في طبعة أنيقة صادرة عن مؤسسة أبجد للترجمة و النشر والتوزيع في محافظة بابل بالعراق، صدر في أوائل العام الجاري كتاب" التراث وعوامل التطور الحضاري" من تأليف د. حسين قاسم العزيز، وجمع وإعداد سلام القريني. والمؤلف يُعد علماً كبيراً من أعلام العراق الكبيرة في التاريخ، عاش خلال فترة من أهم فترات العراق الحديث، إذ وُلد في 1922 بعد عامين من ثورة العشرين وبدايات تأسس الدولة العراقية وغادر دنيانا على أعتاب انتهاء القرن في أوج الحصار الظالم المفروض على الشعب العراقي الذي كان يمسك بخناق الشعب لا بخناق دكتاتوره الذي تسبب فيه بعد خوضه حروب إقليمية خاسرة لا ناقة لشعبه فيها ولا بعير.
وإذ يتبنى مؤرخنا الكبير قاسم العزيز المدرسة المادية التاريخية في تدوين التاريخ، نابذاً مدرسة السرد الوصفي، فإن أسلوبه في عرض الأحداث التاريخية يستند إلى تحليلها تحليلاً علمياً، دون إخفاء تحيزه للسواد الأعظم من الطبقات الاجتماعية المهمشة والتي لطالما يتم اقصاء أدوارها البطولية عادة في سرديات المؤرخين لتاريخنا العربي، معتمداً في ذلك على أوثق المصادر، ذلك بأنه مهووس بالتحري في دراساته وبحوثه التاريخية عن الحقيقة أو ما يقاربها عند وقوعه في تضارب المعلومات والالتباسات في المصادر والمراجع التي بين يديه. وهو بذلك يقتدي و يسير على نهج جيل الرواد المؤرخين الكبار ممن عاصرهم أو سبقوه في تدوين التاريخ .وهو إلى ذلك - كما ذكر الدكتور عدنان في تقديمه للكتاب- رجل سياسة، مارسها منذ مطلع شبابه على طريق المبادئ الوطنية التقدمية في محاربة الاستعمار وتحقيق الاستقلال الوطني، ولم يحد عن هذا النهج البتة حتى وفاته، كما زاول العمل الصحفي وترأس بكفاءة صحيفة " الفكر الجديد" خلال الفترة 1972- 1979.ويمكن الاستخلاص من قراءة كتابه " التراث وعوامل التطور الحضاري" بأنه لم يكن مؤرخا فحسب، بل كان مفكراً جدلياً ماركسياً، فقد استعرض وناقش- على سبيل المثال- بشكل علمي في الفصل الخامس مسألة التشكيلات الخمس لنمط الإنتاج التي مر بها التاريخ البشري ( الشيوعية البدائية والمجتمع العبودي والإقطاع والرأسمالية والاشتراكية التي تتوج بالشيوعية ) وعرض بأمانة لدراسات وتباينات الباحثين في بلدان المنظومة الاشتراكية حولها قبل انهيار هذه المنظومة والذي كان قبيل رحيل مؤرخنا باحثنا عن دنيانا ببضع بسنوات ).
والحال فإن الجهد الكبير الذي قام به القريني لاطلاع القارئ على دراسات مؤرخنا الكبير قاسم العزيز، لا يقل أهمية عن كتاب هذا الأخير، إذ أحسب أن عملية الجمع والإعداد في هذا الكتاب في تكثيف يُغبط عليه ليست باليسيرة، ذلك بأن عملية الجمع والإعداد فعلاوة أحسبها ليست عملية شاقة فحسب، بل تتطلب التنسيق والإفراز المضني وهو ينبش بين كتب المؤرخ القديمة والحديثة، فهذا العمل في حد ذاته يُعد إبداعاً في العمل البحثي لا مجرد جمع وصف، كما يفعل كثرة من المعدين لمواد تاريخية أو غيرها من المواد وتتصدر أسمائهم على أغلفة الكتب. إنه عمل إن جاز لنا التعبير أشبه بالترجمة الإبداعية الاحترافية للمترجمين الكبار التي تأخذ نصوص ترجماتهم لب القارئ بعظمة مطابقتها أو مقاربتها للنص الأجنبي المترجم إلى العربية. ونحن ننتظر بفارغ الصبر والشوق صدور الكتاب الثاني الموسوم " دراسات في التاريخ والأدب" و الذي نوّه عنه الدكتور سعيد عدنان في مقدمته الضافية.
والكتاب الذي بين أيدينا يتكون من فصلين رئيسيين: الأول ويشمل العناوين التالية: مؤثرات التفاعل الحضاري، عوامل التفاعل الحضاري، المجتمع العبودي. أما الفصل الثاني فتندرج تحته العناوين التالية: أساس تمارين وجهات النظر، عوامل التطور الحضاري، المجتمع العبودي، أما القسم الثاني فتندرج تحته دوافع الهجرات، وكتاب الخراج لقدامة ببن جعفر، مسائل في التراث، كتاب الخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر، بعض الملاحظات السريعة، ويُختتم الكتاب بالسيرة الذاتية لجامع الكتاب ومعده.