شهدنا احداث سجن الكوت ونحن لم نبلغ الحلم بعد، وكان قرب السجن من حي الكرد في مدينة الكوت جعلنا على تماس مع الاحداث السياسية التي تعصف بالبلاد، على الاخص الاضرابات والتظاهرات التي تأجج أوارها بتأثير من ثورة مصر في يوليو 52 وحرب السويس عام 56.
إضافة الى الاحداث السياسية في سوريا وإيران وتركيا، كان لانتصار ثورة مصدق وسقوطها إثر كبير في العراق وكذلك ما حدث من انقلابات في سوريا وتركيا ساهمت في انتشار الوعي بين الناس.
كنا احيانا نجد أنفسنا أمام بوابة سجن الكوت نشاهد السيارات الكبيرة تنزل سجناء جدد ليحلوا في سجن الكوت، طبعا غالبا ما كان يتم إنزال السجناء بالقوة ويتناوشهم شرطة السجن بالهراوات فـنسمع صراخ السجناء وصياحهم.
ولما حدث الاضراب الشهير للسجناء كان شباب محلة الكرد يطوقون السجن ويقذفون برزم الطعام من فوق سياج السجن الذي لم يكن مرتفعا - حوالي 4 أمتار - وكان بإمكان الشباب ايصال بعض - لفات الخبز - الى السجناء.
وزاد حماس شباب محلة الكرد في دعم السجناء لوجود بعض السياسيين من محلة الكرد في سجون نوري السعيد من بينهم الشاعر زاهد محمد وهو من الكرد الفيليين يمت لنا بصلة قرابة، وجبار ملا درويش (ابو سلام) وهو ايضا يمت بصلة قرابة لنا، أطلق سراحه بعد ثورة تموز، فجاء محملا بحماس المناضلين لينشد لنا النشيد الاممي بصوته الفخم.
كما كنا نسمع صراخ أحد السجناء، الذي يخطب وينادي ويحرض الناس على مؤازرة السجناء. قالوا انه رجل أعمى عمل مكبر صوت من الصفيح- تنكة - لينادي به من فوق شجرة داخل السجن.
ولكن بعد ان اطلعت على المقال الذي نشره السيد صادق الجواهري في مجلة الثقافة الجديدة العدد 443-444 آذار 2024
بعنوان مسار صعب ولكنه عذب.. ذكريات في العيد التسعين. ص 18. يذكر السيد صادق الجواهري ان الخطيب الذي كان ينادي من السجن هو الرفيق حميد بخش، وهو شيوعي معروف قضى ردحا من الزمن مناضلا في كردستان وتعرض للقصف الكيمياوي في منطقة كلي زيوه قرب العمادية بتاريخ 5 / 6/ 1987 مع الانصار.
وارتباطا بهذه الاحداث والاضرابات نشر السيد عبد السلام الناصري في العدد نفسه من مجلة الثقافة الجديدة مقالا بعنوان وثبة كانون المجيدة ذكر فيه جانبا من الاحداث التي وقعت بسبب توقيع معاهد بورت سموث مع بريطانيا مما أشعل التظاهرات ضد حكومة صالح جبر التي وقعت المعاهدة.
ومن الجديد بالذكر ان تاريخ ولادتي كان يوم 20 كانون الثاني 1948 ولكن بسبب التظاهرات التي عمت مدينة الكوت في وثبة كانون تأخر تسجيل يوم ميلادي الى الاسبوع التالي فأصبح يوم 27 / 1. بما يفيد حصولي على سبعة ايام هدية من وثبة كانون!!
وعن سجن الكوت كنت قد نشرت قصة قصيرة قبل سنوات لا بأس من اعادة نشرها مع هذه الملاحظات.
سـجن الكوت
لا يملك المرء أحيانا إلا أن يستعيد ذكرى بعض من يعرفهم، والعجيب في الذكريات أنها تزداد ازدحاما في رأسي كلما اتسعت المسافات بيني وبين تلك المدينة الصغيرة التي سقط رأسي فوق بساطها ذات صيف. ولطالما سألت نفسي بصوت عال عن سبب ذلك ، فتهتز طبلة أذني لصفير يهمس فيها مرددا وشوشة لا أتبين كلماتها، وأردد قائلا إن الأحداث المتشابهة تلد تلك الذكريات لان ما يجرى اليوم شبيه بما كان يجرى بالأمس، في تلك السنوات التي كنا ننام فيها وحكايات الطنطل و السعلاة تنام معنا على وسادة واحدة، أيام كان الآباء ينظرون إلينا بإشفاق خوفا على مصائرنا التي لم تكن تنفع معها تمائم السيد علي، الرجل الوحيد في سوق مدينتنا الذي يستطيع درء كل الأمراض والأخطار بواسطة كتابة بعض الآيات بحبر الزعفران، ورسم أشكال غريبة على ورقة مثلثة، فتغلفها الأم بقطعة من قماش وتعلقها على أكتافنا، ومع ذلك استطاعت العجوز المعصوبة الرأس أن تقول أمام حشد من النساء :
الله لا يعطيه للسيد علي ويكسر رقبته، لان حرزه لا ينفع أبداً.
إن ابنها الوحيد لم يتماثل للشفاء من الرمد الذي أتلف عينيه.
كان الخال هو الشخص الوحيد الذي يستطيع تمزيق تلك التمائم وإلقائها في نار المنقلة المتوهجة ويقول عنها إنها ترهات لا تنفع ولا تضر، فتلطم الأم خدها المنير تحت وهج الفانوس وتسرع إلى نثر حفنة من البخور على النار ليتصاعد دخان أبيض عطري، فتتمتم:
ما شاء الله … الله وأكبر، يا دافع البلاء يا الله. وتضيف ملتفتة إلى الخال: ويلي عليك من غضب الملائكة الصالحين يا زنديق ...
وبعد شرب القليل من الشاي ولفافتين من التبغ تنهال شتائم الخال على الحكومة، ثم يسرد لنا أخبار التظاهرات وإضراب السجناء، فتقفز الجدة لتحمل سطل الماء وتهرع صاعدة إلى سطح الدار لترمي ماءه في الزقاق وتتطلع باحثة عن خلف السري، رجل الحكومة الذي يتلصص وينصت من وراء الجدران الطينية ليسمع ما يدور خلفها، ثم لا تلبث عائدة محذرة مدمدمة:
خلف هذا الحية المسمومة ابن الـ …
رغم كل تلك الذكريات تبقى الذاكرة العجفاء تتساءل: ترى كم كان يبعد السجن عن دار الجد العتيدة؟ ذلك السجن الذي كان الخال يسميه فندق الفقراء، والذي عرف بنزلائه الأشداء الذين تحدوا الحكومة وأعلنوا إضرابهم الشهير، السجن الذي حل فيه ذلك الرجل الذي صعد المشنقة لأنه كان يريد إسقاط الحكومة يوم كان الكثير من الناس لا يستطيعون فك رموز رسالة يأتيهم بها حميد البوسطجي ...
واه.. أيتها الجدران، كم كان سهلا اقتحامك وإطلاق سراحه ومن معه من السجناء، ولكن آخ وألف آخ ... ماكو قيادة.
ثم حل ذلك المساء الذي لا يستطيع الرجل نسيانه والذي يطل بين آونة وأخرى يرتسم واضحا بشدة أمامه فينظر إلى السماء ليتذكر تلك السنوات حين كان ينظر إلى الأفق بحثا عن هلال العيد الذي اختفى في السماء وعصى على الرؤية. سماء أرجوانية زادها غبار الصيف احمرارا، يا لها من سماء أخاذة...حمرة قانية وصفرة شاحبة:
ـ لم تبدو السماء هكذا يا جدتي؟ ألا يستطيع الله أن يجعلها أكثر صفاء كي نرى هلاله ونحتفل بالعيد غدا؟
أتاني صوتها الواهن والذي لا يخلو من رنين حاد:
ـ إنها حمراء بابني لأنهم قتلوا الأبرياء في ذلك السجن الكبير وتلك هي دماؤهم تنتشر في السماء وتصبغها بهذا اللون الأحمر.
لم أستطع فهم ما تقول، وبقيت أحدق في السماء بحثا عن هلال العيد كي أرتدي الدشداشة الجديدة التي أتتني بها خالتي، ولكن لغز الدماء ظل يحيرني.. إذ كيف تنتشر في السماء وأية سيارة رش تستطيع رفعها ورشها في هذا الأفق المترامي الذي يخفي هلال العيد؟
اليوم وأنا أستعيد تلك الأحداث وأرقب الأفق الأرجواني أرى الأيام تعيد نفسها وأذكر آخر ما دار بيني وبين خالي من حوار:
ـ لماذا قتلوا السجناء؟
ـ لأنهم يريدون إسقاط الحكومة.
ـ وهل يستطيعون .....؟!