توطئة .. كاظم الحجاج
في "صفنة شعرية" واحدة سيحتاج "الحجاج" إلى مزيد من الصمت والخلوة، وإلى طأطأة عنق، ومراقبة المارة. سيحتاج إلى لهاث يديم صمته، والى حوارات بلا هوية مع البيوت والأشجار والطرقات ورائحة الموت. لكنه، مع هذا لن يخضع كثيرا إلى ذلك النوع من الإعادة في شعره أو حياته. هو يختفي من حين إلى آخر، ليبحث عن متاهات جديدة، وعن علاقات هامشية مع موت مدينة يتذكرها لكي يكتشف أنه أكثر منها ضياعا، وأن ما افتقده يبقى دائما بعيد المنال.
ما زال "الحجاج" يشعر أن هاوية الضياع تقترب من مدينته، وان انحداره المتسارع نحوها يمنحها نوعا من المصداقية، وسيجعلها بنظره تمثل الخاتمة الحية الوحيدة في طنين هذا الفراغ.
هذا الشاعر المسكون ببصريته لن يتقاعد قلبه، فها هي البصرة تعود لتوسمه بدورة مربدها هذا العام، ليغدو هو والبصرة والشعر حالة واحدة.
صفحة ثقافة ارتأت أن تصدر هذا الملف تزامنا مع انعقاد "مربد الحجاج" 2018.. فانبرى الناقد مقداد مسعود وتكفل بإعداد هذا الملف.
**********
في عشية انعقاد مهرجان المربد دورة كاظم الحجاج الشاعر الذي رأى حـلم الأعمى / مقداد مسعود
شاعرٌ مثل كاظم الحجاج يحلم على مدار العمر: بمشاعية شعرية، يكون فيها استهلاك الشعر وإنتاجه: فعلا جماعيا.. ربما بالطريقة هذه يريد الحجاج كاظم أنّ يقوم بتعويضنا الجمعي عن مفتقدنا الجمعي الأكبر. ففي ليلةٍ حالكة الغبار، افتقدنا سرّ اللغة الكونية فتبلبلت الألسن والأفئدة. وبسبب بصيرته وبصريته المتوجعة، صار يؤّذن فينا "أنا لا أرى مدينتي الآن.. أتذكرها فحسب".. ولم يتوقف عن مناسكه الشخصية، ها هو كل يوم/ كل قصيدة: يلتقط الأشياء المجروحة، ينفخ فيها من غرين روحه، ويدوزنها بطغراءٍ مِن تصنيعه الشخصي.
وكل ما يكتبه هذا الكاظم النحيل الجميل، كل ما يكتبه: مصنّع في البصرة، وموّقع "إيقاعات بصرية". هو مسكون بزمن البراءة الأولى، وربما قبل إزالة معلم تراثي من معالم البصرة، وبناء فندق شيراتون على كورنيش شط العرب، وها هي مخلوقته، المنبجسة من حبة قلبه، أعني "غزالة الصبا" تنادي البصرة قبيل آذان كل فجر
"يا زمان الشناشيل دار الزمان".. وغزالته مثله، فالحجاج وبشهادته غير المجروحة طبعا
"فأنا – مذ ولدتُ- أفتشُ عن جسد
قد يليق بروحي"..
وشاعرنا الحجاج، هو من المصابين بلوثة التجديد الدؤوب، لذا يوصينا "جدّد عينيك دوما".
وفي قصيدة "عين الزيتون الأسود".. يعلن انتسابه العياني "نحن الدامعين وريثو عيون البكاء"..
وهو مرشدنا إلى موجبات الرفض الرصين:
"أرفض!
يستطيع حتى الكرسي
أن يرفض بدينا – يجلس عليه –
بأن
يكسرَ نفسه".
كاظم الحجاج ليس مصاباً بنعمة/ لعنة النسيان، لكن البصرة بنسختها الأم، اجتاحتها غليانات همجية فلم يبق من النسخة الأولى، سوى "عجوز يُحب مدينته بالأمس"، وهو يطالبنا نحن الذين نعرف الأمكنة، أنّ نصونها في ذاكرتنا الجمعية:
"تذكروا حديقة الأمة في الكورنيش،
تذكروا الأثل والكورنيش
في النوروز: تذكّروا حدائق الأندلس.
تذكروا البلم العشاري".
واعتمادا على قوة الشاعر التذكرية في استرجاع الأوقات التي غدت الآن يوتوبيا. لا حل لدى الشاعر سوى استعمال الشعر عقارا ضد النسيان وحين يتناول الحياة الميدانية شعريا وتحديدا: اللحظات التي كان الشعر نفسه: نص حياتنا المعيش، لذا يحق للحجاج كاظم أنّ يحاورنا تساؤلياً..
"هل نحن موجودون بالشِعر؟ أم في الشِعر؟
أم هو الموجود فينا"؟
ما بين القوسين هي بحق شعرنة الشاعر لمقولة فلسفية تشمل: الوجود والموجود والانوجاد لكن تفكيك المقولة فلسفيا: يضر بعافية المناسبة. إذن لنتوقف عند تصنيع القصيدة لدى كاظم الحجاج وهنا لابد من مواد خام وهي بالنسبة للشاعر "أشياء الشعر أولاً: الوردة الحمراء، البيضاء، الصفراء.. هي شعر الحديقة الصامت، قبل أنّ ننطق: وردة حمراء، وردة بيضاء. وردة صفراء. الشعر جمال. والشعر المكتوب جمال مسجون".
* *
كاظم الحجاج من مشعليّ الحرائق الشجعان، فهو يرشقنا بهذه الجمرة الشعرية
"هل يستطيع شاعرٌ في الكون أن يرينا حُلما.. أعمى"؟
الشاعر القرمطي العراقي المتنبي، تنافس/ تراسل مرآويا مع السلطة في زمنه
"أنا الذي نظرَ الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتي مَن به صمم"
لكن شاعرنا الحجاج يستفز الشعور واللاشعور في الشعراء ويطالب باجتراح معجزة فسلجية/ شعرية، وما يطرحه الشاعر ليس تعجيزياً، بل هو محاولة ناصعة تحاول تدريبنا على استجلاب الخوارق لإسعاد الإنسان المحروم بسبب عطل معين فيه وهنا يستبق/ يستفز علم جراحة العيون وغير العيون.. للمساهمة في جعل الإنسان سويا أسوة بالآخرين.. وفي السياق نفسه نتوقف عند قصيدة "عين الزيتون الأسود" ونقتطف ما يخص العين..
"أرأيت عيون الدجاج؟
تنطفي بعد ثانيتين مِن الذبح"؟
"احذر عين المقتول
فهي عقابٌ حتى الموت
لمن لم يُنقذ ذبح المذبوح".
ولنردد جميعاً، مع الشاعر كاظم الحجاج، ما جاء على لسان المخطوفة زينب ابنة بائع العصير..
"أبي
جَدّد الشمس حتى نرى
وفي الصبح أوقد لنا قمرا
فلا في المساء ولا في النهار نرى
نحن أبناء هذا العراق
تعِبنا من الركض صوب الورا"..
**********
الشاعر كاظم الحجاج: الشعر لا يكفي لقول كل شيء / حاورته : بلقيس خالد
الشاعر الكبير كاظم الحجاج هو شاعر تتقدمه مكانته الشعرية الساطعة التي لا تحتاج تعريفا أو مقدمة، فهوية منجزه الشعري تفصح عن "أخيرا تحدث شهريار" و"إيقاعات بصرية" و"غزالة الصبا" و"ما لا يشبه الأشياء" و"جدارية النهرين" و"المرأة والجنس بين الأساطير والأديان"، كما كتب للمسرح أربع مسرحيات، عرضت منها ثلاثة، وفازت اثنتان منها بجوائز.
وفي مناسبة مهر الدورة الثانية والثلاثين لمهرجان المربد الشعري لهذا العام باسمه ، أجرينا هذا الحوار معه. سألناه أولا:
- من خلال تجربتك الشعرية الثرة، ما هي الصورة التي تكونت لدى كاظم الحجاج، حول حاضر القصيدة ومستقبلها في العراق؟
الشعر مكوّن بارز من مكوّنات حياتنا الشعرية، وهو مكوّن خاصّ وجميل، والسؤال هو: هل حياتنا مكتملة الآن؟ هل لدينا موسيقى ومسرح وباليه وفن تشكيلي، هل لدينا جمال منزليّ. أعني هل في منازلنا حدائق ولوحات فنيّة في غرف جلوسنا وغرف نومنا؟ هل ما زلنا نعني بالمزهريات وأربطة العنق، ونهتّم لانسجام أزيائنا مع بعضها، هل نذهب إلى قاعات المسرح والموسيقى، ثم هل المرأة تثير الجمال من حولنا، كما هنّ نساء العالم؟
الشعر ليس شيئا نكتبه ونقرأه فقط. بل نعيشه. الشعر جمال، ولقد تراجع الجمال عن حياتنا كلها.
قصائدك يتذوقها عامة الناس كما تتذوقها النخبة، وهذا امتيازك الشعري وبصمتك، والسؤال هنا كيف استطعت مواخاة الطرفين شعريا؟
أنا وجيلي محظوظون بتاريخ ميلادنا. تربينا في مدارس فيها غرفة رسم وغرفة رياضة وغرفة مختبر علمي، وهناك دور سينما وفرق موسيقية في الأعراس والمناسبات. وهناك حدائق في كل منزل. الكتب تباع في المكتبات وفي عربات الدفع بدرهم. أعني كان هناك جمهور عظيم يقرأ ويتابع ويتذوّق. وهم "عامّة الناس" كما في سؤالك. وكان هناك نخبة. وعلينا أن نقنع الاثنين لكي نستمر في الكتابة. أعني لم تكن هناك فاصلة كبيرة بين القارئ والكاتب. وكان من السهل إرضاء الطرفين. كان لدينا قرّاء كبار. وكان يجب أن نكون بمستوى إرضائهم جميعا، لكي نستطيع أن نستمر.
هناك مَن يرى قصائدك قريبة من لغة الاعلام، لكن تتغلب عليها بشحنة شعرية عالية. ما قولك في ذلك؟
نحن تربّينا تحت إشراف معلّمين وأساتذة أصحاب رأي وأصحاب فكر ثقافي وسياسي. كانوا أتباع أحزاب وطنية وفكرية تقدمية. تعاملوا معنا كونهم معلّمين ومثقفين. كان الشعر سياسيّاً وطنيّاً. وكذلك القصة والرواية. فربما وقعنا تحت طائلة الإعلام أو الانحياز الفكريّ. أغلب كتّاب العالم ومفكّريه كانوا يساريين. حتى بيكاسو كان جمهوريا تقدميّا ضد فرانكو اليميني الفاشيّ وتلك الانحيازيات ما زالت في كتاباتنا. أشبه بلغة الإعلام، كما تقولين.
في نصوصكَ حنين كبير إلى بصرة غير موجودة الآن.. هل هو حنين لأصحابك الغائبين؟ لزمانك الخاص؟
الغربة موجودة لدى حالنا. لقد مات عالمنا الذي تربيّنا في داخله. وكذلك مات ذلك الصنف من الناس الذين عشنا بينهم. أما المدينة فلقد بقيت أطلالا وذكريات دامعة.. والاغتراب هو أننا بقينا في داخل عالمنا الجميل ذاك الذي اندثر.. نعم نحن غرباء الآن.
أنت قارئ دؤوب ومن قراء الروايات، وفي أحاديثك تؤكد هذا عصر الرواية. والسؤال هنا ما الذي يمنع أنّ يكون الشاعر كاظم الحجاج روائيا؟ خصوصا وتجاربك الحياتية غزيرة ووعيك الاجتماعي له عمق خاص؟!
نعم. لقد ابتدأنا بقراءة الروايات. كما إننا كنّا جمهور سينما مدمن. والأفلام السينمائية هي روايات متحّولة إلى واقع مرئي كذلك. وكنا نشاهد المسرحيات وهي في عرض مسرحي، هي أيسر من كتابتها. وإلى اليوم ما زلنا من جمهور الرواية. فمن الصعب التحوّل إليها من قرّاء إلى كتّاب. إنه أمر مخيف ويحتاج إلى جرأة.. أو اجتراء!
لم تكتف موهبتك بالقصيدة المميزة. فقد كتبت كتبا سردية منها "المدينة والمدفع" وكذلك كتاب "المرأة والجنس بين الأساطير والدين".. ممكن تحدثنا ولو قليلاً عن دوافع كتابة هذين الكتابين الجميلين؟
الشعر كما تعلمين لا يكفي وحده لقول الأشياء كلّها وبتفاصيلها. وكان لا بد من كتابة أخرى تسدّ تلك الفراغات. وكما قلت في إجابة سابقة. إننا أبناء فكر سياسي وطني وإنساني. ولدينا آراء في الأشياء كلّها. ولدينا إجابات عن كثير من الأسئلة الإنسانية وحتى الكونية والدينية.. ومن هنا وجدنا الجرأة على أن نقول آراءنا في غير المجال الشعري.
عمودك الأسبوعي "بهارات" في جريدة "الأخبار" والذي تحوّل بعد ذلك إلى كتاب مطبوع ومرغوب من قبل كافة القراء، يجعلني أسأل السؤال التالي: هل مارست الكتابة الصحفية سابقا؟ فمن يقرأ مقالاتك الصحفية يشعر بمتعة قراءة تقارب متعتنا في قراءة قصائدك. لماذا توقف هذا العمود الصحفي؟
هذا الأمر ينطبق كذلك على المقالة والعمود الثقافي. إنه وعينا الذي كان مقموعاً أو مسكوتاً عنه.. كان أهم ما نقرأهُ في الصحف اليومية هو مقالات الكتّاب الكبار ورؤساء التحرير. إنهم أهم دوماً من الأخبار اليومية. كان أولئك الكتّاب هم قدوتنا .. إنهم يكتبون مقالة تلقي بهم في السجن. إنه أمر شديد الإغراء، منذ صبانا.
منذ كتابك الأول "أخيرا تحدث شهريار" كنت وما تزال من الأسماء الأدبية الكبيرة. بل ازدادت مكانتك علوا، كيف حافظت على ذلك؟
نحن قرّاء جيدون ومتواصلون مع أساتذتنا الشعراء الكبار. وكنّا نحلم بأن نحظي بجزء من نجوميتهم. حظّنا الجيد أننا كنّا قرّاء جيدين لكتّاب عظماء، قرأنا لهم بسحر. أنا متواصل مثلا ً حتى اليوم، لأن أستاذي في الشعر سعدي يوسف. ما زال يكتب وما زلتُ أقرأ له. هذا مجرّد مثال على تلك "العدوى".. عدوى الاستمرار.
في قصائدك تتحدث عن أمكنة لا يعرفها الشباب الآن مثل ساعة " ساعة سورين" وغير ذلك من علامات البصرة التي أزيلت للأسف، وكذلك تتناول قصائدك أمكنة تعرضت لمتغيرات قاسية.. هل تريد تأثيل ذاكرة المدينة شعريا في ذواكر الأجيال؟
عن البصرة وعوالمها وأناسها لديّ كتاب نثري عنونته "البصراويون" ومن أجله أعلنت توقفي عن الشعر، لكي أتفرغ له. فيه كل شيء عن هذه المدينة العجوز الفاتنة.
في إحدى الأماسي الأدبية قلت: "الشاعرات أجمل من قصائدهن، ونحن الشعراء قصائدنا أجمل منا". ألا يفهم من هذا الكلام أن شعرية المرأة في قصائدها أدنى مرتبة من شعرية الرجل في قصائده؟ ثانيا ألا توجد قصائد كتبتها شاعرات عراقيات تنافس قصائد الشعراء، مثلا قصائد نازك الملائكة، زهور دكسن، عاتكة الخزرجي، لميعة عباس عمارة؟
أرجو أن يصدر العدد الجديد من مجلة "بيت". مجلة بيت الشعر العراقي. لقد تأخر العدد كثيراً وفيه مقالة لي عنوانها "الشعر فنّ أنثويّ" قلت في بدايته إن "الخنساء" فقدت أنوثتها الشعرية لأنها عاشت مع شعراء "فحول"، أنا أرى أن الشعر أقرب إلى المرأة منه إلى الرجل. بشرط أن تكتب الشاعرة شعراً أنثوياً أرق وأجمل وأطرى من شعر الذكور، لا أن تجاريهم على حساب أنوثتها.
من خلال تعاضدك مع تجربة منتدى أديبات البصرة، وحضورك الجميل في أمسيتنا.. كيف ترى هذه الخطوة؟ أعني تأسيس منتدى أديبات البصرة؟
كنت أحضر ولسوف أستمر على الحضور في منتدى أديبات البصرة. متمنياً أن أسمع شعراً يختلف عن شعرنا. وأن أستمع لمفردات أبعد عن خشونتنا وعن أغراضنا الشعرية الرجولية. لماذا تضع النساء حمرة الشفاه والكحل على وجوههن فقط. ولا يضعنه على شِعرهن؟ وهذا ما عنيته من أنّ شِعر أغلب شاعراتنا هو أقل جمالا منهن.
الآن وهذا مهرجان المربد باسمك، شاعرنا الكبير كاظم الحجاج، أي مذاق وإيقاع لهذا المربد عندك؟
قبل أشهر أخبرت الدكتور الصديق سلمان كاصد بأنني لن أشارك في المربد القادم. لقد اعتزمت التوقف عن المشاركة في المهرجانات، لأنها متعبة. ومن هنا جاءت فكرة تكريمي في هذا المربد. إنه تكريم توديعي. أشبه بإعلان التقاعد!
************
كاظم الحجاج في سطور
- من مواليد البصرة 1942 ينحدر من مدينة "الهوير" في محافظة البصرة جنوب العراق.
• يحمل كاظم الحجاج بكالوريوس شريعة وآداب من كلية الشريعة جامعة بغداد 1967.
• من مؤلفاته الشعرية المطبوعة:
مجموعته الشعرية الأولى "أخيرا تحدث شهريار"بغداد 1973
مجموعته الشعرية الثانية "إيقاعات بصرية" بغداد 1987
مجموعة شعرية ثالثة "غزالة الصبا" عمّان 1999
دراسة أنثربولوجية في كتاب بعنوان "المرأة والجنس بين الأساطير والأديان" بيروت 2002
مجموعة شعرية رابعة "ما لا يشبه الأشياء" بغداد 2005
مجموعة شعرية خامسة "جدارية النهرين" دمشق 2011
• كتب للمسرح أربع مسرحيات، عرضت منها ثلاث، وفازت اثنتان بجوائز
• يكتب عمودا صحفيا أسبوعيا في صحيفة "الأخبار" البصرية منذ صدورها في آب 2003 عنوانه "بهارات"
• متقاعد بعد ممارسة التدريس ثمانية وعشرين عاما.
**********
وجوه وأسماء في شعر كاظم الحجاج / علاء لازم العيسى
من الأسئلة التي طالما طرحتها على نفسي كمتخصّص في كتابة السيرة هي: هل بوسعي التعرّف على حقيقة أديب ما "شاعر، قاص، روائيّ"؟ وإذا كان ذلك ممكناً فما هو أقصر الطرق لذلك؟ هل أكتفي بما كُتبَ عنه من قبل الآخرين، أم يجب عليّ أن أتوجّه إلى "وثائقه الأصلية" المتمثلة بكتاباته "فإنّ للكلمات الفعلية التي كتبها الإنسان المعني نفسه نغمة معيّنة وظلاً معيّناً من الأهمية لا يحفظهما أي سبك جديد لتلك الكلمات" وبما أنّ هناك ترابط عضوي وحميمي بين مسكن الإنسان والشعر عند العرب، فبيت الشعر يضمّ الكلام، كما يضمّ البيت أهله، لذلك سمّيت مقاطعه بالأوتاد تشبيهاً بأسباب البيوت وأوتادها، وإنّ كلمة "القصيدة" تشير في القواميس العربية إلى " العظم ذي المخ"، وهو ما يشبّه القصيدة بالنسيج من الكلام المكسو بالمعاني، وقد يُراد بالقصيدة القصْد أيّ الاتجاه والرغبة الشديدة في الإمساك بالحقيقة، وربّما الاقتصاد، أي إلغاء المسافات بين أنا الشاعر وبين التقاط المعاني، أو بين أنا الشاعر وبين المتلقّي، يجب عليّ إذاً أن أخوض غمار بحر كلمات الشاعر الإنسان كاظم الحِجّاج، وأعرض مضموناً واحداً من مضامين شعره، وهو تنوع الوجوه والأفراد في شعره.
* *
إنّ الذي يقرأ لشاعرنا الحِجّاج يشعر أنه يقف أمام إنسان من طراز خاص، يشعّ إنسانيةً واحتفاءً بالحياة:
"لبّيكَ !
أطفئ بركانَ الحرب، وأوقد للخبزِ التنّور!
لبّيك!
اجعل عين الصيّاد الأعمى،
تخجلْ من عين الحوت!
واجعلني إنساناً يا ربّي!
إنساناً: من مسمار النجّار الأول في مهدي،
حتى مسمار التابوت".
فالحِجّاج إنسان رافضٌ للدم، أو شبه الدّم، وإن كان من حبّات الرمان:
"وطفولتنا ـــ حتى الآن ـــ
تبكي من ذبح دجاجات البيتْ
بل حتى مِن فعْصِ
كريّات دمِ الرمّان"!
وهو خجل من نفسه لأنه لم يدفع الموت عن الناس ـــ في يوم ما ـــ بفعل أو قول:
"يا ربُّ!
أعد أرواحَ القتلى والقديسينَ الشهداءَ
إلى هذي الدنيا..
واجعلنا نخجلْ منّا في المرآة".
* *
ينقسم أبطال قصائد الحِجّاج وشخوصه إلى أربعة: فرد عقلانيّ حر يمتلك أنا مفكرة واعية، يتمسك بأصالته أمام مختلف المؤثرات والتيارات، يتحرك ضمن خلفية تاريخية مدركة، يتعامل مع الإنسان كإنسان، ينخرط ضمن اتجاه معيّن واحد اسمه الوطن:
"مدّد رجليكَ عروقاً إلى الطين
وكُنْ أنتَ نخلتكَ، تكن نخلتنا
اسمعْ نشيدَ "موطني" أوّلاً
وانظر هل تبكي مثلي، أو لا تبكي
تأكد من عراقيّتِكَ بالدّمع!
ليس عراقيّاً من لم يُبكهِ الحسين
مَن لم يُبكهِ وهبُ النصرانيّ وأمّه
مَن لم يُبكه "موطني"
ثبّتْ الدمعِ عراقيتكَ أوّلاً؛
ثمّ كُن مَا تكونْ:
كُن قرمطيّاً. كُن خارجيّاً كُن علويّاً. كُن
عُمريّاً..
كُن كلّ هؤلاءِ، لكن مكشوفَ الوجه".
ففي هذه القصيدة إيمان عميق بـ "الوطن/ الحياة"، وبخلود النوع، فدورة الحياة تأبى السكون، وبالرغم من نقاط الاختلاف بين الجماعات والأجيال، واختلاف التجارب والشجون، لكن يبقى الارتباط بالوطن هو القاسم المشترك، وهو ملح الأرض، ولولا هذا الملح لتعفنت الأرض.
فرد يتخطّى حدود الأنانية، ويرفض التكيّف مع الواقع، ويحلم بمستقبل أفضل، فيضحي من أجل أن ينتشر الحُبّ، في الأزقة والبيوت والمقاهي:
"فرحي قليلٌ في المرايا
ولأنني أحببتهُ؛
كسّرتُ مرآتي
ليكثر.. في الشظايا"
* *
وفرد مسحوق مهزوم مستسلم لقوى التسلط الشمولية، يذكي آلة حربها، لم يحتجّ ولم يذرف دمعاً، فراح يكفّر عن فعلته:
"لا أزرع من أجل الأكل،
ولا للزينة،
لكنّي أزرع تعويضاً !
ـــ ماذا تعني ؟
إنّي رجلٌ خاض الحرب
أتذكّر أنّي ــ وأنا أتقدمّ أو أتراجع
في الأرض الأخرى ــ قد دِستُ وروداً
وقطعتُ، لأجل التمويه، غصوناً
لا أدري كم كانت
ورأيتُ النخلَ يُقصُّ
ولم أحتجّ ولم أذرف دمعاً".
* *
وثالث الوجوه يعدّ جزءاً من ذاكرة المدينة، ورمزاً من رموز الانبعاث والتجدد فيها ومن بقايا الزمن الجميل، إنّه "تومان" ذلك الرجل الأسمر الذي كان يمشي ويتلوى ويُضحك المارين في أزقة العشّار والبصرة، في ساحة أم البروم وسوق الهنود، وعند مداخل صالات السينما، وهو يعزف بطريقته الخاصة بناي صُنع من قصبة جنوبيّة بصريّة، كان فرقة موسيقيّة كاملة، إذ كان يعزف ويغنّي ويرقص بنفس الوقت، ويمارس حريّته على أتمّ ما يكون:
"الطبلُ يتكتكُ خطوتنا، نحنُ البصريين،
والرقصةُ عدوى..
أرأيت الحصبة في مدرسة للأطفال؟
"تومانُ" الحُرُّ الأوحدُ بين البيض
والأسرعُ عدوا بين السود،
عملاقٌ أثبتُ من فحل الكنطارِ
ولكنْ.. هاتِ العود"!
"لأنني أريد هذه المدينةْ
دائمة الشباب
فلن أصدّقَ الإشاعة
التي تقول: "تومان في السبعين"!
* *
أمّا الوجه الرابع من أناسي الشاعر كاظم الحِجّاج فهو طارئٌ على المدينة، عابثٌ، يدّعي القداسة ولا قداسة، فيه ما فيه من القبح والشرّ والخواء، نصب نفسه قاضياً، وهو أحقّ بالمقاضاة: "يا أيّها الهائجونَ الصغار !
أتركوا توبةَ الناسِ للناسِ، لا تقتلوا الخاطئين !
كانت ( رابعة العدويةُ ) راقصةً. .. أو أكثر !
لكن لم يقتلها أحدٌ، حتى امتدّ بها العمرُ
فصارت "عذراءَ البصرة"!
* *
أخيراً، فإنّ الأستاذ كاظم الحِجّاج شاعر عراقيّ كبير، متعدد القدرات، صاحب لغة رشيقة، وصور منتقاة، وإنّ منتجه الشعري على قدر من الاتساع والتنوّع، بسبب استفادته من كلّ شيء قرأه، أو رآه، أو عاشه، أو سمعه، وسيبقى شاعراً مبدعاً ولن يتقاعد يوماً:
"قلبي لم يكبر، وما زال بحجم الكفّ،
قلبي لا شعر له كي يَبْيضّ
وقلبي لم يتوظّفْ، منذُ ولادته،
ولذا لن يتقاعدَ يوماً"!