الأدب شيء جميل يا فرنكا- زوجتهُ- عرفتُ هذا أول أمس وهو شيءَ عميق إنهُ يثبت القلب ويثقف العقل، الأدب لوحة أعني لوحة ومرآة يجد فيها المرء أهواءهُ تعبيراً ونقداً مرهفاً غاية الرفاهة وتعاليم تقوٍمْ الأخلاق ­­­--- ديستوفيسكي

يلخص الكاتب الروسي " فيودور ديستوفيسكي" 1821-1881 الحالة البشرية بأكملها ضمن صفحة واحدة فقط، فهو في القمة الهرمية للأدب العالمي، يقول فيه (فرويد) تعلمتُ سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفيسكي، وقال فيه الفيلسوف الألماني هيغل يمكن أن يكون في موقع النبي المصلح، وامتدحهُ الفيلسوف الوجودي مارتن هيتجر وعالم الرياضيات الحديثة لودويك وعالم الفيزياء أنشتاين: هو أستاذ كل الأزمنة.

فهو مفكر وليس بواعظ يقول في رواية الأبله: خيرَ للإنسان أن يكون تعيسا وعارفا من أن يكون سعيدا ومخدوعا، وقال في روايته الجريمة والعقاب: ربما أبدو للبعض غرائبي المعتقد عند قولي: أيكون جريمة قتل قملة قذرة ضارة وقتل عجوز لا يحتاج أليها أحد!؟ وهي مرابية تمتص دماء الفقراء ألا أن قتلها ليمحو أربعين خطيئة لا أظن إن هذا الفعل جريمة ولا أريد أن أتطهر وأكفر عنهُ، ولآن أسلوبهُ يجمع بين الحدث التأريخي والحكاواتية الشعبية الواقعية منتجا عبر الترميز الجزئي في رواية الأبله وهو يعنف الأبله ويصرخ في وجهه: لماذا لا تطالب بحقك!؟ وكأن المتلقي الروسي المضطهد يهتف- (أفتراضيا)- سوف أنزل لأخذ حقي!؟ ويقول في روايته (حياة لها معنى) علينا نحن البشر أن نتساعد ونحبُ بعضنا بمسك أيدي بعضنا بعضا فإما الوصول للمدينة الفاضلة (اليوتوبيا) وإما أن نهلك معاً في أتون جحيم مدينة الأشرار(الديستوبيا)

 ببراعة سحرية حول بعض من رواياته إلى روايات بوليسية كالجريمة والعقاب وجعل القارئ لا يهتم بالقاتل بقدر ما يهتم بالأسباب والدوافع وتعرية الذات البشرية من جلبابها المزيف بتحليل وثيق لكل شخصية فأوصى بنظرية سايكولوجية {إن مقياس درجات الرذيلة هو مقياس واحد بالنسبة للجميع وحتى إن اختلفت بالدرجات لأن لطخة السوء تبقى } وتجد في عالم ديستوفيسكي المتعايش مع النظام الاستبدادي القيصري والنظم الرأسمالية العالمية الجشعة وسطوة الكنيسة وبترميزية أشرات سحرية يقول في منجزه المقامر: سيصل العالم إلى زمن يمنع فيه الأذكياء من التفكير حتى لا يسيئون للحمقى .

يقول ديستوفيسكي في روايته (المقامر) للمرأة: المرأة التي تقرأ ---- لا تستطيع أن تحب بسهولة إنها تبحث عن نظيرها (الروحي) الذي يشبه تفاصيلها الصغيرة، ويضيف إلى النساء: أعلمي عزيزتي إن الرجل سيضلُ يتودد لك بكل الطرق وبأغرب الأساليب وبكافة الوسائل المتاحة حتى يضمن قلبك بعدها تبدأ مرحلة أخرى هي مرحلة الإهمال والانشغال بأمور أخرى مثلا المال

على ضوء ما سطر هذا الأديب الأثير ديستوفيسكي شغفتُ بجميع إنجازاته ونتاجاته القيمية المعرفية بدون استثناء (كتاب الأم، الفقراء الأبله، المراهق، المقامر، الأخوة كارمازوف، الجريمة والعقاب) لقد أثرى المكتبة الروسية والعالمية ب 43 منجزا علميا أدبيا وقيميا معرفيا تلك كانت لها الأثر العميق في حيثيات أدب القرن العشرين، في كتاباته تجد القديم والحديث والغريب والسوي المألوف، ويرى في كتاباته إن الدين قد أستُغلَ ووظف توظيفا خاطئا أدى إلى شقاء الأنسان كما رأينا في سطوة الكنيسة في القرون الوسطى.

وفي عالم ديستوفيسكي تجد حركات التأريخ في التطاحن الطبقي في صراع مرير بين الرحمن والشيطان والخير والشر والحقيقة والزيف وكل جائحاتها بفايروساتها المدمرة من النرجسية وطفولية اليسار واليمين المتطرف مع غياب اللون الرمادي بينهما تستوطن الذات البشرية ، وفي روايته المشهورة ( الأخوة كارمازوف ) أسس لنظام طبقي طوباوي شبيه بالمدينة الفاضلة لا تقوم على العرق ولا الدين بل على الأخلاق ، لذا كان محور البناء الهندسي للأخوة كارمازوف هو مبدأ الخير والشر في نزاع شرس واقتتال دموي بكافة الأسلحة حتى المحرمة لينتصر أحدهما ، فأوهم الشر نفسهُ أنه المنتصر بقتل الأب وسجن الأبن مؤبد في سيبيريا وموت الأبن الغير شرعي القاتل الحقيقي بمرض الصرع وضياع الأسرة مع بقاء الأبن الصغير ( اليوشا ) البراءة والطيبة والحب والجمال فهو الأخ الورع والتقي والمسالم والشخص الذي يضيء دروب الأسرة المظلمة وبهذا يعني المؤلف الفذ{ بقاء الخير والسلام والوئام وقبول الآخر هو المنتصر في النهاية } .

الأفكار المميزة التي بشر بها ديستوفيسكي عبر محطات الحياة

-أفكار في مناجاة الذات البشرية كلما زاد ذكاء الأنسان زادت معاناتهُ، الجهل يمنح الأنسان راحة زائفة، أما الفكر العميق فهو لعنة تختبئ خلفها ألاف الأسئلة وآلاف الآهات، لهذا نرى أغلب الناس يعيشون بسعادة سطحية، بينما أولئك الذين يمتلكون عقولاً عظيمة، يعانون في صمت بصحبة أفكار لا تنام، المعرفة لا تمنح الطمأنينة --- بل تخلع الأقنعة، تكشف لنا زيف العالم وتفضح أوهاما يقدسها الجميع، ومع ذلك لا يليق بالعقل النبيل أن يرضى بالجهل، حتى وإن كان ثمن الفهم --- هو الألم !؟{ديستوفيسكي}

-البحث عن المثل العليا التي تروض الذات البشرية وتهذبها كفاتورة لزمن المحن القاسية من أجل السلم الاجتماعي والعدالة الاجتماعية، يطرح أفكار فلسفية في العديد من القضايا التي تهم الإ نسان بتحريك ثيمة الوعي والإدراك وإرهاصات الصراع الطبقي تفضح بترميزة رواياته مستلبات الدكتاتورية الإقطاعية وتنمر الكنيسة ورهبانها.

- لقد شغل ذاكرة الأمة الأدبية والثقافية بعالمه الروائي والقصصي المتسمة بترميزة شفراته المراوغة والتي تماهت لنسغ صاعد ونازل للسفر التراثي الأممي وحتى لعصرنا التكنلوجي الرقمي لكون نتاجاته الفكرية رافدا غزيرا ثرا وثريا لا تنضب من الأعمال الرصينة والهادفة مكنتهُ وبكاريزمية عالية الحصول على رضا الطبقة المتوسطة والأخفض فقراً بأيقاظ (الوعي) الذي يعتبر شفرة التغيير.

ثمة أسس معمارية هندسية متقنة بنى عليها الكاتب الروسي الشهير" ديستوفيسكي" افكارهِ الفلسفية في مجمل إنجازاته الأدبية والعلمية الأخوة كارمازوف ، والأبله ، الجريمة والعقاب ، المقامر ، المراهق ، ورواية الشياطين ووو ، هو عالم نفس محترف ومتفهم عميق للذات البشرية والكاتب العبقري والروائي الواقعي بحيثيات مدونته السوسيولوجية الاجتماعية " حياة لها معنى " ، يقول في مقدمة الفصل الأول من الكتاب : الحب والأنسنة لا تتغيران وإذا تغيرتا حصلت الكارثة  ، وديستوفيسكي في عقيدته الوجودية يقول: عبثية الحياة بدون الله وبدون الخلود ، وهو رجل دين لاهوتي من أرائهِ ان نهب محبتنا للرب  احراراً لا عبيداً ، فهو يمثل جيل الواقعية السحرية للأدب الروسي .

هو كاتب قدير ، وفيلسوف متفهم عمق النفس البشرية وزواياها المظلمة ، وقدم في كتابه ( حياة لها معنى) وصفا ثاقبا وصادقا للحالة السياسية والسوسيولوجية للمجتمع الروسي آن ذاك والذي أصبح مصدر ألهام للفكر والأدب المعاصر، أضافة إنهُ مخابراتي بوليسي كما ظهر في روايته ( الجريمة والعقاب ) ، وهو أحد أعضاء جماعة الفكر المتحرر( جماعة بيتراشيفيسكي ) ، يقول فيه فرويد : تعلمتُ سلوك النفس البشرية من روايات ديستوفيسكي ، وقال فيه الفيلسوف الألماني هيغل: يمكن أن يكون في موقع النبي المصلح ، وأمتدحهُ الفيلسوف الوجودي مارتن هيتجرو عالم الرياضيات الحديثة لودويك وعالم الفيزياء أنشتاين ، إذاً هو أستاذ كل الأزمنة ، ففي عالم ديستوفيسكي تتصارع الأضداد الخير مع الشر الحقيقة مع الزيف الرحمن مع الشيطان الموت والخلود والعاقل والأهبل ، وهو عليم بميتافيزيقيا الكينونة البشرية وبنهايات ممزوجة بالبراكماتية المطابقة للواقع ، لا يهتم بالقاتل أكثر مما يهتم بالأسباب والدوافع  .

تمكن من فك شفرة الأنسان بالغوص في أعماقه يكتشف إن الذات البشرية ممزوجة بالخير والشر والنسبة تضطرب بينهما ربما غريزيا تعلو نسبة الشر أكثر، وأثني على رأي الكاتب لأن الصراع بين الخير والشر أزلي وتأريخي وما حصل بين الأخوة قابيل وهابيل، فكان هابيل الضحية وقابيل القاتل الجلاد، الناس يميلون إلى قابيل القاتل ويسمون أبناءهم قابيل تيمنا مع عدم الاقتراب من هابيل !؟، ويوثق هذه النزعة الشريرة والبائسة الدكتور علي الوردي في كتابه (مهزلة العقل البشري).

ويلخص الكاتب الروسي الفذ الحالة البشرية بأكملها ضمن صفحة واحدة فقط، فهو في القمة الهرمية للأدب العالمي 1821-1881.

 مقاربات فكرية تاريخية في تلاقح الحضارات!؟

- وجدتُ التشابه والمقاربة بين رؤى ديستوفيسكي في مغزى روايته ( حياة لها معنى ) الوصول إلى المدينة الفاضلة وبين حيثيات سفر التكوين وملحمة كلكامش ، حيثُ تظهر الحكاية الفنتازية السحرية أن Nintiآلهة الحب  والجمال السومرية التي خُلقت ْمن ضلع ( أنكي ) لتشفيهِ بعد أن أكل الزهور السحرية المحرمة من الشجرة الممنوعة التي ظهرت كأساس لقصة أدم وحواء في سفر التكوين ، وإن فكرة خلود الآلهة التي ظهرت في ملحمة كلكامش والتي دفع بطلها بهوس وجنون وركوب المخاطر والمغامرات المرعبة لاكتشاف سر موت صديقهُ الحميم (أنكيدو ) وهو سر الحياة والموت انتهت باستسلام البطل كلكامش بعد مقتل ( أنكيدو ) وسرقة الأفعى عشبة سر الخلود ، ونصائح الكاهن ( أتونابشتم ) مندوب الآلهة في سماع القرار السماوي أن الخلود للآلهة فقط والموت من نصيب البشرية وقرر البطل كلكامش الرجوع لموطنه وبناء مدينة أوروك لاعتقاده الإنساني { بأن سر الخلود للبشر يكمن في العمل الخير والصالح والذكر الحسن في خدمة البشرية } أي تحقيق حلم البشرية في المدينة الفاضلة .

- توضحت رؤى فلسفة ديستوفيسكي تلك الحقيقة المطلقة في فهم قيمة الأنسان ( كأثمن رأسمال) لكون هذا الأنسان قادر على تطوير ذاتهُ ليحصل على السعادة الحقيقية عبر التزامه بالفضيلة وترسيخ السلام العالمي ونبذ الحروب والبحث عن القيمية المعرفية وليس السعي وراء المتعة الفانية تلك هي الفكرة الفلسفية الأخلاقية ، وهنا قراتُ دراسة لزميلي الكاتب الأكاديمي الدكتور "علي القاسمي" في كتابه الموسوم (عودة كلكامش ) : إن الملحمة السومرية تصدت لثلاث قضايا مهمة ( الحياة والحب والموت ) بدأ من النهاية حسب اعتقاده ليست اٌقل شأناً من البداية ، فإذاً الفكرة فلسفية أخلاقية صيغتْ بهيئة  (ملحمة شعرية مطولة ) شرقية ظهرت في عراق وادي الرافدين ، وليس غريبا أن تظهر الفكرة الفلسفية الأخلاقية في الإلياذة الإغريقية لهوميروس في حروب طروادة في ازدراء واحتقار ( باريس ) لخطفه ( هيلين ) زوجة الملك  مينالاوس )ملك أسبارطة اعتبرت خطيئة والتجاوز على قانون قواعد لعبة الحروب في الملحمة الطروادية ، إن كلا الملحمتين الشرقية والإغريقية مكتوبتين بنص شعري مطول في نصه السردي وكلاهما يتقاربان بالفكرة الفلسفية : إن الأنسان يخلد بأعماله الصالحة للفوز بالتغيير ويذكرنا التأريخ بإنجازات عظمائه في نقلة نوعية في تحديثها وعصرنتها في زمن العولمة الرقمية نجد الكثير من الرموز العلمية أضاءوا زمن العتمة أمثال أديسون مخترع الكهرباء ، أنيشتاين صاحب النظرية النسبية في الفيزياء الكونية ، ونلسون مانديلا صاحب الثورة البيضاء والقس لوثر صاحب الإصلاح الديني ، ووليم مورتون طبيب أسنان مكتشف ( البنج) 1846 ، والزعيم الشهيد الخالد عبدالكريم قاسم صاحب ثورة الخبز والسلام1958   .

المصادر والهوامش

-عودة كلكامش – الدكتور علي القاسمي

- ملحمة كلكامش – الدكتور طه باقر

- ديستوفيسكي – ميخائيل ياختين

- جبران أبراهيم جبران – الأسطورة والرمز –ترجمة بغداد 1973- ص258

-كتاب مهزلة العقل البسشري – الدكتور علي الوردي

كاتب وناقد أدب عراقي مغترب

مايس 2025                                                                                                                                                                                 

عرض مقالات: