في عتمة النصوص المتداخلة للشاعر مقداد مسعود في كتابه الشعري النثري معاً،"رأيته يغسل الماء" تنبثق رؤية كونيّة مكلومة، كأنّها صدى لأنين إنسانيّ يعبر الزمان والمكان. ثمرة البمبر تهمس سقوطها والعشب والشجرة وحدهما يصغيان، فيما يجلس الأمل مرتجفًا في مركبة مهجورة، ويستمرّ الجبين عروجًا رغم تعب القدَمين. هنا، في هذا الفضاء النصيّ المتماسك، لا نقرأ سطورًا منفصلة، بل نشهد تشريحًا شعريًّا للوجود تحت وطأة ما يختنق ويسحق. إنها لوحة مركبة من ألمٍ لا يصرخ بل يهمس، ومن مقاومة لا تثور بل تغنّي في اللاشيء الصامت.

     تبدأ المسيرة بحيواتٍ مشوّهة: حياة "تتكىء على هواء الهجير"، وأخرى "منفوخة كطبل"، وثالثة "تتدلى من قدميها عند الجزار". ليست هذه سوى أوجهٍ للاغتراب الذي يطحن الفرد في عالمٍ يتحول إلى فخّ من الجدران الخفية. فالشخصيات – أو الأرواح – التي تجوب هذه النصوص تصطدم كل يوم بجدران لا تراها، وتؤثث أمسها بينما يبقى النهار ذبيحًا على مذبح النسيان. حتى ساعة حائط المكتبة ترفضهم، وشمس الشوارع لا تحتضنهم. إنه انفصال مروّع عن الزمن الحقيقي، عن الحاضر الذي يُختزل إلى جثة بين ذكريات هلامية ومستقبل مجهول.

     وفي قلب هذا العطش، تنبت لغة المقاومة. ليست مقاومة بالصراخ أو القبضات، بل بالغناء في الآبار المهجورة والمقهورة، وبالوهم الذي يرفع ستائر السجون المرسومة. هنا يتحول الفن إلى منفذ أخير للحياة: فحين تنتصر الموسيقى على الرعد، تنبجس منها فراشة، وحين يغني المرء "تستحم الصحراء وتتشقق جلدتها عن غيم أخضر". الغناء هنا طقس تطهيري، محاولة لاستعادة براءة العالم ولإذابة الجليد عن روح تجمدت تحت شمس الظهيرة القاسية. حتى الوهم صارَ فعلاً عاقلاً لأنه أدخل "شمسًا تكنس ظلمة رطبة" وسمح لنسيم أن يرفع السقوف.

     لكن النصوص لا تكتفي بشقها الوجودي، بل تغوص في السياسي بجرأة مخيفة. عيون السجناء بعد الشنق تتساقط في "حاوية الفورمالين الزرقاء"، والمروحيات "تقشر السماء في ليل مضبب فتسقط شذرات زرق من جراحها". هذه ليست استعارات بريئة، بل شهادات دامغة على عنف يتحول إلى جزء من المنظر اليومي، على قمع يختفي وراء الروتين والنسيان. حتى الموت يصبح مادة حفظ في محاليل كيميائية، والحياة تتحول إلى دمى متداخلة، كل منها تحتوي أصغر منها، في انحدار لا نهائي نحو الفراغ.

     وفي وسط هذا العراء، يطلّ السؤال الوجودي الأكبر: "هل الدنيا ضربة شمس؟". سؤال يُطرَح على "ظلّ يتسحب كأفعى"، وكأن الإجابة – إن وُجدت – ستأتي من أكثر الكائنات التباسًا وخطورة. الأفعى نفسها تظهر في مشهد سردي غريب، تماوجت وفحّت حين خاطبها العشب، ناصحة إياه بأن يسأل حطابًا سيأتي بعد قليل. ربما هي إشارة إلى أن الخلاص – أو الفهم – دائمًا ما يُؤجل، أو أن الحكمة تأتي من حيث لا نتوقع، أو أن القادم يحمل فأسًا قد يقطع ولا يبني.

     الطبيعة في هذه النصوص ليست ملجأ ولا فردوسًا مفقودًا، بل شاهد صامت أو مشارك في المعاناة. الشجرة تسمع صراخ الثمرة، والعشب يصغي للهمس، والصحراء تنتظر الاستحمام، وأشجار تكتسي بفضة قمر اغتسلت بها. لكنها طبيعة مقهورة أيضًا، جزء من دائرة العطش والانتظار. حتى العلاقات فيها مشوهة: سمكة تعشق طائرًا على شجرة، حبّ مستحيل يعكس استحالة التواصل والالتحام في هذا العالم المجزأ.

     واللغة هنا تشارك في التشريح. فهي تكسر المألوف بجرأة: "ثمرة البمبر تهبط الأرض هامسة"، "حياة تتكىء على هواء الهجير"، "زورقك الأخير هو صديقك الأول". الانزياح الدلالي يصبح وسيلة لاقتحام مناطق محرمة، لقول ما لا يُقال مباشرة. استخدام الفورمالين في سياق غير طبي، وتحويل الشنق إلى "متساقط" في حاوية، كلها اختيارات لغوية تزيد من فداحة الصورة وتجعل القارئ يشارك في صدمة الاكتشاف.

     وفي النهاية، بعد كل هذا العبور في حيوات أسطوانية وتحت بساطيل وحول جزارين، يبقى الخيط الرفيع من الأمل. أمل يرتجف، لكنه يقرفص في المركبة المهجورة. أمل يقطر مع المطر قطرة قطرة من أسماله البالية. أمل في أن التربة – نحن التراب – قد تراقصها ريح في يوم عاصف فتعيد تشكيلها. إنه ليس أملًا مشرقًا، بل أشبه بشمعة تضيء في قبو رطب، لكن وجودها وحده تحدٍ للعتمة.

     هذه النصوص، بمجموعها، تشكل سردية كبرى عن الإنسان في زمن الانهيار. سردية لا تقدم بطلاً ولا نهاية مغلقة، بل تقدم تشريحًا داميًا وحميمًا لواقع لا يطاق، مع إصرار غريب على الغناء رغم كل شيء. غناء يجعل الصحراء تستحم، ويجعل الفراشة تنبجس من أوتار، ويجعل الاسم يتضوع زهرًا في فضاء مسموم. إنها كتابة ترفض أن تستسلم للصمت، حتى وإن كان كل ما تستطيعهُ هو همسة في أرض لا أحد يصغي فيها إلا العشب.

مقداد مسعود/ رأيته ُ يغسل الماء/ منشورات (نادي الفلسفة)/ البصرة/ ط1/ 2025