لا وجود للتاريخ خارج مسرحه الذي هو المكان ولا يتدفق أو يتقلص المكان إلا بتوقيت شروط معينة، وبين قوسي ّ الزمكان يتدفق الفضاء الروائي مشروطا "باقتصاد المحكي، من خلال التهذيب البلاغي الضمني الذي يتحقق له عن طريق القراءة". ويتغذى الفيلسوف من جهود المؤرخ ويشتق بوابات تؤدي إلى يوتوبيا نهاية التاريخ وهي: عدالة التاريخ/ محكمة التاريخ/ حقيقة التاريخ.. والتاريخ هنا تاريخهم والمثبّت يومها "أصبح العراق الآن يخضع للاحتلال البريطاني وذلك أمر تم تثبيته حتى في طوابع البريد الهندية التي كانت تستعمل في تلك الأيام. وهناك المسرود فينا/ علينا بالمدفعية والطائرات والإلكترون.. هيمنة أسقطت ادعاءهم "التاريخ كشف المطلق" فالمطلق معولم بالهيمنة على ثروات الأرض والسماء.. المؤرخ يكتب أمالي السلطة بهذه النسبة المئوية أو تلك.. وحده الروائي المنصف من يكتب تاريخ بلاده بنزعة جمالية وبخبرته يمتزج الأرشيفي بالمخيال والروائي شاكر نوري ينتسب لهذا الصنف من الروائيين.
يمهد الروائي شاكر نوري نضيدة من المناصات لروايته "خاتون بغداد "
*لوحة الغلاف
* أربعة مقتبسات نصية
*ملاحظات وهوامش : بعد نهاية نص الرواية
في المقبوسات السردية الأربعة التي تستقبل القارئ بعد صفحة الإهداء، يفعّل مؤلف الرواية اتصالية بين وعيين: الوعي بالتاريخ/ الوعي الروائي وكيفية الاشتغال الروائي بينهما بمشروطية روائية تكون السيادة فيه لفتنة السرد + المخيال الأدبي مع جرعات من الوثيقة التاريخية حتى لا يتحول السرد الروائي مبأرا تاريخيا بل يكون النص الروائي بنكهة التاريخ.. هكذا هي قراءتي للمقبوس الأول لعالم الأناسة كلود ليفي شتراوس في قوله "يمكن للتاريخ أن يأخذنا إلى أي مكان ٍ شريطة َ أن نخرج منه".. المقبوس من الأديب أوسكار وايلد كالتالي "الواجب الوحيد المترتب علينا حيال التاريخ هو إعادة كتابته "ما بين القوسين لو لم يثبّت اسم أوسكار وايلد لقلت هذا كلام مؤرخ متعال فكلمة "الواجب الوحيد" تفوح برائحة التعالي وإعادة كتابة التاريخ ليس من المهمة الأديب بل هي مشغل الوعي المنصف بعيدا عن التحزبات الآيديلوجية وهكذا مشغل، تشاكسه مصدات شتى. لكن ما يقول كونديرا أشبه ما يكون خطة عمل صحيحة، نعم فالروائي ليس مؤرخا كما أنه ليس خادما للمؤرخين وما يقول كونديرا يقترب من الصواب بنسبة عالية "التاريخ مثل مصباح كشاف يدور حول الوجود الإنساني ويلقي ضياءه عليه، وعلى إمكاناته غير المتوقعة التي لا تتحقق وتظل غير مرئية ومجهولة في الفترات الراكدة عندما يكون التاريخ ساكنا..".
"جعلت مس بيل، هذه المرأة المتسلطة من المندوب السامي كالببغاء يردد تقاريرها حرفيا، وفي الواقع هي التي تصوغ القرارات على الورق في الليل، لينفذها المندوب السامي في الصباح".. إذا كانت تتمتع بكل هذه الكاريزما فمن المسؤول عن جرائم المندوب السامي بيرسي كوكس يوم 24/ 8/ 1922 حيث أضطر الملك فيصل لإجراء عملية الزائدة الدودية فتولى كوس إدارة البلاد فقام بخطوات تعسفية عنيفة حيث نفى كل من عارض الانتداب وقصفت القنابل الإنكليزية القبائل التي عارضت السياسة الإنكليزية واستمر القمع التعسفي، وبعد القضاء على حركات التمرد أجبر كوكس وزارة عبد الرحمن النقيب الثانية على توقيع المعاهدة في 10/ 10/ 1922 وبذلك ثبت نظام الانتداب في العراق.
القرون الخمسة العثمانية التي جثمت على صدور العراقيين جعلتهم بالتدريج يتآلفون مع بعض ملفوظات العثمانيين ولحد الآن هناك من يسمّي سرير النوم:"قاريوله" ولا تزال قطع غيارات السيارات تحتفظ بملفوظاتها التركية "جاملغ، جكمجة، دشبول" ومصلّح الأسلحة "جقمقجي" ومنظّف دور المياه في السجون "عنقرجي" فالمفارقة اللفظية لم تشعر بها سوى مس بيل في قولها: "المفارقة أنها تحمل لقب الإمبراطورية العثمانية التي حاربتها بكل قوة وشراسة.
كقارئ فأنا أرى مس بيل مبأرة من خلال الوعي الحضاري للآخر، الذي يتميز به المؤلف شاكر نوري والمؤلف نوري ينتج خططه من خلال خبرته السردية العميقة، التي بدأت ربما قبل روايته "نافذة العنبكوت" فرواية "خاتون بغداد" هي عمله الروائي التاسع ومس بيل مبأرة من خلال وعيها الكولونيالي الذي لا يخلو من استعلاء على المرشحين العراقيين لرئاسة العراق وهم: السيد طالب النقيب والسيد عبد الرحمن النقيب والفريق الركن هادي باشا العمري. من جانب آخر.. ان تأنيث الاستعمار المتجسد في شخصية مس بيل هو كسر للنسق المؤتلف الرجولي الكونيالي الذي لا يرى المرأة إلاّ واحدة من اثنتين وبشهادة مس بيل نفسها "بالنسبة لهم إما أن تكون المرأة أيقونة ً أو عاهرة" وبالطريقة هذه فالبريطانيون المستعمرون لا يؤمنون بحق المرأة في هذا المجال فهم "آمنوا بأن الحكم حكرٌ على الرجال.."، لورنس العرب وصديقه هوغارت يموتان بغيظهما منها وبشهادة مس بيل نفسها "يا إلهي لماذا يقف هوغارت ولورنس في طريقي؟ لا أدري. ما الذي فعلته لهما؟ كانا يغاران منّي".
مس بيل لم تدخل العراق بصفة كاتبة أو عالمة آثار، ومس بيل ليست رحالة كما يصنفّها سندرسن باشا.. "فالمس بيل التي اشتهرت ككاتبة ورحّالة، كانت من أعظم النساء الموهوبات في زمانها.." فالرّحال ينتج رحلة طويلة بعيدا عن وطنه ليتزود بتجارب ومواقف ثرة "ولكي تأخذ الرحلة سمة البطولة لابّد للرحال أن يعود إلى وطنه وقد شاهد العالم الغريب وقهره وظل محتفظا بمفاهيمه الثقافية وبرؤيته الأخلاقية".. مس بيل اجترحت حلمها الرافديني وانتسبت إليه وأوصت أن تنغرس حين تموت هنا ولا تعود إلى هناك.. لكن بدايتها كانت مختلفة تماما، فهي وصلت إلى مصر بدعوة موجهة لها من الكابتن هول: مدير الاستخبارات البحرية للحضور إلى القاهرة لتكون برتبة ميجور في الاستخبارات وهكذا تحولت مس بيل خريجة جامعة إكسفورد قسم التاريخ.. والدرس الأوحد الذي حفظته بصورة صحيحة: إنها لن تشارك ثانية بصنعة ملوك للصحراء العربية.. فحلمها الرافديني في تضاد مع الخريطة الكونيالية، بل تمت مصادرتها معرفيا.. "وعندما ذهبت لكي تجمع أوراقها وملفاتها من مكتبها، لم تعثر على شيء حتى أبسطها لأنها لم تعد ملكها بل أصبحت ملك الأمبراطورية انتهى كل شيء. عزلوها من مفاوضات النفط بصرفها إلى الآثار القديمة وزيارات البيوت البغدادية وإقامة الولائم وحفلات الشاي في بلاط الملك.. ويبدو من وجهة النظر الكولونيالية البريطانية أن مس بيل جعلت الطريق السالكة تماما بين الحاكم البريطاني والملك فيصل الأول.. لذا ستقوم الإدارة البريطانية بتقليص ظلها الجماهير بطريقة شفيفة.. وتلك كانت خطتهم من البدء "كانوا في الخفاء يريدون إقصائي وإبعادي.
بتوقيتين تشتغل سيرورة الرواية
*العراق بعد سقوط الطاغية
*الزمن الشخصي البريطاني المتجسّد في مس بيل.
*سنلاحظ كل وقفة مع الروزنامة الميلادية سيتوزع الفصل الروائي لعدة عنوانات فرعية وهكذا ينال القارئ استراحات لطيفة ويتنزه في الفصول بتلذذ:
*الليلة الأخيرة كما ترويها ماري
*الكتابة مثل الرقص
*وجه قناع من البرونز
في الفصل الأول المؤَرخ "11 مارس 1917" والمعنون "السيدة الإنجليزية بحذائها ذي الكعب العالي" لا يبدأ السرد بالتأريخ المثبّت بل بزمننا الحالي "مرت مائة ُ عام، هذه الدورة الكونية المخيفة من الزمن على دخول الآنسة الإنجليزية بحذائها ذي الكعب العالي وقبعتها العريضة وأزيائها الباريسية ومشيتها المتبخترة إلى بغداد منتصرة ً ومظفرة ً وفائزة". وتاريخنا يتم تبئيره من فوهة العسكري الأجنبي "جنود يرحلون وآخرون يأتون"، وكذلك من فوهة العسكري منذ مجازر بكر صدقي فتاريخنا سارده الأكبر هو "بساطيل عراقية" ثم تتراجع بكرة شريط الفلم الوثائقي العراقي: خليل باشا التركي يجر ذيول الهزيمة إلى إسطنبول تاركا نساءه في بغداد.. البريطانيون يغزون شوارع بغداد.. يتنزهون بسراويلهم القصيرة ولا يحتشمون من النساء البغداديات. هنا يلتقط السرد مؤثرية سيكولوجية الملابس كمختلف اجتماعي وأخلاقي أول بين المواطن العراقي وبين الأجنبي ضمن منطق الذكورة. أما مؤثرية الزي الأنثوي على النساء العراقية فله إيقاع الغيرة النسوية المطلية بالدفاع عن الحشمة! فالعراقيات المتلفعات بعباءاتهن السوداء الكالحة: "يحملقن بهذه المرأة النحيلة القوام... وعلامات تعجّب واستفهام ترتسم على وجوههن من اكتشاف كائن غريب غزا كوكبهن دون انذار"، وسيكون السارد العليم عليما بذات صدور العراقيات "وهن يحصرن ضحكاتهن وقهقهاتن ودهشتهن في صدورهن ويبادرن إلى إشعال أعواد البخور والحرمل من أجل طرد أشباح الأرواح الشريرة، وبالذات روح هذه الجنيّة خشية أن تدخل روحها إلى بيوتهن ولا تخرج منها، "وهؤلاء النساء مسيرّات بأنظمة سلوك جمعي مغروز/ مغروس بعمق أبعد من القرون العثمانية الخمسة التي جثمت فوق العراق".
يتجاور الزمنان في المطبوع الروائي "خاتون بغداد" فالمرقمة -1- تبدأ في 11مارس 1917 تليها المرقمة -2- تقفز إلى 2003 وهذا التجاور لا يخلو من دلالات عميقة، حيث لا يوجد قطع تاريخي بين الزمنين فكلاهما احتلال إمبريالي.. الأول بطبعته البريطانية والثاني بطبعته الأمريكية..
المونتاج: له السيادة التقنية في "خاتون بغداد" والمتجسد في النقلات الزمنية بين بدايات القرن العشرين والحادي والعشرين.. وسحر الرواية على سعتها ومسافتها السردية "371 " صفحة تجعل القارئ مفتونا بملاحقة الصفحات والتلهف والانشداد التام لها.. واستوقفني عميقا الفصل المعنوّن "زيارة قبر الخاتون" حيت يتنقل السرد بين الراهن العراقي 30 نيسان 2016 وبين 17 تموز 1925. في الراهنية العراقية يتحاور الأصدقاء المثقفون المهمشون: أبو سقراط، يونس، نعمان، يونس وهم يتجارون مع قبر مس بيل وتستمر محاورتهم من "317- 319 " وفي نهاية تنتقل الكاميرا إلى 1925 وهنري دوبس، والموظف المكلّف بإجراءات الوفاة الكولونيل فرانك ستفورد ثم تنتقل الكاميرا الساردة للإصغاء إلى رئيس الكنيسة الشرقية ثم تتعالى صلاة الميت. ثم تعود الكاميرا إلى يونس ونعمان وهاشم وهم بجوار قبر مس بيل 2016 ويكون سردهم استرجاع إلى لحظة تشيعها في بغداد من ويدخل مع السارد العليم ليحدثنا "تخيّل أهالي لندن أنها دفنت مع الحلي والمجوهرات... وتنتهي الصفحة بالعودة إلى بغداد إلى غرفة مس بيل.. إلى مشاعر خادمتها الوفية "ظلت روح ماري يقظة ً وهي آخر من تناول معها آخر استكانة شاي قبل أن تأوي إلى سريرها الأبدي".