
يكتب عبد الرزاق بإسلوب الصدمة التي تشد القاريء لمعرفة حقيقة ماتؤول اليه أمور السرد مع التشويق الذي على غرار الفن السابع وما أنتجته السينما العربية والعالمية في هذا المضمار الجاذب للمشاهد . تبدأ القصة بأم تذهب الى قبر ولدها الذي مضى على مماته أسبوع وإذا بها لم تجد القبر ولا الجدث سوى شاهدة قبره فتنذهل مذعورة من هول الحدث المريب. تذهب الى صاحب القبور فيقول لها من أنه فز من قبره وخرج حياً وأعطيناه رداءاً ومضى. تستأجر التاكسي فإذا به يقول لها نعم لقد أجّرني يوم أمس وسمعنا أنه عاد من الموت وتسأل الكثيرين حتى ينتشر الخبر من أن هناك رجلا اسمه موسى عاد من قبره. لذلك قلت هناك صدمة عظيمة في الروي الذي لا يصدق فلم يحصل في التأريخ البشري أن مات شخصا وعاد الى الحياة سوى (اليعازر) الذي أيقظه المسيح من مماته وهذه القصة ذاتها مشكوك بأمرها لأن العلم ينفي رجوع الحياة بعد تحلل كل الخلايا الجسمية لدى الإنسان. وهناك فلسفة تقول إن الميت لايعرف أنه قد مات منذ أول لحظة من مماته وهذا مما يعطي مفاد القول في الفلسفة العدمية إن الموت جميل. ثم بعد ذلك تسرع الأم الى بيتها وتدخل الغرفة فتجد ابنها نائما في سريره وكأن شيئا لم يكن. وهذا مما أعطى القاريء المضي قدما لمعرفة حقيقة الأمر وكيف ستسير الحياة بولدها وهل سيستمر كعادة الأحياء ويمارس نشاطه مع أصدقائه وذويه.
حين نقرأ القصة القصيرة الموسومة (شاهدة قبر) لعبد الرزاق جاسم نرى رائحة أفلام الخوف والرعب مع مسحة الأمل الذي لايمكن أن يتحقق في شعوب قد مضت شوطا من الألم والقهر الاجتماعي والسياسي. سوى ذلك الأمل المرتقب الذي لا يحصل سوى في الأحلام وهذا ما تناوله عبد الرزاق. وهل الحلم ينفعنا في الحياة لتحقيق مانصبو إليه ، كلا : بل هو بمثابة المورفين الذي ينقذنا فترة قصيرة ثم الرجوع اليه وهكذا دواليك حتى يقتلنا بسمومه .
عبد الرزاق في هذا الإنثيال المذهل إعتمد على صورة فريدة من نوعها في الروي والتي تنطبق على أولئك الذين يحملون الصليب على ظهورهم كرمز من أنهم سوف يقتلون أو سيموتون في أي لحظة لأنهم ملاحقون من قبل السلطة الطاغية أو من القهر والضاقة الإجتماعية والجوع الفتاك ولذلك تراهم يرون الموت أمامهم في كل لحظة. فهنا القاص عبد الرزاق أعطى التأويل للمتلقي وما يراه وعليه أن يملأ الفراغات لأن المتلقي هو الذي عليه أن يعطي الرأي السديد تاويليا مثل المسرح (البريختي) الذي لا يعطي النهاية المباشرة ولا يعطي الحلول ولا الخواتم الواضحة بل يترك للمشاهد لوضع النهاية وفق ماتراه سريرته فنجد أكثر من حلول أو نهايات عند المسرح البريختي.
عبد الرزاق جاسم في هذه القصة دخل المدرسة الرمزية التي يصعب على القاريء البسيط أن يفك طلاسمها بسلاسة الا بعد تمعن وتفكير وهذا هو اسلوب القصة القصيرة التي غالبا مايتناولها الآدباء مع التكثيف والابتعاد عن الوصف الخارجي للطبيعة أو المكان بل يعتمد على المعنى والبنية الرصينة البعيدة عن الإسفاف علاوة على دخوله المباشر في الحدث وسير الآحداث التي تعتمد على الوصف الداخلي والنفسي لبطل القصة وشخوصها. وهنا عبد الرزاق أراد أن يوضح لنا برسالة مفادها :أن رمزية الموت والرجوع منه تندرج وفق القول المأثور (نموت في اليوم الف مرة) أي أننا ميتون رغم أنفاسنا التي تسير في الرئتين لأن الحياة لاتقاس بنشاط النبض بل بما يقدمه المرء من أفعال نبيلة للآخرين أو بين مايعيشه من سعادة حقيقية بعيدة عن النكوص في أي لحظة تطيح بنا الى هاوية الموت، وهذه ناجمة عن الأوضاع السياسية والعدمية والفقر والخوف من المجهول والمستقبل المتأرجح بين الحياة والموت أو بين الرضوخ للواقع المؤلم والمضي به دون التفكير في عواقبه حتى لو كان الموت قريبا منا بين قاب قوسين أو أدنى .
عبد الرزاق اتخذ في قصته العلاقة الحميمية بين الأم والأبن التي لايمكن أن تقاس وفق الأخلاقيات لأن الأم وماتحمله من حب لابنها ذلك الحب غير المشروط فهي تعطي دون مقابل ، وهذا ما أراد ايصاله لنا عبد الرزاق من رسالة واضحة أن الحب اليوم وكل الأخلاقيات الإنسانية أصابها الضبابية لكثرة ما نراه من مآسي لاتحصى وأن الحزن هو الطاغي مهما فعلنا ردمه فهو هنا قد حصر الإنسان أمام الأسوار التي يموت عليها الثوريون دون القابلية على الفرار فهناك السور خلفهم والرصاص من أمامهم مثلما يقول سعدي يوسف ( على الأسوار ولدنا وعلى الأسوار نموت ، فلم نعرف في بابل / غير القتل لأجل القوت ). هكذا هو حال الحزن لدى العراقيين الذي لا مهرب منه ولذلك قال عبد الرزاق في نهاية قصته حين دخلت الأم ورأت ابنها العائد من القبر نائما على سريره فقال (الحزن لا يحتاج قبرا كي يظل حياً). وقبل نهاية القصة أوضح لنا عبد الرزاق من ان الأم كانت في حلم اليقظة أو حلم المنام فلا فرق، مما جعلها تتصور أن ابنها ميت. هذا يعني خوف الأم من شدة العدمية على موت ابنها في أي لحظة لأنها لا تستطيع توفير المعيشة الهانئة له فم الممكن أن يموت بسببٍ أو بآخر. هذا يعني أننا نستنتج من الرمزية الهائلة التي اعتمدها القاص عبد الرزاق من ان الأم هي الوطن والأبن هو الشعب. وهنا الوطن نراه خائفا بشكل كبير على مصائر أبنائه في ظل ظروف مخيفة لا تستطيع حماية الابناء من الشرور وأحد هذه الشرور الكبرى هي الموت.
عبد الرزاق هنا اقترب من الفلم العالمي (الموتى السائرون) والذي يجسد خروج الموتى كأشباح في الشوارع ويفعلون مايفعلون كثأر وانتقام لما عاشوه في الحياة الدنيا من ظلم وحيف. كما وأن القصة تبحث بشكل آخر عن مصير الإنسان وتداعياته وخوفه من الموت فيلجأ الى أساليب أخرى لعلها تخفف من شعوره بالموت والعدم الذي يصيبه فعلى سبيل المثال قال الممثل العالمي الشهير آل باتشينو وهو ينقل الى المشفى ويحتضر من ضربة رصاصة قاتلة فيقول (لا تنقلوني الى المشفى فهناك أطباء أغبياء في الطوارئ، وأنا لا أريد أن أموت، بل أريد الذهاب الى الفردوس) فهي كلمات غير مترابطة خرجت منه في حالة الهذيان، ويموت ويترك الأحلام التي كان بصدد تحقيقها.
عبد الرزاق جسد في هذه القصة أسلوبا آخر تناوله المشاهير وهي (الخروج من اللوحة)، حيث تتناول لوحة معينة لشخص ما أو امرأة معلّقة صورتها في الحائط وهي قد نالت القهر في الحياة، فيصور لنا القاص خروجها من اللوحة في الليل وتجوب الشوارع لتحقيق انتقامها أو ما تريد فعله ثم تعود في النهار الى اللوحة وبأسلوب شيق قل نظيره ومفاده أن المرء يحلم بالعودة بعد الموت لتحقيق ما كان عاجزا عن تحقيقه في الحياة وهذا ما لايمكن أن يكون ولكن المرء بإبداعه يحاول تهدئة نفسه لعله يجد مصيرا آخر أفضل من الموت. وينهي عبد الرزاق جاسم قصته من أن الأم كانت تحلم بممات ابنها مع سطر بسيط في نهاية القصة (الحزن لا يحتاج قبراً كي يحيا)، وهنا نجد مسألة التضاد في الأشياء التي برع بها عبد الرزاق لأن الحزن ساكن فينا ليل نهار وهو حي لا يموت ولا يحتاج قبرا كي يثبت أنه حي ومن الممكن أن يموت كما سائر البشر، أي أن عبد الرزاق صيّر الحزن كائنا بشريا يستطيع أن يفعل ما يشاء بنا ويستطيع أن يكون طاغيا جباراً أو أن يكون بمثابة عزاء لنا لتهدئة مصائبنا وشرورنا القابع في نفوسنا. ويبقى عبد الرزاق قاصا إستطاع أن يبني له صرحا سردياً رصينا يحتوي على الكثير من الشروحات مع البنية والأنثيالات على أكثر من مفصل ومحور وفحوى تجعلنا نبحث عن التأويل كقراء ومستقطبين قادرين على إيجاد الحلول لمعرفة النفس البشرية المتأرجحة بين الشر والخير وحلمها في إنتصار الخير في مشاوير الحياة التي باتت لا تطاق.







