يقودنا حسام آل زوين في مسيرته النضالية الشاقة، ليروي لنا اوجاعه على مدى (170) صفحة من السرد القصصي المتواصل في روايته الموسومة "المتألمُ المتأمل". اذ يعود بالذاكرة الى ايام حملة الانفال* سيئة الصيت، التي شنها نظام البعث الدكتاتوري ضد مدن وقرى وقصبات منطقة كوردستان العراق، لتهجير الاهالي وفرض الاقامة عليهم في مجمعات قسرية تحت رقابة اجهزته الامنية وحراب عساكره الاوباش. ولم يبق امام حركة ثوار الجبل (الانصار والبيشمركة) سوى مواصلة الدفاع عن الشعب الكوردي وانقاذ العوائل والاطفال والشيوخ من ويلات هذه الحملة المسعورة.

هذه هي خلفية الرحلة التي انطلق منها بطل الرواية "عادل" نحو عالم المنفى من جديد عبر البوابة الشرقية، سالكاً ذات الطريق الذي مر عليه المئات من رفاقه المناضلين الاخرين، الذين توجسوا الخوف من الوقوع في مخالب اجهزة امن البلد المجاور، وصولاً الى مبتغاهم النهائي بان تطأ اقدامهم بلد الاشتراكية الاول - الاتحاد السوفييتي، حالمين بالدفء الرفاقي والعشاء الساخن والمكان البارد!

ينقلنا الكاتب في سردياته الى اجواء اختلاف ردود فعل الرفاق ازاء التعامل الصارم من قبل حرس الحدود السوفييتي، الذي زج بهم في زنازين مهربي الترياق لغاية تبيان امرهم. وكانت ردود الافعال ما بين الضحك والاستهزاء والاشمئزاز والغضب والزعل والقبول والرضى والصمت والحسرة، يندبون حظهم العاثر بعد كل هذه السنين من النضال.

  • أهذا هو التثمين المنتظر واللائق من بلـد الاشتراكية لرفاق امضوا زهرة شبابهم بالـذود عن افكار العدالة الاجتماعية والمساواة والحرية؟!

يواصل الراوي سرد تفاصيل سيرته الذاتية المليئة بالمعاناة من خلال شخصية بطل الرواية المناضل "عادل"، الذي جاب جبال كوردستان - الى جانب رفاقه الثوار المكافحين من اجل بديل ديمقراطي يؤمن الحياة الكريمة والحريات العامة لشعبهم-، متحدين صعوبات الطبيعة والحياة.. مروراً بمعاناته مع الدراسة الاكاديمية في الاتحاد السوفييتي قبل انهياره العاصف والعمل بمشاريع هندسية ضمن اختصاصه، والبحث الشاق عن عمل في بلدان الخليج العربي، وعمله في احدى الشركات الهندسية بدولة الامارات العربية المتحدة ومقارناته بين ظروف العمل في بلد اشتراكي وبلد رأسمالي، وخيبة امله عندما يعود الى الوطن الممزق بالحروب والكراهية والخراب، ويبقى مصراً على العودة الى المنزل الاول.

ما بين الالم والامل، وما بين هذين التوأمين، ينقلنا الكاتب الى اجواء مدينته (وطنه) بناسها الطيبين وبيوتها المتلاصقة حد التداخل، حالماً بعودة تلك الايام من زمن اللاحروب وبلا دكتاتوريات الاستبداد والقمع والفساد، متمسكاً رغم كل ما لمسه من خراب روحي وعمراني بالعيش وسط الاهل والاصدقاء، الذين ما زالوا قابضين على الجمر، والحالمين بمستقبل زاهر ومشرق.

بعد كل تلك الالام، يقف "عادل" متأملاً عنيداً لا يأبه بما فعلت به الغربة والايام، يحلو له شروق الشمس وتحلو له طيور النورس تتقافز، ترفرف، ترقص على ضفتي نهر "الفـرات"، وتتهادى شموع النذور وأمنيات الناهـدات الحالمات طافية على كربة خشب تداعب الموج عند الغروب على نهر "دجلـة" الخير. ويحلو له ان يردد قصيدة ابن الوردي:

"قِفْ وِقفَةَ المتألِّمِ المتأمِّلِ

                           بمعرةِ النعمانِ وانظرْ بي ولي

تلكَ المعاهدُ والمعالمُ والربى

                            وملاعبُ الغزلانِ والمتغزلِ

وطنٌ يخيِّلُ لي تخيُّله الصِبا

                            في ذكرهِ ذكرُ الزمانِ الأولِ

زمنٌ قطعناهُ وكنّا صبْيةً

                          لا يسألونَ عنِ السوادِ المقبلِ".

--------------------------------------------

* حملة عسكرية شنها نظام البعث الدكتاتوري ضد سكان قرى كوردستان العراق، واوكلت قيادتها الى المجرم المقبور علي حسن المجيد، الذي كان يشغل منصب أمين سر مكتب الشمال لحزب البعث المنحل وبمثابة الحاكم العسكري للمنطقة. وقد بدأت حملة الأنفال في عام 1986 واستمرّت حتى عام 1989، وشملت استخدام الهجمات البرية والقصف الجوي والتدمير المنظم للمستوطنات والترحيل الجماعي وفرق الإعدام والحرب الكيمياوية، التي جعلت المجيد يحصل على لقب "علي الكيمياوي". وكانت الهجمات جزءاً من حملة طويلة دمّرت ما يقارب (4500) قرية كوردية و(31) قرية مسيحية آشورية على الأقل في مناطق شمال العراق ونزوح ما لا يقل عن مليون من سكان اقليم كوردستان البالغ عددهم آنذاك ما يقرب من (3.5) مليون نسمة. وجمعت منظمة العفو الدولية أسماء أكثر من (17000) شخص اختفوا في عام 1988. وقد وُصفت الحملة بأنها عمليات إبادة جماعية في طبيعتها.

 

عرض مقالات: