بعبودية كهذه، ابتلع كارثة سوقه إلى الجيش. واقعة مذهلة لا تُنسى، حصلت بإشارة إصبع "انضباطي"، أجبرته على الاستجابة والطاعة، من غير أدنى ممانعة.. "طلب مني بطاقة هويتي، فسارعتُ إلى تقديمها له. قرأ بصعوبة اسمي وتاريخ ولادتي فأدرك حتما أنني أحتاج إلى أكثر من عامين حتى يتم شمولي بقانون الالتحاق بالجيش. انزعجَ، ففضّل رميِّي في قفص الحبس داخل سيارة "الايفا"، بمجرد أن عرف أنني شروكي هههه"!
تم توقيفه لعدة أيام، ثم أُرسل إلى مديرية التجنيد لعرضه على لجنة خاصة بتقدير الأعمار، تتألف من مخلوقات صخرية تنبض شرّا وقسوة، عيونها جاحظة، وقحة، اكتفت بنظرة عابرة إلى جسده النحيل، ثم طالعت بطاقة هويته الرسمية التي تشير بوضوح إلى صغر سنه، لكنَّ ضباط اللجنة قرروا منح عمره سنتين إضافيتين، "اكْراميّه مال بَرْمَكيّه"، ليتم زجَّه في جبهات القتال.
- الوطن في حالة حرب، وأنت من مواليد 1/7، "مواليدك تقدير"، إذن تُساق إلى الخدمة العسكرية فورا!
يضحك ابن 1/7، يطلق قهقهة لا تحاكي غصة أحزاننا، ولا تطوي ذكريات عبوديته الشيِّقة. هو يتركها هكذا كظل شاحب، ساخرا من أكثر من عقدين مريرين، اختزل أعوامهما بؤس الحرب، بدءاً من الولادة، ومن موت أبيه، ومن قسوة زوج أمه، ثم من ضياعه في عشرات المهن المُرْهِقة التي نهشته، وأخيرا من بطاقة هويته المهانة.
ما عاد "ابن تموز" بعد حادثة البطاقة يثق بأيِّ شيء، ليس لأنه لا يُلدغ من جُحرٍ مرتين، بل لأنه أصبح حذرا شكاكا، ابتلعه مقاس الصدمة، فتجاوز فضيحة دولة تلغي اعترافها في صحة صدور وثيقة رسمية، كما قرر أن يشطب آخر ظنٍ ظلَّ يتعكز عليه، متوهما أنه مواطن لا تسخر منه الحكومة على الأقل، وهو ما لم يحصل، وكان من البديهي أن لا يحصل، لكنه هو هو وبقايا أوهامه المبعثرة، وهي ظنون واهية ازْدَرَدَ زرنيخها بهدوء، من غير أن يترك نأمة ألم على شقوق قلبه، ثم رضخ كالعادة لارتداء "البسطال"، وسرعان ما ركب موجة الهرب، وفاقَ نظراءه بطرق وألاعيب عجيبة، كأنّه كان يصبو إلى هرب آخر أقل رعبا.