في ذلك اليوم الذي صار بعيداً، أحسست لأول مرة في حياتي أننا في أمس الحاجة إلى وضع عقولنا جانباً من حين الى آخر، والاهتداء بقلوبنا المثقلة بالحنين، بالحكايات الجميلة، بالأشياء المبهمة التي نحبها دون أن نعلم ما الذي يدفعنا إلى ذلك.

لا زلت أذكر أنني في ذلك اليوم عدت من المدرسة لحظاتٍ قبيل غروب الشمس، وألفيت جدي جالسا كعادته على كرسيه الهزاز بالقرب من شجرة الزيتون الأندلسية. كان مشدوداً إلى فروعها الصلبة وإلى العصافير التي تتسابق من أجل بناء أعشاشها تأهبا للأيام القادمة.

من بعيد، وقفتُ أدقق في نظرات جدي وأستمتع بعلاقة العشق هاته التي جمعت بين رجل مسن وشجرة طاعنة في العمر والخراب. حتى اليوم لا أعرف لمَ كان يحرك فيَّ ذلك المشهد أشياء غريبة لا أستطيع وصفها.

أذكر جيدا أنه في تلك العشية رأيت في الرموز الخفية التي تتذابح في عيني جدي الكثير من الحزن والغبن، وفي ملامح محياه الذابل شيء يشبه الغزال المجروح الذي تخلى عنه القطيع وتوارى عن الجميع ليموت بمفرده.

من دون أن أتنبه لم كنت أفعله أحسست بصوت لاهث يخرج من فمي ويسأل باستغراب:

- ما بك يا جدي؟ أراك اليوم حزينا على غير عادتك.

رمقني بنظرة عابرة وكأن سؤالي مرّ مثل الهواء البارد على حواف أذنه ثم عاد إلى حزنه. لم يجبني لكني وجدت في عينيه الكثير من الأشياء التي كانت تفضح كل ما في صدره من وجع، فأنا وإن كنت صغير السن أحس بألمه المبطن والعصي على المكاشفة.

وقفت إلى جانبه لأني شعرت في أعماقي أنه في حاجة إلى من يواسيه في تلك اللحظة. وضعت محفظتي جانبا وضغطت على كفه الناعمة وقد صوبتُ نظري مثله تماما تجاه شجرة الزيتون. أنا أعرف جدي جيداً، فمهما ظل صامتا وممسكا بحزنه لا بد أن تأتي تلك اللحظة القاسية التي يضطر فيها إلى البوح بكل ما في قلبه.

قبل ذلك اليوم، حينما كنت أجلس إلى جانبه وهو يتأمل شجرة الزيتون، كنت لا أحب أن أقاطع تأملاته وحواراته العميقة مع الأجداد الأوائل والأشواق الدفينة. يكفيني فقط أن أجلس على نفس هيأته وأنتظر قليلا حتى أسمع أربعة قرون من تاريخ هذه الشجرة. في البداية، كان يمسد على شعري بيديه الناعمتين نعومة الألحان التي تنبعث من عودِه الأندلسي الأصيل، ثم أستلذ بصوته المفعم بالشوق والحنين.

لم يكن يمضي وقت طويل حتى يروي لي قصة جدي الأكبر سيدي محمد بن عبد الرحمان الذي ما إن خرجَ من سجون محاكم التفتيش بالأندلس مدعيا ارتداده عن دينه حتى ركبَ البحر صوب المغرب ولم يحمل في يده إلا نبتة الزيتون هاته.

شيئا فشيئا، يتدحرج بي إلى القصص التي تصل أحيانا إلى أبعد من الممكن في الخيال عن نمو هذه الشجرة في أحضان حديقة بفاس جنبا إلى جنب الياسمين ومسك الليل وأشجار اللوز والتفاح والكاليتوس والتيدوم، وكيف تم نقلها من مكان إلى آخر قبل أن يستقر بها المقام أمام البيت الذي نقطن فيه الآن بأحد الأحياء الجديدة بالمدينة. بين الفينة والأخرى، يقول جدي إن الزمن غيرَّ فيها الشيء الكثير لكن الروائح ما زالت نفسها كما كانت منذ زمن بعيد. يقول أيضا أنها لم تعد تثمر كما السابق لكن ظلها ينمو يوما بعد آخر ويصبح أكثر صلابة وتساعا في هذا البلد الطيب. إنها قادرة الآن على توفير الظل لكل رجال المدينة.

كل القصص التي كان يرويها لي جدي عن شجرة الزيتون الأندلسية تركها مبتورة. حينما يصل به الحكي إلى اللحظات الأكثر حساسية كان يصمت طويلا ويمد بصره صوب السماء درءاً للدموع الهاربة. ومن كثرة خوفي عليه من أن يجرفه الحنين الحارق لم أكن أجد الشجاعة لأسأله تتمة تلك الحكايات الجميلة وتلك الأشواق الدفينة، وكنت أضطر في كل مرة إلى البحث عن أشباه قصص وأشباه تفاصيل لأملأ الفجوات البيضاء.

أحيانا يقول لي إني أحمل في وجهي ملامح جدي سيدي محمد بن عبد الرحمان. أخذته منه العينين السوداوين، والأنف الشامخ واستقامة الجسد. في البداية كنت أصدق هذا الكلام حد الجنون، لكني تفطنت فيما بعد إلى كوننا لا نملك لهذا الجد الأكبر أية صورة ولا أحد يستطيع تذكر ملامحه، ذلك أن جدي يريدني برواياته هذه أن أظل متمسكا بأصولي الموريسكية وأن أحس بأجدادي فيَّ.

جدي الذي يشارف على مهاوي الرحيل الأخير لا يريد أن يموت وقد ماتت كل الروابط التي تحفظ ذكرى الأندلسيين بالمدينة. قبل شهرين فقط هدموا حديقة غرناطة التي كانت بالجوار وأنبتوا مكانها عمارة ضخمة سكنتها عشرات الأسر التي لا تعلم شيئا عن تاريخ الحديقة التي شُيدت فيها أعشاشهم البئيسة. عندما هدموا الحديقة هدموا جدي أيضا، ومنذ تلك اللحظة، اعتزل الطرب والتغني بالموشحات الأندلسية حزنا على فقدان أكبر الحدائق الأندلسية بفاس. وفي الآونة الأخيرة، بدأت الناس تتحدث عن شجرة الزيتون بسوء، ويخاف عليها من كثرة الأحداق التي أصبحت تتربص بها.

فجأة أيقظني صوت جدي من خيط من الأفكار كان يسحبني بتنظيم محكم نحو هاوية سحيقة:

- اليوم سوف سيتمزق آخر شيء يحمل هويتنا الأندلسية في هذا البلد الطيب يا ولدي.

-  ما الخطب يا جدي؟

وضع يده على وجهه مثل طفل صغير ثم قال بنوع من الحرقة:

- لقد تواطأ الكل ضد شجرتنا يا بني. كل شيء كان مرتبا ومنظما سلفاً وأنا آخر من يعلم. حتى أبوك الذي يحمل في عروقه دماء أندلسية لم يتردد في التوقيع على وثيقة المطالبة ببترها لأنها- كما يقولون- تعيق طريق المارين واختفاؤها من هذا الشارع أفضل من بقائها. منذ مدة وهو يتجنب ملاقاتي وينعطف متسللا صوب جهة أخرى وكنت أستغرب للأمر، لكن مْقَدَّمْ الحومة أخبرني البارحة بكل شيء. الأشجار يا ولدي مثل الفراشات، هشات ويذبلن بسرعة. إنهن لا يؤذين أحد، لكن الناس صارت متوحشة أكثر مما ينبغي ولا تريد للأشياء الطيبة أن تحيا معهم.

- لكنك لن تسمح لهم بذلك يا جدي. إنها شجرة جدنا ولنا الحق، كل الحق، في الدفاع عنها.

-  لو كنت أزال في عز شبابي لمنعتهم ولو على جثتي، لكن الآن وقد صار الموت على العتبة، لم يعد بوسعي فعل أي شيء.

ما إن أنهى جدي كلمته الأخيرة حتى تراءت لنا من بعيد جرافة ضخمة مرفوقة بالمْقَدَّمْ بلباسه الأنيق، وشرطيين وبعض الوجوه الأخرى التي لا أعرفها. اصفر وجه جدي لحظتها ولم أعرف كيف حمل كرسيه الهزاز وانزلق إلى الداخل متذمراً. انتابني حزن غريب وتدفق الدم الأحمر إلى وجهي.

في اللحظة التي ألقت الشمس بنفسها في وراء الأفق ولم تبق إلا القليل من الشعاع، حملت المحفظة فوق ظهري وتوجهت نحو الوفد بخطى ثابتة. استرجعت في خاطري كلام المعلمة التي كانت توصينا دائما بضرورة المحافظة على مآثرنا التاريخية والدفاع عنها. قلت في نفسي:

- قد لا يكترثون إلى وجودي وقد لا يعيرون أي اهتمام لصوتي الصغير لكن لن أسمح لهم بتنفيذ القرار دون أدنى تدخل مني. إنه تراثنا الذي إن فقدناه لن يعود إلينا.