يمتلك عريان خيالا واسعا لا يخطر ببال كثير من الشعراء وهذا الخيال ليس للبيع والشراء ولا للتعلم الأكاديمي ومطالعة كتب البلاغة والبيان والشعر والنثر بل هو (موهبة) ربانية تحملها (جينات ومورثات) الشخص الذي مَنَّ اللهُ عليهِ بذلك.. ليست هناك (أكاديمية او جامعة أو كلية) تمنحكَ(خيالا أخّاذا) وتُعطيك فية شهادة البكلوريوس. خيال الشاعر والفنان والنحات والرسام والمطرب والملحن لا تخضع (للعلوم الجامعية).

ولد بشار بن برد أعمى

ولكنه قال أبلغ أبيات في الوصف:

كأن مثارَ النقعِ فوقَ رؤوسِنا

وأسيافَنا.. ليلٌ تهاوى كواكبُه

وقال:

يا قومُ أذني لبعضِ الحيِّ عاشقةٌ

والأذنُ تعشقُ قبلَ العينِ أحيانا

تهدي بما لا ترى قالوا فقلتُ لهم

الأذنُ كالعين تُهدي القلبَ ما كانا

وهذا ما لم يتطرقْ له المبصرون!

وخيالُ عريان:

ممتزج ببيئته، فهو ابن الهور ابن الناصرية الذي روى من مياهها وعشق أهوارها وانهارها وسبر أغوارها، برديها وقصبها وشوكها وصبيرها، وكل ما فيها من عادات وتقاليد فأتى شعره متبَّلا بكل تلك المطيِّبات التي قل نظيرها في الشعر الشعبي العراقي.

قبل الخوض في قصيدته الرائعة:

(الجثة والدود)

لابد من المرور باختصار بشخصية عريان التي روت من مبادئ صلبة ثابتة لا يساوم عليها، مبادئ تسري في دمائه، كانت هي الشراع الأول لمسير سفينة شعره ومحركها الأوحد.

عريان شاعر (المبادئ) والقيم والمثل العالية، في كل بيت قصيدة ومثل وأصالة جنوبية رائعة لم يسبقه اليها أحد.

لا بل تعدى كل ذلك لينظم أمثالا وحكما لم يُسبق اليها. وتشبيهات واستعارات وكنايات بلاغية فريدة لن تجد لها مثيلا في شعرنا الشعبي العراقي..

تنيتك عود!

لاحظوا (التشبيه البليغ):

تنيتك عود

ما هو العود؟

هو نبات ضعيف ضئيل ليس شجرة ولا نبتة عالية..

ثم يكمل:

ينشاف العطش بيّه..

لاحظ البلاغة:

هل أن العطش ينشاف؟

هنا أبدع عريان

نعم العطش يُحس من قبل الشخص نفسه،

ولكنك يمكن أن تراه!

كيف؟ شخص شفتاه يابستان ووجهه شاحب وتبدو عليه إمارات العطش، كذلك هو العود!

جاف، ذابل، يترنح، مصفر!

أنظر لتلك البلاغة الراقية

عريان يريد أن يقول:

لقد انتظرتك أيها الأمل..

كزخة مطر.. ترويني

فأنا لست سوى (عود) ذابل ينتظر مطرك!

ويكمل:

وعلى المامش هروشي تجود!

ومع شدة عطشه،

فإن هروشه تجود بما يمكنها من الماء،

رغم أنه يعلم أن لا فائدة من ذلك!

(على المامش)..

ولكن واضح أن ما يدفعه هو الوفاء المبدئي لا غير!

وينقلنا عريان نقلة مدوّية:

ألوذ بشيمة العاگول!

هذه التفاتة بليغة غير مسبوقة

فهذا (العود) الذابل يلوذ (بشيمة) العاگول

لقد جعل عريان لل(عاگول) شيمة في نظر ذلك العود..

لأنه نبات صحراوي يصبر على العطش، وتمتد جذوره عميقا في الأرض حيث المياه الجوفية..

ولذلك يلوذ به ذلك العود العطشان أملا وطمعا بخُلق العاگول النبيل من أجل قطرة ماء

مَن يتخيل هذه الصورة!

وعلى بال من تخطر؟

ويكمل:

واصعد على الآه صعود!

(الآه) ذلك الوجع العراقي المزمن!

الذي عانى منه العراقيون على امتداد تاريخهم الطويل..

و (آه) عريان ليست (آها) طارئة..

لا بل هي حكاية لها بداية..

وليس لها نهاية..

فقد زرعها في طريق عشقه الأبدي الخالد المتبل بكل آلام وقهر السومريين منذ زمان أوتونابشتم وجلجامش وأنكيدو.. الى يومنا هذا

مرورا بمآسينا التي سحنت بقايا أرواحنا جيلا بعد جيل..

مثلما يقول في قصيدة أخرى:

(قهرنا) ولا عذاب (الآه)

يا (آهي) شكثر تكبر!

سحابه ولا لبگهه الريح

لا بيها الوكت حدّر!

فعريان ذلك المشبع بالمبادئ والخلق الرفيع والعناد ورفض الذل والموت دونه، ورغم كل ألمه وعطشه...

لا يستسلم لل(آه)..

ولا يضعف ولا يساوم،

هو من يتحدى الآه ..

ولا يتوقف.. بل

يصعد عليها صعود...!

كما يقول الشاعر زامل سعيد فتاح:

حيل اسحن گليبي سحن

غرگني بالهم والحزن

حالف مطخلك راس

يا ليل وأون!

 

ويكمل عريان:

(ومگالب يليل شتاك)

يتقلب على جنبيه

لا يستقر ولا يرتاح ولا يطمأن..

(جرح يصيح جرح يهود)

هل سمعتم جرحا يصيح!

قبل (عريان) كانت الجراح نائمة..

فأيقضها ببلاغته..

وجعل لها فما ..

كما قال محمد مهدي الجواهري:

فم ليسَ كالمدّعي قولَةً

وليسَ كآخر يستفهمُ

لقد كان اختيارُ عريان

لــ (ليل شتاك) ليس(صدفة)!

بل (قرارا) مع سبق الإصرار والترصد

لماذا؟

لأن ليل الشتاء طويل ..

طويل جدا خصوصا على العاشقين!

والعاشقون هنا ..

وعريان واحد منهم..

لا يعشق (فاتنة) يميس قدُها ويتطايرُ شعرُها وتبتسمُ شفتاها .. ويتألق قرطُها، ويلمعُ عقدها

عشقه الأزلي(مبدأي)

لا يهمه جماله بقدر ما يهمه كماله!

و: (جرح يصيح جرح يهود)!

لن يشعر بذلك الألم والأمل من لم يجرب تلكم الجراح النازفة ليلا

فما إن يندمل أحدها حتى يضج غيره بألم لا يطاق..

جراح ليس لها وجود (واقعي) على جسد المصاب

بل هي في أعماقه التي تؤرقُه ليلا فلا هو صاح ولا هو نائم

آلام لا تنتهي..

كما قال تعالى:

(كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب)

وهذا هو ليل (شتاء عريان)

مع جراحه الدامية المؤلمة.

بعد هذا (الألم الرهيب)

وعريان ينتظر لمحة من أمل يقول:

تنيتك وانته (مَيِّت شوگ)!

الله الله، ميت شوگ!!

إذن ماذا سأنتظر منك؟

هل سمعتم بمثل هذا البيان؟

هذا.. لوحده (مثل) أضافه عريان للتراث الشعبي العراقي

هو (منتهى) اليأس من الأمل!

(ميت) شوگ..

ثم انظر كيف(يعلل) عريان ذلك

بمثل وبلاغة ليس لها نظير:

(ضنَّة أعلَ اليموت يعود)!

لا يحتاج الى تعليق.

ويتسائل باستغراب واستنكار:

أتاني الود؟

والمقصود واضح وهو:

هل اتاني الود؟

وهو في الحقيقة لا يسأل!

بل يستغرب ويستنكر، وهو في البلاغة(سؤال استنكاري).

كقوله تعالى:

(أفمن اتبع رضوان الله كمن باء بسخط من الله)

(أفمن يهدي الى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي).

وقول حاتم الطائي:

ألم تعلمي أني إذا الضيف نابني

وعزّ القِرَى أقري السديف المُسرْهدا

وتابع معي:

كيف يجد سببا وتبريرا

(فلسفيا حكيما)

لما قاله حيث يكمل:

(يدمعة عين) طاحت...

وشيردها اردود!

هنا تكتمل الصورة التي كانت في (خيال عريان)،

وأراد أن ينقلها لنا بشكل أصولي بليغ مقنع ومحكم..

عن ضياع آماله الى غير رجعة!

(مفردات) تعودنا على مضغها...

ولكن عريان بعث فيها روحا ومعنى لم يخطر ببال أحد..

أين من يقتدي ويهتدي بهذا الصرح الخالد للأدب الشعبي العراقي الرفيع.

فهل يمكن أن نَرُدَّ (دمعة عين) (طاحت)... وشيردها اردود!

كذلك هو حال عريان مع الأمل..

لا ضوء في نهاية المطاف

(أتاني الود.. يدمعة عين)

(طاحت وشيردها اردود)

وأكمل معكم بعون الله تعالى:

وشعز الدمع بالعين

لو شح ساعة المنگود!

عرض مقالات: