طريق الشعب – لندن (خاص)
كانت أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن لشهر آب ٢٠٢٥، امسية شعرية للشاعر والطبيب الأستاذ حسين عنبر الركابي، وكان فيها ما يثير بعض الأسئلة حول الشعر والشعراء وطرق الإلقاء وطبيعة الصور والمواضيع.
في كراس رولان بارت المثير (لذة النص) وكذلك في مقولة جاك دريدا: " لا شيء خارج النص " وما قدمه لنا ميشيل فوكو في (الكلمات والأشياء) ما يكفي من مدلولات حول المعنى والقيمة المعرفية للنصوص، وإذا أضفنا لكل هذا عبارة الزاهد والمتصوف الشهير النفري التي تقول: " كلما اتسعت الرؤيا، ضاقت العبارة " فسنجد أنفسنا امام طلسم وسديم من الأسئلة حول ما يمكن ان نأخذ من كلمات الشاعر أي شاعر، وإذا آمنا بمقولة (موت المؤلف) لبارت نفسه وقصدية المؤلف لأمبيرتو إيكو، ستكون عدتنا أكثر تعقيداً وصعوبة.
لقد دار حديث طويل، بين الحضور والضيف، حول تأويل النصوص وأبعادها المترامية والغريبة أحيانا على كاتب النصوص نفسه، وبناءً على مقولات علم النفس الفرويدي، فنحن هنا امام جدار صلد عصي على التحليل والتفسير وفهم ما قصد إليه المؤلف، وقد نستغرب حتى الدهشة من الصور التي توصلنا اليها التآويل الى محطات لم تك في بال المؤلف وملايين القراء.
تبدو هذه المقدمة ضرورية، عند تناول أي نص أدبي او بصري وحتى مسرحي بمعناه الحركي أو النص الموسيقي وفن الرقص ولو أردتم أبعد فحتى حركات الجسد عند البكاء والحزن او اللطم والنواح في حياة الإنسان وطقوس الدين الحزينة وحفلات الأعياد والأفراح كذلك.
كان شاعر الأمسية حسين عنبرالركابي بطريقة إلقائه وطبيعة قصائده، قد أثار العديد من التساؤلات ، فهو لم يلق قصائده كغيره من الشعراء ، فلم نسمع صوته يصعد ويهبط او يعلو ويخفت ، مثل غيره كما تعودنا عليه ، كان يسمعنا كلماته بهدوء ، بعبارات ذات رنين اقرب الى الهمس وكمن يتكلم مع نفسه ، وكانت قصائده أيضا غير مالوفة ، فقد كتب نصا شعرياً عن داء الكلب وعبر عن عوالم عديدة، عالم الطفل الذي أرعبه الكلب المهاجم ، عالم اطباء البيطرة، الذين يريدون علاج هذا المرض ، عالم الكلب المريض ( المكلوب ) ومأساته وعالم الوسط او المحيط الذي جرت فيه محاولة عض الطفل . موضوعة غريبة على قراء الشعر عندنا وقد يرون فيها ما ليس له ضرورة، لكن من يمنع شاعراً، أراد ان يتحدث عن موضوعٍ مثيرٍ أو الذي يلح عليه ويقض مضجعه؟
نظم الشاعرقصيدة أيضاً عن المحاورة التي جرت بين صعصعة أحد أصحاب الأمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان عندما آلت الأمور إليه بعد تنازل الحسن بن علي عن الخلافة. مقدما لنا معنى حفظ العهد وعدم الخوف من قول الحق في وجه حاكم مثل معاوية الذي كان يبغض آل النبي وعلي واولاده بالذات. معطياً صورة للأنسان في مثل هذه المواقف الحرجة وكذلك مؤكداً على الثبات وعدم الخوف مهما يكن.
ومن القصائد التي لها وقع غير مألوف، قطعته الشعرية عن حواء وآدم وعالمهما الأخضر والشجرة التي كانت سببا في حرمانهما من الجنة وهبوطهما الى الأرض. كما كان لغزة حصتها من الامسية فكانت القصيدة التي خصها بها الشاعر محط إهتمام الحضور.
كانت مداخلات الحضور قيمة وواعية وذات أفق واسع بحيث تناولت النصوص وكذلك مواضيعها ومن جملة التساؤلات ما طرحه الفنان السينمائي علي كامل حول حرية القارىء في تأويل النص وقضية القصدية عند الشاعر، لأن هذا قد يحد من مخيلة المتلقي ويسد عليه باب الصور الخاص به للنص المطروح، اما الشاعرة المميزة دلال جويد فسألت عن الجمهور الذي يتوجه إليه الشاعروضرورة أن يصل النص الى المتلقي بدون شرح او تفسير من قبل الشاعر، وكانت الفنانة والروائية ساهرة سعيد فقد سألت عن صعوبة النص واللغة المقعرة التي أحستها في قصائد الشاعر، وكان سؤال أستاذة الأدب الإنكليزي السيدة مريم شرارة هو : إذا كانت هناك قصيدة عمودية ، فهل هناك قصيدة أفقية ؟ .
وقد اجاب الشاعر على الأسئلة وبين موقفه من موضوعة الفن للفن وما يترتب عليها من إلغاء للمعنى وقصدية المبدع، التي هي سبب نشوء النص بالذات. كما أجاب على موضوعة التأويل ومدى احقيته في تفسير النص، وهو يرى ان ليس كل ما يأتينا من الخارج علينا القبول به. ثم تطرق لقصيدة النثر واعطى لها مكانتها التي إحتلتها عن جدارة وكذلك قصيدة التفعيلة التي لم تبتعد عن القافية والوزن كثيراً وظلت ملتزمة ببحور الفراهيدي، وأنكر صعوبة نصوصه وشبهها ببساطة نصوص الروائي الكبير نجيب محفوظ، وسهولة فهمها. لكنه أشار الى ضرورة ان يتحلى المتصدي للنصوص بقدر من المعرفة والاستيعاب لمشاكل النص الشعري.
كان مقدم الأمسية الصحفي اللبناني الأستاذ جعفر الأحمر بطرحه لتساؤلاته المركزة للضيف، موسعا أفق النقاش وشارحاً بعض المعاني، موفقاً جداً وادار الأمسية بحرفية واقتدار فشكراً له
ومن نماذج القصائد التي ألقاها الشاعر الضيف هذه المقاطع المختلفة:
قصةٌ قصيرةٌ عن امرأةٍ تحتَ شجرةٍ في أرضٍ خضراء.
آدَمٌ أضحَتْ خُطاهُ اسْتَهَلَّتْ حينَ صارَ الصُبحُ في السَهْلِ مٌفْلَتْ.
قادَهُ السَّهْوُ لِحَوَّاءَ سارتْ لِاعْتِلاءِ التَّلِ حَيثُ استقَلَّتْ.
جَنْبَ مُمْتَدٍّ مِنَ اللونِ خَضْرٍ مُزْهِرِ الأرجاءِ فيهِ استَظَلَّتْ.
*******
رَمَى الأخضَرُ المُنْساقُ رَفَّاً حَوالَها
وما شاعَ من زَهرٍ، على الرأسِ شالَها،
فَحاطَ بأسوارٍ مِنَ الرِّفْقِ وَجْهَها،
وَلَفَّعَ بالتَّطوافِ ما شابَ بالَها.
حَمَامٌ مِنَ الدارِ العَتيقَةِ مُوغِلٌ
بِجَوفِ سماءٍ كانَ مِنها جَمالَها.
منازِلُ إذْ تَستَطْلِعُ العَينُ بَعضَها،
أتَتْ رَغَباتُ النَفسِ تَبغِي اكتِمالَها.
ومن حوار بين صعصعة إبن صوحان ومعاوية إبن أبي سفيان
حول افضلية بيت النبي على بيوت قريش
لقد كان أبيضَ خَصبَ الغَدَقْ.
وما كان يَسألُ عما تَولّى وعمّا مَرَقْ.
وكان عظيمَ الصِلاءِ صَبِيبَ المَرَقْ[1]
وللناسِ غيثَ السَماءِ إذا ما دَفَقْ.
لقد كانَ يَزكو على عاتِقَيــــــــه ِالعَرَقْ.
أجابَ ابنُ سُفيانَ في غَيضةِ المُكبِــرِ:-
- فماذا تَبَقَيْتَ وَيحَكَ من مَفخَـــــرِ،
لِذا الحيِّ أعْني قُرَيشَ العُلى الأظهَرِ؟
فقالَ ابنُ صَوحانَ ذي الناطقِ الأقدَرِ:
- تَركتُ لهم صَفوةَ الكاثِرِ الأوفَرِ،
وما ليس يَصلُحُ إلاّ لَدى الأجدَرِ،
تَرَكتُ إليهم قِرى الخُبزِ والأحمَرِ،[2]
جُلوسَ السَريرِ كذلكَ والمِنبَـــــرِ،
ومُلكاً إليهِمْ تَركتُ إلى المَحشَـــــــــرِ،
وأنَّــــى يَكونُ لذلكَ مِن مُنكِــــــــــــــــرِ،
وهُم للإلهِ مَنـــــــارٌ على أرضِه،
وأنْجُمُهُ في السماءِ لَدى المُبصِرِ؟
أجابَ ابنُ سُفيانَ في نَشوةٍ تَعتَري:-
صَدَقتَ ابنَ صوحانَ من قائلٍ مُخبِرِ.
فَجاءَ الجَوابُ جَدا مِقوَلٍ حــــازِمِ:
- عَدَتْكَ وقَومَكَ مِن ذا يَدُ القاسِمِ.
- "لِماذا عَدَتْ " قالَ "وَيلَكَ مِن آثِم؟"
- لأهْلِ الجَحيمِ جَرَى الويلُ والظالِمِ،
فَتِلكَ لهُم لا سِواهُم بَني هاشِـــــــمِ.
من حالات الطنطل
الّلامُ في اسْمِي لا تكونُ رَخوةً مُختَزَلـةْ.
والنونُ لا بُدَّ لها من رَنَّـةٍ وجَلجَاــةْ.
لا يَنْطِقُ الطاءَ فَمٌ إذا بَراهـا خَجِلــة.
اسمي بِغَيرِ لفظِه الصَحيحِ بَدءُ مُعضِلـة.
بعضُ شُجوني هذه اللامُ الركَيكةُ المُهَلهَلة.
******
أسكَنَني الإنسانُ في دُروبِه المُنعَزِلــــة.
وخَصّني بالليلِ حينما يَبُثُّ أوَّلَــــه،
لكي أحِلَّ في الظلامِ، حَقَّــهُ وأخْيِلَــه.
أرومُ للبَـــرِّ عنِ النَّفاذِ أنْ أُحَوِّلَـــه.
وأنفُخُ الصمتَ على النخيلِ حتّى أُجفِله،
كيْ يُربِكَ القلبُ بِمِشيَةِ الوَحيدِ أرجُلَه،
أصيرُ في قَفاهُ من يَــــدٍ تَطُوفُ أنمُلة.
شَريطَتايَ عُتمَةٌ وخَلـــوَةٌ مُتّصِــلةـ
******
سيرة موجزة للشاعر حســــين عنبر الركابي
مكان الميلاد: مدينة البصرة.
مكان الإقامة: البصرة ولندن.
عضو اتحاد الأدباء والكتاب في العراق.
صدرت له لحد الآن أربع مجاميع شعرية:
1- مجموعة " قصائد عمودية" عن دار الرافد في لندن سنة 1997.
2- مجموعة " قصة الخليقة" عن دار العودة في بيروت سنة 2003.
3- مجموعة " بلدُ العراق وبَحرُ المُنسَرِح" عن دار الحكمة في لندن سنة 2014.
4- مجموعة "مَطرٌ في الوعي" عن دار المكتبة الأهلية في البصرة سنة 2022
- نشر دراسة نقدية عن القاص الإنكليزي جورج أوروَل.
- نَظَّر لموسيقى العمود كأساس للتنغيم الشعري في اللغة العربية دون التنكّر للقوالب الحديثة في الشعر.
- نَظَّر، في دراسية، في الشرائط المثلى لتلقي الشعر.
- طبيب تخرّج في كلية الطب جامعة البصرة.
- عضو الكلية الملكية لأطباء الباطنية- دبلن.
![]() |
![]() |
![]() |