاصة بهذا الجنس او ذاك لتقديم نص جديد يحوز قدرة مواجهة المستجد في حراك الواقع، ولعل ذلك ما جعل القاص هيثم بهنام بردى يلج بابا قل ما ولجه الروائيون العرب والعراقيون بعد ان ولجه روائيون عالميون مثل توماس مان وارنست همنغواي وكافكا وتشيكوف وغيرهم، الا وهو "الرواية القصيرة" التي تقع بين الرواية الطويلة والقصة الطويلة، وعلى الرغم من ان الدراسات النقدية وضعت اقتراحا بأن عدد كلماتها يتراوح بين 10000 -- 20000 كلمة وعدته ميزة لها عن بقية الأنواع السردية الأخرى الا اننا نرى ان ما يميز هذا النوع الروائي هو اشتراطاته البنائية التي وضعته الدراسات المعاصرة، ولعل اهمها وجود شخصية محورية مركزية واحدة تتحلق حولها بعض الشخصيات الهامشية التي تتعالق من قريب او بعيد مع هذه الشخصية دون ان تستقل بأحداث خاصة بها قد تبتعد او تقترب من الحدث الرئيس كما في الرواية الطويلة، ومن خصائصها الأخرى وجود حدث مركزي واحد يتم وصفه بتكثيف عال قد يصل احيانا الى منطقة بناء صور وصفية شعرية، وإزاء ذلك فسنقوم بتقديم قراءة خاصة جزئية تتعلق ببنائية رواية "الأجساد وظلالها" للقاص هيثم بهنام بردى من حيث وجود التنافذ النصي وعجائبية السرد التي اتصفت بها الرواية، اذ من الممكن تقديم قراءات أخرى ومن زوايا نظر متعددة ومختلفة للرواية في رؤاها الجمالية والمعرفية.
يتبدى الحضور المبكر لبنية التنافذ النصي منذ الغلاف الأول للرواية الذي توسطته صورة فوتوغرافية للروائي التقطت له في عام 1976، وهو بمثابة اعلان بدئي عن عزمه على تضمين نصه الروائي جوانبا من سيرته الذاتية ليدمج ويتنافذ مع النصوص الأخرى لتكوين بنية النص الروائي الكلية، بعده الشخصية المحورية والمركزية في الرواية التي شاءت تجاوز الوقائع المحكية باعتبارها وقائع مسبقة لزمن كتابة الرواية، وبمعنى آخر فإن تلك الوقائع التي عالجتها وكشفت عنها الرواية لم تكن بعيدة عن ذاكرة المتلقي الفردية والجمعية، ولأجل تجاوز عملية نسخ الوقائع المكتشفة والمعروفة فإن النص قد لجأ الى خرق استهلاكية السرد وآلياته التقليدية لتحفيز ذاكرة المتلقي وذهنيته باتجاه اكتشاف البنى المستبطنة لتلك الوقائع الممتلكة حدودا نصية تشكل مفاصل مهمة وحيوية في وجود الشخصية المحور بل وتتعداها لتشكل مفاصل جمعية، وازاء ذلك فقد عمد النص الى ادماج جملة من النصوص المنتمية الى اجناس وأنواع أخرى بدءا من النص البصري الذي تضمنه الغلاف الأول "صورة الروائي"، على أن السرد على لسان الراوي كلي العلم ظل هدفا وغاية أراد منها الروائي توصيل رسالة توسلت بجملة من الآليات السردية الحديثة على سبيل التجريب من اجل نقل الحكاية من مستواها الاستهلاكي الى مستوى جمالي تكفل بتخليق عوامل التشويق والجذب لمتابعة الرواية واستخلاص رؤاها، ويمكن رصد النصوص التي اسهمت - من خلال تنافذها -- في تقديم رواية اتصفت بالتجريبية بعدها واحدة من مواصفات النص الما بعد حداثي، ونتلمس ذلك منذ بداية الرواية التي أخبر بها الراوي عثوره على زجاجة بين الصخور القريبة من شاطئ البحر تحتوي على لفائف ورقية شكلت بمجموعها رسائل مرفوعة من المدعو "هيثم بهنام بردى" الى الروائي المعروف "عبد الرحمن منيف" في عام 1978، واطلق عليها الراوي اسم " شرق المتوسط من جديد وجديد وجديد"، تماهيا مع الرواية الذائعة الصيت "شرق المتوسط" 1975 للروائي عبد الرحمن منيف الذي يلجأ الراوي الى معرفة سيرته الحياتية والروائية عبر الدخول الى موقع" ويكبيديا" الموسوعة الحرة التي تمده بالمعلومات الكاملة عن الروائي، وشكلت هذه المعلومات نصا مجاورا حقيقيا لا دخل للروائي في انشائه، فالمعلومات عن الروائي منيف متوفرة وما قام به الروائي هو استنساخ تلك المعلومات ووضعها في بداية روايته ليهيئ ذهن المتلقي للدخول الى عالم الرواية التي سوف لن تبتعد عن التشابه بين عالمها وعوالم رواية عبد الرحمن منيف بدلالة اطلاق تسمية الراوي عليها "شرق المتوسط "من جديد وجديد وجديد وبأن "رجب" الشخصية المركزية في رواية عبد الرحمن هو الآخر "هيثم بهنام "في "شرق المتوسط من جديد.." لتكريس بنية تواتر الاضطهاد والقهر الذي يعاني منها الانسان في الانظمة الشمولية والدكتاتورية، اذ كانت النصوص السيرية المدمجة في النص الروائي حائزة على امكانية التمدد لتتصف بالموضوعية والانتقال من منطقة الذات الى المجموع، لتأكيد اتجاه الرواية العربية لما بعد نجيب محفوظ لكشف معاناة المعارضة السياسية للأنظمة العربية الدكتاتورية التي لا تتورع عن استخدام الأساليب الأكثر قساوة ووحشية لقمع تلك المعارضة، ولعل هذا الاتجاه قد افتتحه الروائي عبد الرحمن منيف عبر روايته شرق المتوسط عام 1975، وقد تبدى استمرار هذا النهج في نصوص "يوميات" في رواية الأجساد وظلالها، كما كانت المواد التي تضمنتها لائحة حقوق الإنسان الدولية في الصفحات الاولى من "شرق المتوسط من جديد". بمثابة نصوص خارج المتن الروائي المتخيل لتتنافذ مع النصوص الأخرى لتشكل المادة الروائية، على أن هذه النصوص قد اسهمت في تقديم رواية سيرة ذاتية، موضوعية سيرة الروائي عبد الرحمن منيف ومنجزه الروائي، وسيرة الروائي هيثم بهنام بردى التي توزعت على قسمين الأول تضمنه المتن الروائي ويذكر فيه الاسم واسم الأخ - زهير – وما جرى له اثناء محاولته السفر الى خارج العراق والقسم الثاني الحق في نهاية الرواية وهو كشف وببلوغرافيا حياتية وأدبية للروائي هيثم بردى وادمج ضمن عملية السرد ليكون واحدا من مكونات المتن الروائي بطريقة سردية مؤثرة، حينما بحث الروائي من خلال زر المعصم في باب "منسيون" ".. وبعد بحث ليس بيسير ولا بمضن عثرت على ضالتي " هيثم بهنام بردى" ودونكم مازودني به موقع "منسيون" الموثق في 24،4،2090 وبصوت رخيم ناعس. ليبدا الموقع بسرد السيرة الحياتية والأدبية للروائي هيثم بهنام بردى لتنتهي الرواية عند هذا الحد.
اذن فقد تداخلت النصوص التالية " السيرة الذاتية، مواد لائحة حقوق الانسان، اليوميات صورة الغلاف كنص بصري، نصوص الرسائل " لتكون المادة الروائية لـ " الأجساد وظلالها " وقد تبدت وظائفها وفق النحو التجريبي الذي اتجه الى وضعه الروائي هيثم بردى، في تكريس بنية الكشف عن معاناة الفرد في مجتمعات شرق المتوسط عبر تأكيد خاصية التواتر القمعي للأنظمة الدكتاتورية، على ان بعض هذه النصوص قد اتصفت بما تتصف به "المناصات" الداخلية وهي نصوص مجاورة ذات وظيفة مزدوجة فهي فضلا عن امكانيتها في بناء نص تجريبي متجاوز للبناء التقليدي والمألوف فهي تسهم في دعم موجهات ورؤية النص الفكرية والجمالية، كما ان رفعها من النص لن يؤثر في سير الأحداث الروائية، كالسيرة الذاتية لكل من الروائي عبد الرحمن منيف والروائي هيثم بهنام بردى، الا ان هذه النصوص السيرية قد دعمت موجه النص ليكون سيرة ذاتية، موضوعية تلقي الضوء على ما هو مسكوت عنه في حياة المؤلفين منيف وبردى ليحيط المتلقي بصيرورة العمل الروائي وموجهات مؤلفه المعرفية.
وعلى مستوى عجائبية السرد فقد تمكن النص من تخليق بنية العجائبي التي تمظهرت فيما يأتي؛-
1- تجاوز الزمن الآني ليكون زمن الحكي، الروي مستقبليا، 2090 وهو امر غير معهود كما ان الزمن المقترح لم يأت بعد وقد اكتسب صفة التنبؤ او التكهن بما سيحصل 2090.
2- ما تضمنته رسائل "هيثم بهنام بردى" الى الروائي "عبد الرحمن منيف" وهي تصف المدينة التي سافر اليها وصفا عجائبيا متجاوزا الحدود الواقعية ونافية إمكانية حصولها على أرض الواقع، مثلا في وصفه حادثة اعتقاله من قبل رجال " نوري " وأقبية التعذيب التي تستخدم فيها اقسى الوسائل لانتزاع الاعترافات واذلال المعتقلين،
3- ما تضمنته "اليوميات" الستة المنتقاة "1،2،3،16،40، 90" من وقائع عجائبية متجاوزة المنطق التصديقي وهي تحيط بمفردات الحياة اليومية لـ "هيثم" الشخصية المحور في المدينة وتحديدا في زنزانته التي اودعها فيه نوري ورجاله بتهمة مقتل " حامد" زوج اخت رجب الشخصية المركزية في رواية "شرق المتوسط" لعبد الرحمن منيف، كما ورد على سبيل المثال في " يوميات" وما أسرده من تفاصيل دقيقة من وضعي الفريد الاستثنائي في "المطعم السياحي" بحسب تعبير نوري....الا لأجلي نموذجا من نماذجهم العديدة بل الكثيرة في أفانين تحطيم الانسان.
فضلا عن الوصف العجائبي لمدينة " شرق المتوسط الجديد" وما حدث للشخصية، وهو وصف افتراضي حاول تحويل الوقائع المحكية والواقعية الى مفترض عجائبي استبطن فيه الروي بشاعة الأساليب التي تستخدمها الانظمة الشمولية ضد المعارضين لها، والارتفاع بتلك الأساليب الى مستوى اللاانساني والعجائبي للكشف عن علاقة تلك الأنظمة بكل من تسول له نفسه الوقوف بوجه السلطة وتقويضها.
لقد تمكنت رواية " الأجساد وظلالها" للروائي المثابر هيثم بهنام بردى من تقديم نص روائي ما بعد حداثي بحيازته بنائية افترضتها موجهات نصوص ما بعد الحداثة لتحاوز الراكد والتقليدي عبر تجريبية واضحة تبدت في تداخل وتنافذ نصوص مختلفة " بصرية، رسائل، يوميات ، سير ذاتية. ." لتشكل مادة روائية ارتفعت بمستوى الرسالة من التفسيري الى الايحائي مستفيدة من التقنيات المعاصرة في تقديم نص روائي محايث لمشاكل الإنسان عبر العجائبي ودعم النصوص المستدعاة من مصادر غير سردية لتدخل الواقعة السردية مكونة مادتها الروائية.

عرض مقالات: