من للغريب؟ إذا ماحن للوطن واشتاق للأهل، للأحباب، للسكن
كانت أمسية أغانٍ صدح بها رعد بركات للوطن، تلك هي أمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن ذات التسلسل الثالث والعشرين بعد المئة وقد كانت بمثابة احتفال بذكرى مرور أربعة عشر عاما على تأسيس المقهى ولذا ابتدأ الفنان فيصل لعيبي صاحي مرحبا باسم المقهى بزبائنه الكرام قائلاً:" أهلا وسهلا بكم في مقهاكم في دخوله عامه الخامس عشر ، وأكيد المقهى سيستمر بنشاطه، بدعمكم ، بوقوفكم معنا، بكل الوسائل المادية والمعنوية، وأكيد أيضا ينبغي ان نشكر كل أولئك الذين قدموا لنا العون خلال السنوات الأربع عشرة التي مضت ، وكذلك الأساتذة الأفاضل من مبدعي شعبنا الذين حلوا ضيوفا أعزاء على آماسينا ..لهم كل الشكر.. كل الود والاحترام والتقدير.. ونتطلع إلى المواصلة في سنوات قادمة مليئة بالإبداع والفن والجمال والمحبة، وشكرا جزيلا".
ابتدأت أمسية اليوم بترحيب مديرها الفنان شافي الجيلاوي اذ استهل بالقول:" نحن اليوم نستضيف فنانا، سأتحدث عنه كحالة.. أعتبره حالة متميزة ومتفردة، هذا الفنان الذي استطاع، رغم الصعاب التي واجهته، ورغم العراقيل التي وضعت أمامه، أبى إلا أن يتحداها ". وقال إنه يعتبر هذا الفنان علامة فارقة في الموسيقى العراقية ونموذجا للفنان العراقي الأصيل الذي صاغ من فنه قلادة من الحب والعطاء للوطن وأضاف : " في مدينة تغفو على ضفاف الفرات ، معروفة بتقاليدها وبعشائريتها ، يبزغ فتى في بدايات عمره مغروما بالموسيقى ، وهذه مفارقة بحد ذاتها ، هنا بدأت أول المعاناة ، وهنا بدأ الصراع ، ولكنه رغم كل العراقيل التي وضعت أمامه ، اذ أن حبه وشغفه بالموسيقى ، جعله مصدر تحدٍ وتحقق له ما يريد " وأردف مؤكدا أن للفنان الضيف حلمين هما :" الأول كان يريد ان يكمل دراسته الأكاديمية في الموسيقى / وقد حقق هذا الحلم . أما حلمه الثاني فما زال لم يتحقق سأحدثكم عنه فيما بعد".
وبعد مقدمته الاستهلالية دعا الفنان الجيلاوي الحضور للترحيب معه بالضيف الفنان رعد بركات الذي شكر بدوره الحضور قائلا:" لي الشرف ان ألبي دعوة هذا المنبر، المقهى الثقافي العراقي في لندن، الذي يمثل منارة ثقافية مهمة في المهجر، ومن دواعي سروري ان أكون بينكم ومع القامات الفنية والأدبية هنا، وأتمنى ان تنال تجربتي المتواضعة إعجابكم واهتمامكم ، شكرا لحضوركم ".
والبداية كانت بسؤال، كان مفتاحا للغوص بتلك التجربة، وصفه مدير الأمسية بالسؤال التقليدي عن بداية الضيف الفنان رعد بركات، التي كانت في مدينته (السماوة)؟
وأجاب الضيف فسرد نبذة عن سيرته الذاتية وقال إنه ولج عالم الفن بتشجيع من والده الفنان فبدأ بالرسم ولم يطرأ على باله ان يكون موسيقيا، وحبه لمطالعة مجلات الأطفال (مجلتي) و(سوبرمان)، قادته لتقليد بعض الصور فيها وقام برسمها، فبرز في هذا المضمار بين أقرانه الطلاب، وحاز على جوائز عديدة، وعلى الجائزة الأولى بالرسم في المحافظة.. وفي زيارة لأقارب له لداره كان بصحبتهم الفنان الراحل صلاح جياد فشاهد رسوماته فأثنى عليها وقال له:" إنك رسام خطير وينبغي ان تواصل نشاطك في المجال التشكيلي". وقال إن عمره كان آنذاك لم يتجاوز الإحدى عشرة سنة (وهنا كانت تعرض على الشاشة الكبيرة مجموعة من تلك الرسومات المبكرة).. أما عن ولعه بالموسيقى وكيف تحول اليها فذكر هذه الحادثة قائلا:" كان والدي يرسلني إلى مطعم نادي الحي الذي نسكنه، وكان حيا تابعا لشركة لصناعة السمنت، نصف العاملين فيها من الأجانب، كنت أذهب إلى ذلك النادي لجلب الطعام، وهناك كنت أشاهد عازفا يونانيا، يلعب على الغيتار، ولكي لا أطيل عليكم بسرد هذه القصة، حولتها إلى فيلم يوثق حكايتي مع الموسيقى، وتحديدا مع آلة الغيتار ".
عرض الفيلم بعنوان (قصتي مع الغيتار) ومن الواضح أن الفيلم تم عمله بتقنية الذكاء الاصطناعي.. وسرد (بصوت رعد بركات) كيف انه وبعمر أثني عشر عاما كان يتردد على النادي متابعا ذلك العازف الذي كان يؤدي أغنيته المفضلة (جوني غيتار) وقال إنه كان يشعر بمعانيها حتى قبل أن يعرف كلماتها وزاد هذا من فضوله فتوجه إلى ذلك العازف، الذي كان يدعى (جوني) وطلب منه المساعدة في تعلم العزف، فبادره هذا بالسؤال فيما لو كان يمتلك غيتارا وحين أجابه بالنفي قال له إن من الصعوبة بمكان التعلم على العزف دون وجود الآلة، لكنه كي لا يصدمه بادره بالقول إنه رغم ذلك سيكون سعيدا إعطائه دروسا أولية تعينه في المستقبل.. وإلى جانب عدم قدرة والده المالية على شراء تلك الآلة غالية السعر آنذاك، إلا إن رغبة الوالد كانت بالحقيقة انصراف الأبن إلى الدراسة والتحصيل العلمي ليصبح طبيبا او مهندسا.. وقال إن شغفه بهذه الآلة كانت عنوانا لأطراف أحاديثه مع أصدقائه ومنهم (فوزي) الذي تبرع له بغيتار كان والده أهداه اليه لكنه لم يحبه ولا يعرف العزف عليه.. كان غيتار فوزي أصغر بكثير من غيتار (جوني) الذي واصل تعليمه له بعد ان عرف بحوزته للآلة وبعد تدريب جاد ومستمر تحسن أدائه على الآلة.
وأردف أن تلك الخطوات الأولى قادته ليكون عازفا في عدة فرق ، ثم قدم بعدها إلى معهد الفنون الجميلة ببغداد وأخذ بيده فيه استاذه الفنان حسين قدوري الذي شخص فيه مستواه العالي فنصحه للعمل في الإذاعة وهناك بدأ في فرقة الأطفال ثم في الفرقة الرئيسية ، وبعد أربع سنوات وجد نفسه ان موقعه فيها سيبقيه مقتصرا على ان يكون عازفا فقط ، في حين انه كان يطمح لأن يكون مغنيا ، وكان آنذاك في الميدان ليس غير نجمين كبيرين، في المجال الذي يرغب في أن يخوض غماره وهو ( فرانكو- ميوزيك) هما الفنان الهام المدفعي والفنانة سيتا هاكوبيان، كان الأول يهتم في البدء بالمقام ويؤديه بلون غربي، فيما بعد انتقل لتقديم أعمال خاصة به . أما سيتا فكانت تؤدي بهوية تخصها مع ميلها إلى أداء فيروز، ومعها كانت اللحظة المهمة، حين أخذت اول عمل لي، حينما كانت تصور أغنية لها كنت أعزف فيها، اقترحت عليها لحنا سرعان ما قبلته وسجلته، لكن للأسف كان هذا في سنوات اعتزلت فيها فلم تصور تلك الأغنية مما حال دون بثها. لكن هذا لن يثنيه عن طموحه فأخذ يكتب ويلحن ويؤدي فكانت الأغنية الأولى له قد نالت حظها من الانتشار وهي (دويتو) مع الفنانة أنيتا، وهنا عرضت الأمسية تسجيلا لهذه الأغنية على الشاشة الكبيرة تقول كلماتها: ( شوف شكد صعب النسيان .. حاول مرة تهجرني وتنسى العنوان.. لا تبعد، لا تنساني.. يا أجمل حب صحاني .. ياغنوة عاشق سهران) إضافة إلى اغان شعبية معروفة لكنه أداها بأسلوبه، منها ( جا وين اهلنه – احبك وانا اريد انساك – انت السبب مو قلبي لالا).
ان الفنان هو نتاج واقعه، أكد الجيلاوي ذلك، وذكر ان انتقال الفنان بركات إلى العاصمة بغداد وحيازته لمكانة فنية فيها، اعتبرها مرحلة اتسمت بالجرأة لأنه اقتحم ساحة مليئة بقامات بنت فنها عبر سنوات من الجهد، لكن الفنان رعد شهد في ذلك الحين بعض المضايقات من بينها عدم أخذ فرصته من الترويج الإعلامي التي كانت متاحة لآخرين.. وعن هذه المسألة أجاب الفنان بركات :" انه اتبع الطريقة التي ابتدعتها لنفسي بمعالجة التراث.. وكان هذا النهج منتشرا بالوطن العربي .. لكن بعد فترة انتشرت الأغاني الهابطة بعد تألق الأغنية السبعينية، اخذت فترة استراحة كنت أفكر بتقديم الجديد وبمقترح من اخي الفنان طاهر بركات، وهو عازف كمان يعنى بالتراث، فشجعني على التوجه إلى الأغنية الشعبية، فقدم لي عملا حقق نجاحا مهما وكان عبارة عن أغنية مكونة من (دارميات) مترابطة، عالجتها بجعل لكل دارمي نغما مختلفا وفيها حوار وجرى عرضها على الشاشة:" دكه دكتين وقلبي سكت وياك. مو خلص دم اللي بي " وعنها قال الفنان رعد:" حققت هذه الأغنية انتشارا واسعا .. وعلى الصعيد الشخصي حققت شهرة جماهيرية، وبيعت تسجيلاتها بشكل كبير، وكان وقتها عدي (ابن الدكتاتور) يصطاد هذه الأصوات حتى يضيفها لمملكته ورغباته التافهة، وكان كل همي ان أفلت من استدعاءاته لناديه لكل المشهورين وأنا من منهم، وكان يهزأ منهم ويحلق رؤوسهم، لغيرته من شهرتهم، ومن هنا نضجت في دواخلي، فكرة مغادرة الوطن".
وتحدث الفنان عن تراجع الفن زمن الحرب وأن كل الأغاني توجهت لتمجيد الطاغية وحربه، مما عمق ذلك توجهه لترك الوطن، وشهدت هجرته محطات كثيرة دشنها بالأردن لفترة قصيرة ثم اليمن وهناك تعاون مع شعراء مهمين هم الآخرون لاجئون أيضا مثل عبد الرزاق الربيعي وعدنان الصائغ وعلي جعفر العلاق وغيرهم وذكر انه قرر ان يغني نصوصا تنشد للوطن ومن بين اعمال مهمة هناك عمل للشاعر عدنان الصائغ عنوانه (غربة):
تضيق البلاد .. تضيق تضيق ، وتتسع الورقة
البلاد التي نصفها حجر والبلاد التي دمعها مطر
البلاد التي تبيع بنيها إذا جوعتها الحروب
فماذا تبيع اذا جوعتك البلاد؟
وبعد مشاهدة الأغنية عقب الفنان الجيلاوي :" بعد تجربة اليمن والتي كانت نقطة تحول عند الفنان بركات أكمل مشواره في راحلته المحملة بالهموم وبعض من ذكريات ليستقر به المقام في الولايات المتحدة الأمريكية .. هنا اختط لنفسه مسارا آخر وهو الفن الملتزم، الهادف، الذي من خلاله ربما يستطيع ان يؤثر في ضمائر المواطنين، ربما يستنهض عزيمة المظلومين والمضطهدين وكان عملا مضنيا سنستعرض هنا في هذه الأمسية بعض من أعماله تستحق منا كل تقدير وكل تركيز.. حيث ستشاهدون جمال النص الذي يختاره بدقة وبين جمال الموسيقى وبين المعالجة البصرية في تصوير الأفلام لتلك الأغاني المصنوعة بحرفية عالية ".
ثم اعطى الحديث للضيف ليتحدث عن تلك الأعمال فذكر انه انجز سبعين عملا في أمريكا أختار منها لعرضها في هذه الأمسية نماذج منها ومن بينها:
عمل بعنوان (ابن الطين) للشاعر أجود مجبل وهي عبارة عن حوار بين الأرض - الأم وبين أبنها السومري الذي يبرر سبب ابتعاده عن ارضه – الوطن الذبيح:
قالت لي الأرض: يابن الطين، يا ولدي
ألا تعود ألم ينضب بك البوح؟
فقمت مقتبسا حزني وقلت لها
أنا وحيد كطيرٍ فاتهُ الصبحُ
أدق باب بلاد نام حارسها
والغيم مر فقيرا هده الكدح
وأعقب هذا العمل أغنية أخرى هي (آت.. آت) من شعر عارف الساعدي.. قال عنه الفنان بركات انه عن الأرض التي مهما مرت بمآس، لابد ان يأتي شيئا ما يعيد لها مجدها ويعيد الزرع فيها ويعيد لها أنفاسها:
آتٍ..آتٍ .. آتٍ
آتٍ إليَّ وإن لف السنين كرى
وإن غفا هاجسي في الريح أو عثرا
آتٍ وفي مقلتي فجر وفي شفتي
هذا الذي يغزل الأنهار والشجرا
اختيار القصيدة ليس اعتباطيا، وبهذه الدقة إنما أتى من تراكم معرفي لدى الفنان (عقب الفنان الجيلاوي بعد عرض هذه الأغنية) حيث أصبحت وجهته واضحة وبدأ بالاختيار الصحيح والعمل الصحيح، هذه أعمال كبيرة جدا هناك عمل آخر عنوانه (أضعنا الطريق) وقد شاهدته فرأيت فناننا رعد يتمشى بين لوحات رسمها الفنان (مؤيد محسن) يحدثنا عنها الفنان.. فأجابه:" هذا النص للشاعر د. حامد الراوي الذي اهداني ديوانه وعدت له بعد أيام قائلا له قد اخترت هذه القصيدة فتفاجأ وقال لي:" أكيد انت مجنون هل من المعقول ان تختار قصيدة مضمونها موت ومذابح"، بررت له بأنني اخترتها لأنها تحاكي الواقع بصدق، حيث كان يومها زمن التفجيرات.. والقصيدة تبدأ ببيت : (أضعنا الطريق إلى موتنا فالتفتنا اليك) .. لم نجد مكانا نموت فيه غير العراق".
وقدمت في الأمسية أغان أخرى رافقتها شروحات من الفنان رعد بركات تناولت ظروف انتاجها وما أسباب اختيار نصوصها وكيف تعامل معها حيث كان يضع الحانها ويوزعها موسيقيا ويؤديها بصوته ثم يصورها ويعمل على مونتاجها واخراجها بصريا وكل هذه المراحل الإنتاجية يقوم بها بمفرده..
دامت الأمسية أكثر من ساعتين وحضرها جمهور كبير، وقد حظيت بمداخلات واسئلة ساهم فيها مجموعة من المختصين فكان حوارا جادا بينهم وبين الفنان رعد بركات لا يسع المجال لهذه التغطية الصحفية ان تأتي عليها جميعها لكن من المفيد ان ننوه ان المقهى يسجل فيديويا جميع آماسيه ويضعها على صفحته بالفيسبوك ويمكن الدخول اليها بالكتابة بالعربية على محرك البث عنوان الصفحة وهو: (المقهى الثقافي العراقي في لندن) ونضع هنا رابط هذه الأمسية:
https://www.facebook.com/100063998972229/videos/649761507966817
![]() |
![]() |
![]() |