هذه كتابتي الرابعة عن الفعل الروائي لدى الروائية ميس خالد العثمان، كتبتُ عن رواياتها (عرائس الصوف/ 2016) (ثؤلول/ 2016) (غرفة السماء/ 2017) ومقالاتي منشورة ضمن موقعي في الحوار المتمدن وها أنا اكتبُ الآن عن (.. شروط اللعبة؟) والكتاب الخامس اكتفيت بقراءته (صندوق الأربعين) والسبب بالنسبة لي أن كتب السيرة ادخلها من باب الامتاع والمؤانسة، لذا أفقد القدرة في الكتابة عنها، إذن بقيت روايتان ليس بين يديّ (لم يستدل عليه) و(عقيد رقص) كما لديها مجموعات قصصية، وكتب ضمن جنس (سرد ذاتي) و(نصوص سردية)

(أهداب النص)

ثريا الرواية جملة أسمية بصيغة سؤال (مَن سَلّمهم شروط اللعبة؟) ط1/ 2021/ تشكيل للنشر والتوزيع / الكويت) من الممكن أن تحيلني (شروط اللعبة) إلى مفاتيحها. والرواية تستعين بالقارئ وربما تتحايل عليه، بل تشترط عليه القراءة كغواية لمعرفة الفاعل الذي اختزله العنوان بالاسم الموصول (من) يلي ذلك الإهداء وهو من نوعين:

إهداء خاص ثابت ضمن الكتاب المطبوع وهو كالتالي (إلى روح الصديق الفنان (سليمان الياسين) لأنك كنت َ تقرأ حقاً. وتستمتع بتفاصيل ما أكتب.. ولأن نقاشك كان متعة!). وهناك الإهداء المتغير: تكتبه المؤلفة وهي تهدي كتابها للقراء، وأنا أحدهم، كقارئ نوعي منتج هناك ومضة ربما تحرض قراءتي، في قول المؤلفة (في هذه البلدة، فرحان، هو الشاهد الوحيد.. ربما!) يلي ذلك: (ما قبل البدء) وتخطيطات الصور الست، للشخوص الهامة في الرواية. تتوقف قراءتي عند العنوان الفرعي في ص11 (تنويه قبل البدء) هذا التنويه يهب القارئ وجيز هذه الرواية، وهناك مفردة هي وجيز الوجيز، أعني مصطلح (دستوبيا) الذي هو بالضد من اليوتوبيا، وشخصيا تناولت هذا المصطلح في مقالة ٍ من كتابي (زيادة معنى العالم) أعني المدينة الفاسد حكمها يطلق عليها (دستوبيا) أما اليوتوبيا فهي معنية بالمدن الفاضلة. وحين تعترف المؤلفة في السطر الأخير (ولأعترف لكم بأنها ألقت بثقلها على أيامي بلا رحمة مذ شرعت في كتابتها) هذا الشعور ينتقل للقارئ النوعي، لكن المؤلفة تتدارك الأمر السردي، مع ص52، حين سمحت لشخصيات أخرى بتكليم النص وتوسيع الفضاء الروائي

(مراواحت السرد الروائي)

اصوات السرد تتكرر، ويستأثر بالتكرار: صوتان: الكلب فرحان والعارفة أنجالي حتى ص52.. ثم تتنوع السرود وكذلك تراوح في مكانها، كل الشخوص في أمكنتهم، حتى الكلب فرحان تحركاته قصيرة، الشخوص ثابتون، وذاكرة كل منهم تتنقل بين الماضي والراهن المترهل. مع هذه الثوابت هناك مكان مزدوج الشخصية، عندما ينسلخ بتوقيت العاشرة ليلا ً ويصبح مكانا ثان يشبه الأول ويختلف معه، أعني مقهى سعيد، وهو المقهى الوحيد (ينقلب إلى حانة في الليل هو المكان المتحرّك / 81) فهذا المكان الذي يستقبل الميتين في حياتهم، بفضل الساقي سعيد، الذي يمزج لهم سعادات مؤقته، تتشكل منها بطولات وامضة تظهر وتختفي من مخيلاتهم

(*)

من بداية الرواية يتقاسم السرد صوتان: صوت بشري يعود إلى العارفة الهندية (أنجالي آغام) وبالعربية: هدية الوصول، والصوت البشري مسبوقاً بصوت فرحان وهو كلب وفيّ لصاحبه (وهب). الصوتان البشري والكلبي: لا يخاطبان أحدا في الغالب، فموجهات سردها للمتلقي، والحوار بين الكلب والعارفة الهندية: أقل من القليل.. وسعة الصوتين من مفتتح ال سردص12 إلى 52، من خلالهما نعرف ما يجعلنا نتشوق لمعرفة المزيد، وتقنية السرد الروائي بين صوتين، أحيانا يتخذ صيغة التحاور بين أنجالي مع الحاكم، أو مع وهب أو الكلب فرحان.

(معونات السرد)

 الروائية  قدمت معونات السردية من خلال تثبيت عنوانين لكل متكلم، عنونا يخص الفترة والوقت، مثال على ذلك تبدأ الرواية  هكذا(خلال المسافة الفاصلة – شهر الغلال) وتحت هذا العنوان نقرأ العنوان التالي ( فرحان يحكي) أو (وهب يحكي) (الساعي يحكي)  (النوراني يحكي) وفي 78 ندخل وقتا جديدا  يتغير فيه العنوان الأول ويصبح (خلال المسافة الفاصلة – غرة شهر الغلال) وفي ص158 يعود العنوان الأول(قبل المسافة الفاصلة) والعودة إلى الما قبل هي عودة إلى ما قبل المسافة الفاصلة، هنا يتراجع السرد نحو ينابيع الأولى قارعا أجراس التغيير:

بشهادة السارد (وهب) (لقد ابتدأ المخاض الآمل، في استعادة الحرية المستلبة منذ سنوات جاوزت العشرة/ 158) وفي ص162 يغادر السرد ماضيه ويلتحق بحاضره (خلال المسافة الفاصلة – شهر الغلال) في ص172 يتقدم السرد مسرعا، معلنا من خلال المسافة الفاصلة إلى (غُرة شهر العويل). وفي ص192 نكون مع (اليوم الأخير من شهر العويل) وفي ص195 نكون مع الثلث الثالث من الوقت وهو (غرة شهر البدء) يليه المتغير الثالث (بعد المسافة الفاصلة – الأسبوع الأول من شهر البدء) ويتكرر ذلك ثلاث مرات.. إذن المساحة السردية بتوقيت: الما قبل / الأثناء/ الما بعد

(تجنيس مزدوج)

شخصيا كقارئ أضع هذه الرواية في حقل (مسرواية) لأن عمودها الفقري هو المحاورات، وهذا الجنس الأدبي تحسب ريادته العراقية والعربية للقاص والروائي عبد الحق فاضل وليس للأديب توفيق الحكيم لأن رواية (مجنونان) لعبد الحق فاضل صدرت في 1936/ عبد الحق فاضل / الأعمال الكاملة/ وزارة الثقافة والإعلام/ الجمهورية العراقية/ 199/ بغداد). وهذا الجنس الروائي يغازل الطرفين: المسرح والسينما، فهو جاهز لتدوير دفته السردية، فيكون مسرحية أو فيلما

(تكليم النفس)

أحينا الأصوات سردها ينتسب للحوار الجواني، أعني كلام الذات مع ذاتها، وتقترب هذه الأصوات من التذكر والاعتراف. نتوقف عند الكلب فرحان في ص12 فهو يخبرنا (اختفى الشعب، صمتت الشوارع تماماً، هدأت أصوات أهل البلدة العالية الضجيج) في ص19 تخبرنا العارفة الهندية أنجالي، أن الملك يطلب منها أن ترمّم ما سقط منه وما لم يسقط!! فعرفت أنجالي أن الملك يطلب منها أن تجد له (سحراً، أو طلسماً أو دواءً ما يُعطّل من ذاكرته ما يريد.. / 20) ما يطلب الطاغية هو وأد ما تبقى من ضميره، الذي يعرض على شاشة ذاكرته جرائمه وطغيانه.. مع شعب بلدة (الضوع) فذاكرة (الساعي) في آخر الليل تصير أنشوطة يتدلى منها، وهو يريد من العارفة الهندية (محو ذاكرتي منذ الطفولة البائسة حتى اليوم السابق لتسلّمي عرش هذه البلدة/ 36).. ربما نجحت العارفة في محو ذاكرته، لكنها لا قدرة لها على محو ذواكر ضحايا بلدة الضوع التي (أفسد الساعي نصاعتهم وباتوا في الخشية طويلا وماتت مجسّات الرحمة في دائرة تضمّ سيدات جميلات ترتدين الألوان الصارخة بالأنوثة.. / 43).. لكن لا علاج يصلح اعوجاج (عجب القوّاد)، وشريكتاه (قادحة) و(هيّنة).. وفي اليوم السابع من شهر التبريكات، يوم ولادة الابن الملكي، في هذا اليوم تحولت بفعل عجب القواد وشريكتيه، تحولت بلدة (الضوع) إلى سعير. /65

(وعي جمعي مستلب)

المدان مَن...؟ الكل مدان والسبب هو غياب الوعي الجمعي لشعب بلدة (الضوع) وتحديدا (يوم لم يكترث أحد لما فعله الرجل الغريب، واستُغفلتم بأياديكم وصمتكم الطويل عن كل شيء.. / 49) لا مسافة في نغمية الملفوظ بين مفردتي (الضوع) و(الخضوع) فقد تغلبَ السيء السمعة على البلدة من خلال خضوعهم الجمعي، فالرجل المشبوه (همه تدجين الشعب المُستلب وكأنه قد جاء وفق وعدٍ انتقامي مع الدنيا بأسرها، وكأن فتيل البداية للحريق بعد ذاته هو شعب (الضوع).. / 51).. سؤالي أن الساعي لم يتسبب في تخضيعهم، فهذا الشعب وبشهادة (وهب) أن شعب (الضوع) رفقاء المذلة وقد حكمهم (القوّاد عجب) دون مقاومة تذكر!! وهم شعب كان يقتات على الموت،

والعجيب أن من سيحرر السجناء ليس المواطنين في بلدة الضوع، بل الأجنبي المتجسد في شخصية إنجاني!!، فما أن يراها السجين وهب حتى تتغير أحواله، يتوقف الطحلب عند التمدد في جدران الزنزانة وفيه جسده، وهي تخاطبه ويرى وهب ورفقته في أنجالي: قدحة نار زرقاء أتت من خارج الزمن. ويرونها معجزة ً.

(الآخر يحرر الذات)

تحرير بلدة (الضوع) من خلال معجزة خارجية تجسدها أنجالي، وسقوط بلدة (الضوع) من خلال قوة خارجية يمثلها (عجب القوّاد)!!

إذن بلدة (الضوع) بضاعة تباع وتشترى من قبل قوى خارجية، وشعب الضوع لا يملك إلا ثورة ورقية، منا شير مكتوب فيها السيرة السيئة للحاكم، وتنتشر هذه المناشير في أرجاء البلاد.

(غموض هوية الأمكنة)

في منتصف سبعينات القرن الماضي، صدرت الرواية المدوية (شرق المتوسط) للروائي عبد الرحمن منيف، وفي تموز 1979 صدر (سباق المسافات الطويلة) 1993 صدرت له (الآن... وهنا أو شرق المتوسط مرة أخرى) لم يعلن هويتي: الزمان والمكان، وكذلك في خماسية (مدن الملح).. وما يفعله الصانع الأمهر الروائي منيف – طيّب الله ثراه- ليس خارج التغطية، بل يجسد حرية الإبداع، ويتحايل على الرقيب العربي، ومن نافل القول يمكن أن ذلك في كل أرض الله

( ؟)

لدي تساؤل حول أيديولوجية الرواية التي تدعو لنبذ العنف وتشجيع اللاعنف، هو تنظير إنساني بديع، لكن النظريات رمادية اللون.. وشجرة الحياة هي الخضراء فقط. العظيم غاندي أطلق حمامات السلام في كافة نواحي التعامل اليومي والحراك السياسي وبسبب هذه الإنسانية الناصعة أصبح غاندي ضحيتها

عرض مقالات: