صعود السلم ليلا، في فندق رخيص لا يشبه نزوله في الصباح. الصعود، في أوهن معانيه هو الهبوط الى الجحيم، بينما النزول صباحا هو التحرر في أعلى مراتبه فرحا!
في تلك الليلة، كنتُ أمنِّي النفس بتحمل قسوة المبيت لا غير، لم أعتد على النوم في فنادق من ذلك النوع. بدت الليلة موحشة فعلا، أقسى من التوقيف في مركز شرطة. لكنها واحدة من مفاجآت الحرب وانتقال الوحدات العسكرية من موقع الى آخر. ماذا أصنع؟
حين وصلت الى غرفتي الواقعة في أقصى ممر ضيق، لم أتفاجأ بما كنت أراه من نزلاء مصريين يفترشون الأرض، بين جدران رطبة متآكلة يعلوها السخام. كان جل غايتي هو تحاشي البرد، لا شيء يعنيني عدا النوم لسويعات قليلة.
في الصباح، بدا للنزول طعم آخر. استيقظت على ضجة عجيبة في غرف وممرات الفندق ومكتب الادارة، أفزعتني قعقعة العمال الصاخبة. الكل يتأهب للذهاب الى عمله، تَحايا وحوارات وضحكات وشتائم وشجارات متفرقة أحيانا.
نزلتُ درجات السلم بخفة، طمعا في استنشاق هواء نقي، وتعريض جسدي الرطب إلى قدر مناسب من أشعة الشمس، وربما لرؤية حشود المزاد العلني والعتالين والباعة وضجيجهم المبكر. بدا الأمر كله محض مفاجآت، لم يكن بوسعي إزاء ذلك الصخب سوى أن أستيقظ، طالما لم يكن بوسع جدران الغرفة البائسة المليئة بذكريات وشخابيط النزلاء العابرين أن تخفض درجة واحدة من تلك الفوضى.
كنتُ، كعادتي في لحظة استيقاظ قسري كهذا، أعقد مقاربة تصورية بين معاناة ليلة بائسة اختتمت بفوضى، وبين صورة متخيلة أقتنصها بمزاج ماكر، وأبقى أكررها مرارا بـلقطات "سلو موشن"، لأستمتع بفصولها المدهشة، متوهماً أنني استيقظت على وقعها الساحر، وليس على ذلك الضجيج الذي أرغمني بالفعل على إزاحة وجهي عن الوسادة العفنة.
في ذلك الصباح البائس فقدتُ رشدي، ثم ضغطت على زر مخيلتي، وبدأت لعبة المتخيلات الصباحية. ظللتُ أحدق في سقف الغرفة وزواياها المليئة بشبكات العناكب، ثم همست لنفسي بصوت متهجد، تشوبه بحة واضحة: "كنتُ أقضي أجمل أمسية مع ربة القصيد "غورنكو"، نلهو معا في سهوب أوديسا وسيفاستوبل على ساحل البحر الأسود، ثم تسكعنا في ضواحي العاصمة بيتربورغ وكييف. أرتني صورها البديعة التي رسمها "مودلياني، التمان، سارايان"، ثم حلقتُ بنصف جناح على أنغام قصائدها المموسقة التي أعدها "بروكوفييف ولورا وفيرتينسكي". الله، كم أنت رائعة يا أخماتوفا"؟
ابتسمتُ وشعرت باسترخاء مفاجئ

نجحت اللعبة.

.