في 30/ 6/ 2008 أوقد شمعة الرحيل الأولى: المربي الفاضل مدرّس اللغة العربية القاص والروائي كاظم الأحمدي.. رأيتُ ذكراه هذه المرة بعينيّ قارئ عودّه أستاذه أن يقرأ كل قصصه ورواياته بخطه الأنيق الدقيق المكتوب بأزرق القلم الجاف أو الحبر.
"*"
قصص "أرض القهرمان" هي ست قصص تتفاوت في الطول وتتنوع في الموضوعات:
* الرمل في الحذاء
* كماء البحر
* أرض القهرمان
* ذبابة التمثال
* جديلة نون
* يوسف وكواكبه
ترى قراءتي الخاصة أن "الرمل في الحذاء" أقرب الى رواية قصيرة منها الى القصة القصيرة، الاشتغال فيها يطوف حول لحظة إعدام مجموعة من الرجال أثناء الحرب العراقية الإيرانية، ونحن الذين كنا جنودا آنذاك حين نقرأ هذا النص نتذكر سجناءً عسكريين ويقتادوننا لمشاهدة اعدام جنود عراقيين من فرقة إعدام عراقية، تهمتهم "فرارية" يرفضون الموت عسكرياً نيابة عن الأمة العربية.
"*"
باستثناء "جديلة نون" فأن قصص المجموعة تشتغل على السلطة، ثلاث قصص تشتغل على رأس هرم السلطة
* ذبابة التمثال
* أرض القهرمان تنهل من كنوز الملك سليمان
* يوسف وكواكبه: تدور حول سلطة العزيز وعشق زليخة ويوسف.
سنقوم بإرجاء الكلام عن "ذبابة التمثال" ونتوقف عن القهرمان وكواكب يوسف نلاحظ في القصتين هناك ميتا قَصٌّ:
في قصة "يوسف وكواكبه" يخبرنا السارد الأول "ولما سمع راوينا من أفواهنا، تلك الضوضاء، طفق فمه يرعد... أن الراوي أخذ لسانه يفلت يقترب من التجديف الصريح". وكذلك في قول السارد "بالرغم من أن الحوارات، كانت نادرة كأن أوعيتنا خالية منها: لكننا كنا ننتظر راوينا، كي يملأ الفراغ الذي صار يتسرب الى أصل حكاية الفتى".
"*"
في "يوسف وكواكبه" ضوء الحب لا يأتي صرفا ودافئا كما هو في قصة " جديلة نون" التي هي بحق من أجمل ما كتب كاظم الأحمدي، ويمكن اعتبار هذه القصة القصيرة ضمن إجناسية المايكرو سيرة، فهي تغترف من سيرة الكاتب كاظم الأحمدي ويتنوع السرد كالتالي
* مرة يكون البث من السارد الى القارئ، والسارد هنا هو سارد ثان فالسرد الأول هو زوجته وذلك بشهادته هو "تبادر الى ذهني، المكان نفسه الذي وصفته لي زوجتي. كانت قد أسهبت في رسم صورته، أسمعتني مدة نصف ساعة وصفا حياً لكل المنطقة. فأختلطت ألوان البيوت. البيوت كلها متشابهة الألوان".
ثم ينتقل السرد الى جهة أخرى ضمن محيط العائلة وذلك ما يخبرنا به السارد الرئيس أعني الأب "كنت قاصدا زيارة ابنتنا التي تزوجت بعد انتهاء السنوات الثمان فسكنت وزوجها في بيت العائلة" وبعد هذا المهاد السردي ننتقل الى ساردة ثانية من خلال سرد الأب "قالت أنه كبير وواسع جدا، نحتل غرفتين في طابقه العلوي". ثم يضيف نقلا عن لسانها "قالت أن ولدي لا يستطيع أن يلعب فيه"، ثم يعقب السارد الأب "كانت تخفي خوفها من السلم المظلم، فقررا الانتقال الى بيت آخر، لكنها لم تستطع أن تخفي رغبتها في أن يكون لها بيت مستقل"، ثم تحدث نقلة مركبة فالساردة الثانية ستوجه كلامها الى الساردة الأولى، ومن الساردة الأولى ينتقل الكلام الى السارد الاول ومنه الى القارئ.. "قالت لأمها سأكون امرأة وزوجة وأما"، ثم يعقب السارد الأول "أهذه الفكرة تقنع في ظرف كهذا – أن العائلة أشجار يستظل تحتها سرب من الطيور: مجنونة ابنتك؟"، يعود السارد لينقل لنا كلام الساردة الأولى الذي توجهه الى السارد الأول "ثم قالت أن لولدها فيه غرفة واسعة"، ثم يعقب السارد الاول موجها كلامه الى الساردة الأولى "تحاولين أن تدخلي المسرة الى قلبي"، ثم يعاود هذه الحركة المكوكية السردية.
"*"
قصة "ذبابة التمثال" هي جرأة السرد القصوى لدى كاظم الأحمدي وعذرا – إذا قلت هي التهور السردي في زمن البطش – فقد تلبسني الخوف، حين حدثني ذات ليلة عنها وأنا أوصله مشيا من أم البروم الى دارته الكائنة في منطقة البصرة، وازداد خوفي عليه حين اطلعت على مخطوطة "وجه الملك"
تتناول قصة "ذبابة التمثال" حكاية ذبابة يسردها لنا حارس التمثال "وقفت ذبابة فوق أنفي فكرت في أن أطردها، لم أتعب نفسي كثيرا حينما فكرت في يدي" هكذا تبدأ القصة، والسؤال هنا لماذا تكرار فعل التفكير؟ وهل طرد الذبابة يحتاج تفكيرا؟ بلا تفكير نقوم بذلك أعني تلقائيا للتخلص من حشرة مذمومة! والسؤال الثاني : لماذا فكر بيده للقيام بالمحاولة؟! وهل يحتاج رفع اليد ونش الذبابة الى عملية تفكير؟! أن ما بين القوسين يحتوي شحنة مشفرّة شفيفة تغوي فعل القراءة لمواصلة البحث عما وراء هذه الخلية السردية الموقوتة في القصة... أن الحرس في هذا المكان مجرد/ مستلب من أي فعل تلقائي، لأنها التلقائية عرضة لتأويلات السلطة، للسلطة مفلاتها التأويلية التي تخضع كل حركة لقصدية آثمة.. أثناء ملاحقتنا للسطور سنعرف أن يد الحرس قد أثقلها برد الشارع، وأن الحرس كان يحتمي بقاعدة التمثال وفوق رأسه أضوية لحماية التمثال، وسنلاحظ أن سردية الحرس انتقلت اليها جمودية التمثال بسبب قسوة المكان "فكرت في يدي، ولكنني حينما حاولت رفعها وجدتها ثقيلة جدا، كان ثمة تيار بارد يصيب من جسمي الجزء المواجه لظلال أعمدة النور".. في هذه القصة للظل فاعليته النسقية:
* الحرس بسبب الضوء الملسط على التمثال أصبح بلا ظل "فوق رأسي يدفق شلال ضوء يمحو ظلي".
* الطريقة الوحيدة لإسقاط التمثال هي السيطرة على ظله وسيخبرهم أحد العقلاء "وهو يقترح أن يرسموا التمثال على الأرض أن ظل التمثال كالتمثال"، ثم ينتقل الشخص من القول الى الفعل "أخرج من جيبه سكيناً، وراح يخط حدود الظل الأرضي" ومن جراء تدوير سرد التمثال شاهد المتجمعون المختلفون فيما بينهم "أن التمثال يكاد يهبط بكماله من عليائه الى الأرض. لقد تم تخطيط الظل بإتقان نال إعجاب الجماعات الثلاث".
* بعد مطاردة الشرطيين رجلا جاء من أقصى الشمال، وسيمر الرجل مرورا سريعا "فترك أثرين لا أثرا واحدا"، لكن حين يمر الشرطيان ستظلم الدنيا بعيونهما أما ظل التمثال فسيختفي "شيئا فشيئا".
"*"
ينتقل السرد الى تفعيل عنونة القص، تصبح إشكالية التمثال هي الذبابة، فبعد أن تمت ترسيمة ظل التمثال "الكثير منهم احتاروا في رسم الذبابة إذ أنها لم تمكنهم من نفسها، كانت قد جعلتهم دائخين وهم يحاولون الإمساك بلحظة هدوئها، لقد ظهرت أمام أعينهم بقعة سواد قديم فوق أنف التمثال، تتحرك بين منخريه"، وحين يرى حيرتهم الرجل الذي جاء راكضا أقصى الشمال، يكلمهم "لو تركتموني أرسم أثراً على أنف التمثال سوف تنزل إليه الذبابة".
والسلطة المتمثلة بالشرطيين اللذين كانا يطاردان الرجل القادم من أقصى الشمال: هذه السلطة اكتشفت "التمثال ذاته كان نائما – والذبابة مازالت تلح بإصرار كأنما لا تريد أن تترك مكانها، كأنها اعتادت الوقوف على أنفه"، وطموح الذبابة لا يتوقف فهي تريد "أن تصير جزءا منه كمثل البرد أو كمثل الغبار أو كمثل المطر، لم لا؟ فقد رأوه يحتمل الكثير"، وبعد تعالي الأصوات المتجمهرة حول التمثال أنهم يعيشون "داخل نكتة كبيرة" يعلو صوتٌ مؤكدا "أرى أننا قد صرنا النكتة ذاتها" وكل نكتة تستوجب ضحكا وهنا تتعالى الاصوات أيضا:
"- لماذا نسيت أن تضحك؟
- هل ثمة ما يضحك؟
- ما فائدة أن تضحك الآن وأنت لم تضحك من قبل؟"
ثم يتعالى الضحك كالكرات من عمق الأفواه ثم تتسع دائرة الضحك وتكون المفاجأة "أن الذبابة قد تركت الأنف عندئذ ظهر لعيونهم أن في الأنف ثقبا أسود ثم ظهر لعيونهم أن التمثال ما زال نائما"، وهنا يصيح الرجل الهارب من الشرطيين "أرى ذبابا متدفقا الى كل الجهات يخرج من جوف التمثال. صدقوا ما تراه عيناي"، ومع استمرار التلاسن والضجيج والاتهامات سيعلو ثانية صوت الرجل الهارب من الشرطيين "أشعلوا النار في التمثال وسترون حين تأتي النهاية، أنه تمثال مملوء بالذباب وسيخرج الذباب أفواجا أفواجا"، وحين يحاول حارس التمثال ان يشعل نارا يخاطبه أحد الشرطيين: "ما الذي تفعله بهذه النار؟ يرد عليه الحارس: أريد أن أبعد الذبابة عن أنف التمثال – لا شيء سوى ذلك"، لحظتها يكتشف الحارس ان التمثال خائف منه!
"*"
بداية أسلوبية جديدة في السرد اجترحها الروائي الأحمدي من خلال الاعمال الأدبية، لا أعني فقط شعرنة سردياته فهي محسوسة بإشعاعاتها، بل أعني الوحدة السردية الصغرى التي سلكت جهوية جديدة، قد تكون صادمة للقارئ الثابت في موقعه الساكن، لكن القارئ المتحرك من خلال فعل قراءته سيتلذذ بهذا المجهود السردي الجديد ويرافقه حتى النهاية ولا يمل صحبته بل سيعود الى النص نفسه ليكتشف مجاهيل ساحرة وخلابة جديدة.. وبشهادته الشخصية "اللغة ذاتها لعبة اللسان. متى أتقنتها فأنك تستطيع أن تلعب بها".