في زمنٍ بعيد، في مدينةٍ تُدعى ( العصف المأكول )، لم تكن الحرب مجرد صراعٍ على الأرض أو السلطة، بل كانت فناً مظللاً بالأخلاق الغريبة والجمال القاتل. في قلب تلك المدينة، عاش صانع أسلحة يُدعى (هيكل)، رجلٌ غريب الأطوار، يلبس قفازات مخملية حتى في الصيف، ويتحدث إلى بندقيته كما يتحدث العشاق في ليالي الشتاء. لم يكن (هيكل) صانع أسلحةٍ عادي، فقد سئم من صوت الصراخ الذي يعقب الطلقات، ومن النظرات الجامدة التي تطفئ آخر ومضات الحياة في عيون ضحاياه. نهض أحد أتباعه، ضم أصابعه كحبّة كمثرى، علا بها وهبط، فتحدث الرجل بهدوء: آه...لو يعرفون كم يحرص على سلامتهم، لو يستطيع مصارحتهم بأنه ليس مستبداً كما يشاع عنه. على أية حال، عندما تنجح التجربة سوف تعلمون الحقيقة، كم أمضى أياماً عصيبة، ليس من أجلهم فقط، بل من أجل الخصوم أيضاً، نعم من أجل الخصوم . ابتسم وقد لاح له عنادهم، بينما هو يؤكد لهم: أليس الخصوم بشراً.. أليس من واجبنا العمل على راحتهم.

ـ الهدوء...الهدوء ياسادة، وتفرس بعينيه في رجاله، كان يعرف أنهم سوف يفهمونه وأن طلب الهدوء سيثير خصومه.

نعم.. فالخصوم بشر أيضاً، ويا للفظاعة، كانوا يغتالونهم بالرصاص، وللبارود رائحة منفرة، وحين صارح زملاءه أن هذه الفضاعة تؤرقه، وتجعل مستعصياً عليه، اقترحوا عليه تنعيم الظرف الذي يحوي المقذوف الناري، أتوا بورق (السنفرة)، الذي يجعل سطح المعدن ناعماً وانسيابياً. عندئذ قال هيكل من قلب مكلوم: المقذوف.. المقذوف هو بغيتي. نظروا إليه مبهوتين. لا تقولوا أن تغليف المقذوف بمادة رقيقة، تليق بالبشر، مستحيل هذا هو التحدي. ردّ أحدهم كأنه رجع صدى: تحدي! ضغط على الكلمات ونطقها ببطء: نعم التحدي بأمثالنا، وبعد أن غاص في عيني محدثه هنيهة، أردف بصوت رصين: ونتخلص من الظرف المعدني، وتساءل شارداً: ألا يصيب ملمسه البارد الإنسان بقشعريرة..؟ أمنوا على كلامه، فاستمر غير عابىء بالحيرة في عيونهم، كيف كانوا يطيقون رائحة لحم الإنسان المحترق، أيّ قلوب كانت بين ضلوع هؤلاء السادة..؟ لا استطيع تصور أن تكون قد خلت تماماً من الرحمة. كان يرى في الموت ظلماً. حين أدرك أنهم يحاولون النجاة، مما غزله لهم من خيوط الدهشة قذف إليهم بابتكاره الغريب : رصاصة عطرة لا تنطلق من مسدس. ماذا؟ أو بندقية. وأطرق نحو الأرض حتى يتفكروا في كلماته، رفع رأسه وقال : مسدسات وبنادق في عصر العلم والمدنية  كيف؟! المسدسات تصدر أصواتاً مزعجة..ألا يكفي إنساننا في المدينة ما يعيش فيه من ضوضاء وفوضى ؟ كانت تلك الرصاصة تُصنع من معادن نادرة، لا تجرح إلا مرة واحدة، وتذوب في الجسد من دون أن تترك أثراً فوضوياً. في داخلها، زُرعت نواة زجاجية صغيرة تحتوي على مزيجٍ سري من العطور... عبق ياسمين من سهول لورين، ورحيق زعفران من جبال الشمس، ونفحة من ندى اللافندر الذي لا ينمو إلا في مقابر الملوك.

قال أحدهم : تعلمون ان الصاروخ يتابع الطائرة المعادية، منجذباً نحو الحرارة الصادرة منها، أو نحو ذبذبات معينة لها، ألسنا في عصر القلوب والحب؟ أليس للقلوب نبضات؟ أريد من الرصاصة تتجه وحدها نحو القلب مباشرة. تعجب أحدهم: وحدها؟ نعم وحدها. وبهذا نريح المتلقي من أي ألم، فأي سعادة ...وأي مستقبل ينتظر البشرية لو نجحنا!

حين تُطلق هذه الرصاصة وتخترق جسد العدو، لا يشعر الأخير بألم، بل يتوقف الزمن للحظة. يشم العطر… ويبتسم. يرى ذكرياته الجميلة تمر أمام عينيه كأنها حلم أخير، يسمع ضحكة طفلٍ كان قد نسيه، أو لحن أغنيةٍ كانت أمه ترددها له. ثم… ينام، كما ينام العشاق على صدور من يحبونهم

ذات يوم، جاء إلى (هيكل) جنديٌ عجوز بعينٍ واحدة وقلبٍ مليء بالحروب، وقال

أيها الفنان، لقد فعلت ما لم يفعله أحد، لكن أخبرني… هل تريح الرصاصة المقتول، أم تُعذب القاتل؟

تجمّد (هيكل) للحظة، وضرب كفاً بكف، وقال وهو يحرّك رأسه يمنة ويسرة: لحظات الإنسان الأخيرة...ألا نستطيع جعلها سعيدة.. ودون ألم ؟! نظر إلى الطاولة التي كانت فوقها ترقد آخر رصاصة معطرة لم يصنع مثلها من قبل. ثم أجاب الجندي العجوز بصوتٍ خافت :كلاهما، يا سيدي… كلاهما.

عرض مقالات: