"المسخ" او"الانمساخ" لـ "كافكا"، من الكتابات التي تحمل اشكالية في تجنيسها، ذلك لأنها كتبت تحت مصطلح "القصة الطويلة"- وهو من المصطلحات التي تحمل اشكاليات عدّة-، فقد اختلف الكثير من النقاد في تجنيس مثل هذه الكتابات، اذ يجزم بعضهم بالقول: ليس هناك "قصة طويلة او قصيرة" بل هي "قصة" فقط، بينما يشدد الآخر على تصنيفها حسب تسميات "قصيرة" أو "طويلة"، وأنا أجد أن مصطلح "قصة" يصح تطبيقه على الأنموذج القصصي فقط من دون تابع له او مكمل قصيرة أو طويلة، ومصطلح الرواية على التجنيس الروائي فقط، فلكل منهما "القصة والرواية" عالم خاص بهما وإن اشتركا في مميزات الزمان والمكان والحدث والعقدة.
و"الانمساخ" أو "المسخ" من الكتابات المترجمة ترجمات عدّة، فبعضهم ترجمها تحت عنونة "الانمساخ"، والآخر "المسخ" تحاكي واقع عائلة اجتماعية وتنحصر داخل نطاق هذه العائلة بين البطل الابن "غريغور" و"الاخت" و"الأم" و"الأب"، وإشارة الى "كبير الموظفين" الذي نرصد حضوره منذ الوهلة الأولى ثم لنفتقد وجوده، ذاك لأن "غريغور" لم يعد مرتبطاً بالواقع العملي، ثم ليظهر المستأجرون الجدد، والخادمة ذات الشعر الأبيض، وهؤلاء جلهم يظهرون و يختفون ليبقى المحيط الكتابي بين دائرة "غريغور والأب والأم والأخت".
تقدم صورة الاستفاقة المميتة لـ "غريغور" الذي نام ليصحو على واقع مرير، مما سببت له هذه الانتقالة دهشة ليخالج ذاته الداخلية ومحاولة اقناعها بأنه في حلم وسيصحو منه، ولكن الواقع الجديد اصبح حقيقة يعيشها "غريغور" بعد استيقانه بأنه ليس في حلم، ولتبدأ الحكاية بسرد انتقال الذات، وتغير الأنا، والانعدام، واجبارية الواقع الجديد لـ "غريغور".
وتسعى الى تصوير ثورة على التسلط الاجتماعي والأسري وتغير واقع الاستغلال الاسري بالدرجة الأولى والعمل الاجتماعي الضاغط.
تدور الاحداث حول "غريغور" الابن الأكبر لـ "سامسا" الذي أخذ منه المرض الانتقال من صورة الإنسان الى صورة الحشرة "الحيوان"، ويتم سرد الأحداث بضمير "الأنا"، والأخت الحنونة ذات "17" عاماً على أخيها التي تنتقل فيما بعد الى نبذه بسبب مرضه وصعوبة تحمله أكثر من هذا الوضع، اما "الأم" فأنها كانت بين أن تكون مؤيدة لقرار ابنتها الأخير أو لا تكون، فهي بالنتيجة أم تمتلك غريزة العطف.
التحول الذي اصاب "غريغور" ينقل اجتماعية وصورة "غريغور" الذي تحول الى حشرة بأنفاس انسان انهكها المرض المفاجئ ليحيله الى عاجز، وليتحول الى غربة ذاتية يعيشها حبيس غرفته بعد أن نفر منه المجتمع، من هنا نفهم بأن النص الكتابي يمكن شطره الى نصفين: الأول: سرد ماضي "غريغور" وواقع عمله الذي كان يتطلب منه السفر المتواصل ؛ لأنه كان يعمل مديرا للمبيعات، والثاني: حاضر "غريغور" الجديد وهو الواقع الإجباري المفروض طوعاً عليه بعيداً عن ارادته، الذي نقله من ذات نافعة لعائلته موفر جميع احتياجاتها الى ثقل يحيلهم الى صعوبة تحمل وضعه.
هذا التحول وضع "غريغور" بين اختيارين: بين أن يقبل بوضعه الجديد او الرفض بعد أن كان يعايش حياته العملية مديراً للمبيعات ليعيل عائلته، وليسدد المتراكمات من ديون ابيه.
من هنا نفهم بأنه لم يعش "غريغور" ضمن نطاق اسري مترابط، فالعائلة كانت اقرب الى الانتهازية، واستغلال كرمه وطيبته. اضافة الى تسلط "رئيس الموظفين"، وهي موازية لصورة تسلط الأب "سامسا".
وقد امتاز الإنتاج الكتابي لـ "كافكا" بالتفصيل الذي يجذب القارئ الى معرفة نهاية الأحداث حتى وأن شعر في بعض الأحيان بجانب الملل الا أن هذا الملل سرعان ما يتلاشى ويتحول الى رغبة مؤكدة في معرفة نهاية الأحداث، وهذا امتياز يحسب للكاتب لا عليه، فعلى الرغم من بساطة الأسلوب ونسج الكلمات المفهومة، الا أن هذا لا يقلل من قيمة المتن الكتابي، خاصة عندما يمتاز هذا المتن بنقل وجودية "غريغور"، وتفوقه في نقل الظلم الاجتماعي وظلم الواقع العملي الذي يتلاشى امام ظلم المحيط الأسري.
ومن جانب آخر نجد الاصرار داخل النسيج الكتابي هذا في رسم حدود المنزل الكبير الذي أستأجره لعائلته، وهو الذي كان مصمماً على أدخال اخته "مدرسة الموسيقى" والتي كانت تؤازره، ثم لتنقل الى صورة اخرى الرافضة المتعصبة من وضع اخيها "غريغور" ونعته بأنه متعب ولا يقدر أحد على تحمله، ولتجد المؤازرة من الوالد بعكس الوالدة التي ارتضت بالسعال والتعب بعد انعكافها على ماكنة الخياطة، ثم لتعلق رفضها مثل هذه الفكرة.
ومن التفصيل المنزلي ايضاً رسم حدود غرفة "غريغور" التي امتازت بـ "النوافذ" وهي إشارة الى ارتباطه بالنور الخارجي وامكانية استنشاقه أوكسجين الطبيعة بعيداً عن غازه الذي يعيشه داخل اسرته، وهي اشارة لارتباطه بالعالم الخارجي وابتعاده عن العالم الأسري، فيما تشير "الساعة" المعلقة في احد جدران الغرفة الى تسارع الزمن الذي يعيشه ونعيشه نحن الأن، فيما اشار "دفء المعطف" الى الحنان والحب والاحتضان الذي افتقده من أسرته ومن ثم لم ينله من أية حبيبة، ليعيش غربة داخل غربة غرفته ولتتولد لديه غربة مقيتة سببت حالة نفسية وتراكمات عدّة على ذاته المضطربة.
لغة الشجن التي غلفت المتن الكتابي آن لها أن تزول بالنسبة للعائلة ولتدخل الفرحة الى محيطهم، نرصد هذا التحول بعد وفاة "غريغور"، ولنجد كيفية الانتقالة الجديدة لهذه العائلة، وكيف أنهم تركوا عملهم، واتخذوا قرار السفر، والتفكير في استئجار منزل جديد أصغر من المنزل الذي كان ولدهم قد أستأجره لهم، ونرصد تحول نظرة "الأم والأب" الى ابنتهم الوحيدة والتفكير في زواجها، وهذه النهاية تربط أذهاننا بحقيقة المثل المعروف "الذي يموت يخسر نفسه"، وهي صورة حياة جديدة لعائلة نسجت حياتها بلون الفرح والسعادة، حياة بعيدة عن "غريغور" الذي وهب ذاته وعمله لأسرته التي لم تقدر جهده.