يؤكد خبراء علم النفس على أن للفن قدرة شفائية مذهلة، وان اللجوء إلى الابداع أيا كان نوعه يساعد في تفادي أوجاع الروح والاكتئاب، وسبق للفيلسوف اليوناني أرسطو القول (الفن شكل من أشكال العلاج). والعلاج ليس في إبداع الفنون فقط، وانما بالاستمتاع بها أيضا. إن تأمل الأعمال الفنية بعمق على تنوعها، تمنح النفس الانسانية قدرا من السكينة، كما تمنح العقل افاقا مبتكرة من التفكير وإعادة التفكير، واتساع دائرة المخيلة والوعي. إن المواطن العربي المحاصر بنشرات الأخبار، وتوالي الخيبات، والأسى الناتج عن وحشية القتل من أجل القتل في غزة وبيروت، بحاجة قصوى إلى الابداع، واجتراح ثقافة جديدة تعزز انسانية الانسان، وتحرره من أوهامه، وتنتصر له، في مقابل العنف والخوف السائد.
في شمال كوبنهاجن عاصمة الدنمارك، وعلى بعد 30 كيلومترا من مركز المدينة، يقع متحف لويزيانا للفن الحديث، وهو عبارة عن تصميم باذخ الثراء فنيا ومعماريا. يطل على بحر البلطيق، ويتكون من ثلاث بنايات متصلة مع بعضها بممرات زجاجية متخذة شكلا دائريا. تزدان الطبيعة التي تحتضن المبنى بمنحوتات أبدعها أشهر الفنانين العالميين والدنماركيين. واللافت أن المتحف يحظى بزيارات مكثفة للجمهور الدنماركي والضيوف القادمين من مختلف بقاع الأرض لزيارة هذا الصرح الثقافي والفني المتميز، ومنذ 2011 تم إدراج المتحف في قائمة المتاحف الأكثر زيارة في العالم.
أسس المتحف عام 1958 واستقر بشكله النهائي الحالي عام 1991، وساهم في تأسيسه مالك العقار الأول وحاكم المدينة واثنان من أشهر المهندسين المعماريين حيث أقاموا شهورا متواصلة من البحث المضني لتصميم شكل جديد من البناء يتناسب مع الفن.
يتميز هذا الصرح الفني والثقافي بمواصفات مبهرة تتآتى من وحدة التناغم الفريد بين إبداع العقل الانساني والطبيعة الحية في مشهد بانورامي ساحر، ووفقا لذلك غدا المكان قبلة لمحبي الثقافة والفنون من مختلف دول العالم، حيث من الصعب التصور أن شخصا ما محبا للجمال يحط رحاله في كوبنهاجن دون أن يضع على قائمة أولوياته زيارة هذا المتحف المتفرد والمتنوع العروض والنشاطات.
يضم المتحف قاعة احتفالات مجهزة بأحدث الأجهزة الصوتية لإقامة مهرجانات الموسيقى، والأنشطة الأخرى كالندوات والحوارات والعروض المسرحية وانتاج الافلام، وغيرها، كما يقيم المتحف مهرجانا أدبيا سنويا يشارك فيه حوالي 40 كاتبا من حول العالم، وتجتذب هذه الفعالية لوحدها عشرة آلاف زائر سنويا.
اللوحات الفنية الحديثة والمنحوتات التي يحتويها المتحف تعود إلى الفترة الممتدة من الحرب العالمية الثانية وحتى الآن، ومن بين المعروضات أعمال فنية لفنانين مثل بابلو بيكاسو، البرتو جياكو ميتي، أندى وارهول، انسليم كيفر، روي ليشتنشتين، ايف كلاين، روبرت روشنبرغ، ديفيد هوكني، واسجر جورن. وفي حزام الطبيعة المحيط بالمتحف تنتصب شامخة اعمال هنري مور، الكسندر كالدر، جان ارب.
يشغل البحر والأحياء البحرية مكان الصدارة لصالات المتحف القريبة من المدخل معززة بصوت الطبيعة الهادر، وتستضيف صالات أخرى على مدار العام أعمال أبرز المبدعين العالميين الممثلين لمختلف المدارس الفنية الحديثة، وعلى سبيل المثال كانت أعمال كلود مونيه محورا أساسيا لأحد المعارض في عام 1994. وبالإضافة للفن الحديث يقتني المتحف مجموعة تحوي أكثر من 400 قطعة من التراث الإبداعي والفني للشعوب الاصلية في منطقة الكاريبي وأمريكا الشمالية حتى أواخر القرن الخامس عشر وبداية القرن السادس عشر فيما يطلق عليه "فن ما قبل الكولومبية".
في فضاء المتحف أيضا، تسترعي انتباه الزائر منحوتة العنكبوت الضخم للفنانة لويز بورجوا، الحائزة على الجنسية الأمريكية، فرنسية المولد والثقافة، والتي ظهرت في اوربا عام 1989، حيث أقامت معرضا سحريا يضم مجموعة من المنحوتات العملاقة سمتها الأم، وهي عبارة عن عناكب فولاذية وبرونزية يبلغ ارتفاعها ثلاثة أمتار ترمز إلى أمها. وتمثل عناكب بورجوا "إحدى روائع الفن خلال القرن العشرين" من وجهة نظر بعض النقاد ومديري المزادات الفنية، وهي معروضة في اهم المتاحف الفنية في اوربا والامريكيتين. وقد عبرت الفنانة التشكيلية والنحاتة في أعمالها وعناكبها عن تحرير خوفها وقلق طفولتها، والانطلاق منها في أعمال إبداعية مبهرة، مجسدة مقولة ارسطو "الفن شكل من اشكال العلاج".
وما دمنا نتحدث عن الاعمال النحتية، لابد لنا التوقف مليا امام العبقرية المدهشة في منحوتات الفنان السويسري البرتو جياكو موتي، حيث الاجساد البشرية النحيلة العارية المنتصبة في فضاءات العزلة، والوجوه الخائفة المحتقنة بالخوف والقلق من عنف ووحشية هذا العالم، وجوه معبرة عن ضعف ومعاناة الانسان، وجوه محملة بالحيرة وبأسئلة لامتناهية.