الكاتب الروائي يوسف أبو الفوز، مواليد السماوة ١٩٥٦، خلال رحلته الطويلة في النضال بحثا عن العدالة الاجتماعية التي نذر نفسه لها، من جنوب العراق الى شماله ثم تغربه في الكويت وايران وسوريا وصولا الى فنلندا عام ١٩٩٥ حيث أستقر به النوى ليكون وطنه الثاني، حاملا في حقيبته أهله وجيرانه واصدقاءه والشوارع والدكاكين والماء والهواء وحتى قطط الشوارع، أحتفظ في صندوق ذاكرته بمواقف واحداث وشخوص وقصص حية لمن شاركه رحلة البحث عن الوطن السعيد، يفتح الصندوق رويدا ليستثمر تلك الذاكرة ويكتب لنا روايات تحمل في بواطنها هموم المهاجرين وامالهم وطموحهم وتطلعاتهم، فتفتح تحقيقا يغوص فيه في حيواتٍ ملغمة بالإسرار ولكنها لا تحاكم ابطالها بل إنها تترك لهم هذه المهمة ليحاكموا انفسهم بأنفسهم كما رأينا في طائر الدهشة (المدى ـ دمشق 1999)، تحت سماء القطب (دار موكرياني ـ اربيل 2010)، كوابيس هلنسكي (دار المدى ـ دمشق 2011)، جريمة لم تكتبها آجاثا كريستي (الهيئة المصرية العامة للكتاب ـ القاهرة 2020) والعثة (دار أبجد ـ بغداد 2025) ليصوغ لنا أقصوصة (نفتخر بها) كما قال عنه الروائي فؤاد التكرلي. ويقدم لنا (فنا صادقا) كما وصفه الناقد ياسين النصير واضاف عنه بانه (يكتب القصة الناضجة واللماحة والسهلة فمادتها اشخاص وحالات وفكرها ينمو في خضم غابة من الاحزان العراقية المفرحة المحزنة على ارصفة وبارات وحانات المدن الغربية (وهو بذلك يقترب من حياة المغتربين ايما اقتراب (ليمنحهم امانا روحيا وتماسكا داخليا لتكون قصصا مضادة للخيبة) كما وصفها الناقد حسين كركوش. يوسف ابو الفوز لديه (قدرة متميزة على شطر النص دون الشعور بوجود الفاصلة أو الفجوة بين ما ابتدأه وما اراد الوصول اليه) كما أخبرنا الناقد شاكر رزيج فرج، وهو (مازال يطير بجناحين احدهما عراقي والاخر فنلندي) كما وصفه الشاعر الفنلندي ماركو كورفولا.

وان كنت على مشارف رواية "العثة" ولم تغص في بحرها بعد، فدعني أحرق لك بعض من اسرارها. يقدم لنا الكاتب يوسف ابو الفوز في روايته العثة تجربة غنية بصور متنوعة للتحديات التي يواجهها العراقيون في المهجر:

ــ تستعرض الرواية قصصا لما تمر به الجالية العراقية من احداث وظروف ومطبات وانخفاضات وازمات وتطلعات، وكأني بهم زهرة أوركيد مزروعة ضمن حقول الورد، فيجد المغترب نفسه في صراع بين الاندماج في مجتمع لا يشبهه ومحاولة الاقتراب منه عبر العلاقات المعقدة والشائكة وبين ازمة الحفاظ على الهوية شكلا ومضموما.

ــ تبدأ الرواية بوصف مشهد جنائزي غامض لشخصية مجهولة واشخاص لا تربطهم علاقة متينة مع المتوفى، فأحاديث الجّنازة تتنوع بين السياسة والدين وحالة الطقس وغيرها ويظل هذا المشهد غامضا حتى نهاية الرواية التي جاءت في 300 صفحة من القطع المتوسط.

ـــ يستخدم الكاتب تقنية فلاش باك (التداعي) للكشف عن بعض احداث الرواية والانتقال بسلاسة بين ازمنة وامكنة مختلفة، بل أحيانا نجد تداعيا داخل التداعي يعزز التشويق في سرد الاحداث.

ـــ لجأ يوسف ابو الفوز الى اعتماد الرمزيات التي منحت الرواية عمقا فكريا ومعرفيا، فمفردة العثة التي تكفلت عنوان الرواية ولازمتها في كثير من السرديات، تجاوزت الصورة الشكلية لحشرة العثة لتؤول الى ما تسببه هذه الحشرة من خراب يأكل المادة الخام ويذروها رمادا مثلما تأكل العثة الفكرية أدمغة البشر لتتركهم مع رماد الحزن واوجاع الندم. وزهرة الاوركيد التي يشبه سامي بها زوجته شمائل ويحملها وشما فوق يده علامة على خساراته. ان اختيار هذه الزهرة جاء متناغما مع شخصية شمائل الفريدة والمبهجة والملونة لما تتمتع به هذه الزهرة من جمال اخاذ والوان زاهية اضافة لكونها نبتة معمرة كما لم يغفل كونها مصدرا لنكهة الفانيلا التي يطيب بها الطعام وكأنه يشير لما تمنحه شمائل من نكهة فريدة ولذيذة لحياته.

ـــ الايقاع الزمني السريع والانتقالات سريعة بين المشاهد منحت الرواية طابعا سينمائيا خاص تتخللها استراحات وصفية.

ـــ أن رواية العثة هي رحلة البحث عن الذات، والشخصيات الرئيسية في الرواية وحتى الثانوية شخصيات مركبة لا تسير بخط مستقيم واحد بل تتعرج وتتفرع مثل حياة الانسان والكاتب بذلك يمنح الروح لأبطال من الورق، فشخصية سامي بطل الرواية متناقضة في كثير من الاحيان فهي اصيلة وفية في جوهرها ولكنها مع هذا نجدها تخون مبادئها الاجتماعية وتستمر في الخيانة دون مبررات مقنعة مع انه يظل يحتفظ بمشاعر الحب والوفاء لحبيبته وصديقه، وحتى في رحلة بحثه الجادة عن الشخصية التي تتمحور احداث الرواية حول اختفائها، بينما احتفظت شمائل بشخصية المرأة العراقية الشابة الحنونة المتسامحة الصبورة التي تستنفذ كل طاقتها قبل ان يتجلد قلبها وتنتفض لنفسها في لحظة مصيرية بالنسبة لها ولاطفالها.

ـــ وتحدثنا الفتاة الاوكرانية المنكوبة بالحرب في بلدها بوضوح وألم عن العنصرية التي يعاني منها المهاجرون حين اضطرت لتسكت عن حقها بعد تعرضها للاغتصاب.

ــــ تكسر الرواية تابوهات السياسة والدين والجنس وتتحدث الشخصيات بحرية تامة دون خوف او تورية او تلميح كما نرى في ما سواها من روايات عراقية فتعكس لنا ما يتمتع به الكاتب المغترب من مساحات مضافة من الحرية بعيدا عن القيود المجتمعية التي تمسك بقلم الكاتب وتحجّب مفرداته بحجاب الخوف والخجل.

ــ وجاءت الشخصيات الفنلندية مفعمة بالحياة والحماس والتناقض، متناغمة مع الاحداث، وكانت جسرا من خلاله مرر لنا الكاتب شيئا عن الثقافة الفنلندية، طقوس الحياة، الاساطير والأفكار.

ــــ أيضا، ان وجود شخصية الكاتب بأسمه المعروف "يوسف ابو الفوز" كأحد شخصيات الرواية، وان كان بشكل ثانوي، فهي كانت حيلة ذكية لإضفاء طابع الواقعية على احداث الرواية ولتوثيق احداث تقترب من الحقيقة وان كانت متخيلة.

  ( الصورة المرفقة الروائية زينب فاضل المرشدي تقدم يوسف أبو الفوز في البيت التراثي في  السماوة 2024 ) ..

 * المدى العراقية عدد يوم 22 حزيران 2025 

عرض مقالات: