(التغريب) في نظر بريخت هو الخروج عن فعل الشيء ولكنه مؤثر فيه ، مؤكدا على أن لا تكون الشخصية منضوية تحت الحادثة بل عليها أن تقوم بمواجهتها ، وهكذا بدت لنا  شخصية   - ابراهيم ياسر- في حكايته مع البيت المهجور ، والأقاويل المثارة حوله ، وتقصي أوجه أسباب الغياب لعائلة سالم الذي رحل فجأة عن البيت وتركه فريسة لتأويلات لا حدود لها (وشائعات )تثار هنا أو هناك .

الرواية ضمت ست حركات مشهدية  أدرجها المؤلف تحت عنوان (الشروع)، وهي إشارة لحركات البطل في كشف المضمر عن حقيقة هذا البيت الذي تتوارى خلفه حكايات تشبه الأساطير ، تبدأ الرواية بالبحث عن كتاب في السحر وتحضير الأرواح المولع في فهمه وقراءته ورغم تحذير بائع الكتب له إلا إنه بقيَ مصرا على كشف هذا العالم المتواري عن الحقيقة ، ثم نكتشف أن ما جعله متمسكا بهذا المشوار سببان أحدهما ؛  سبق وأن أخبره منير عازف البوق  ابن سالم  جاره القديم وزميله في الدراسة عن عمه الذي يعمل في مجال السحر أنه قد نسى كتابا عن السحر في بيتهم واختفى ، والسبب الآخر هو هاجسه النفسي المضمخ بالسحر.

تبدأ العتبة - الموت سحرا -  أي أن السحر قوة جذب تعيد لنا صياغة ماغيبه الموت أو أن ثمة علاقة باطنية تشدنا إلى أدراك مالم نعرفه ؟ وفي كلا الحالتين نشعر أننا أمام  خطين متوازين هما السحر والموت ، أحدهما حقيقة وجودية لا مناص منها في الوعي  والآخر هو اللاوعي ، هما حتما لا يلتقيان ولكنهما من الممكن أن يشكلا أثرا ذهنيا يكون حاضرا ، فالموت أزلي والسحر أيضا أزلي ، ويرجح علماء الأنثروبولوجيا  أن – السحر – مرادف لقضية الموت  بعد ما شعر الإنسان بقوة تأثيره المزلزل على طبيعة كيانه وتهديد وجوده  كان يلجأ إلى وسيلة تخفف عنه وطأة هذا التأثير ومن بعد ذلك أخذ يتناسل –السحر-ويقوى تأثيره كلما تنامت البشرية وتوسعت آفاق رغباتها في الحياة فنجده حاضرا حتى في مفرداتها البسيطة   .

التهيؤات وإشارة الحرب :

أقاويل كثيرة  وحكايات مستفزة  تثار من حول  -ابراهيم ياسر- قبل أن يقطع شوطا في التخطيط لاقتحام البيت المهجور ،  المجاور إلى مخبز الحاج كريم الذي قال عنه : ( خرجت من بيت سالم وأنا أغلق المحل في ساعة متأخرة من الليل امرأة لم أر وجهها  ..اختفت بسرعة البرق )ص17  وقال بصوت مرتعش (يقولون بأن أربعة أشباح تخرج من البيت وتسبح في الفضاء وتختفي..ألم تسمع بذلك؟ )ص18 وعند سؤال الثلاثة عن بيت سالم أجابهم العم كريم    ( يا جماعة لانعرف أين اختفوا أنتم تبحثون عن سراب ....أنصحكم تنسون أمره )ص23  ونتيجة الإرهاصات التي تنتاب ابراهيم  عن البيت التي تمثلت في الحفرة المستطيلة كالقبر و(الاقزام الذين يحملون تابوتا أكبر منهم خرجوا من الباب ثم أغلقوه وواصلوا سيرهم نحو المخبز ولم أرهم ...عجبي أين ذهبوا ؟ )ص20، المرأة التي تخرج ليلا ومن ثم الأشباح الأربعة  (أحدهم يلتفع بعباءة بيضاء لا وجه له إنما كانت جمجمة بدل الرأس ويؤشر بيده لي !)ص18 (الرجل الوسخ القبيح الذي سحلني في الوحل ) ص37والافلات منه بأعجوبة . يضطر بعد هذه الوقائع إلى التشكيك في نفسه أن كانت هلوسة أو هذيان أو خرف وبدلا من الذهاب إلى طبيب نفساني أتجه في خضم الحرب وملابساتها واشكالها التي اشتعل أوارها  إلى مقابلة  أحد الأقرباء وأسمه- بركات- لديه القدرة في أن يكشف المخبوء يسكن أم القصب (نهض وأحضر شيئا من الرف ووضعه على نار في دورق صغير أشعله وبدأ الدخان يتصاعد ......قال وهو عاكف على النظر إلى مسبحته السوداء الطويلة ...صاحبك موجود !)ص83 الجواب غير مقنع وليس فيه  جدوى ، الكلام المبهم لا يعني سوى الغموض..بقيت الحقيقة مفقودة تثير الشبهات فالبيت المهجور أصبح عرضة للتهيؤات ..   التهيؤات لم تعد أمرا سطحيا يشعر بأنها هي الواقع كما هي الحرب التي أكلت الأخضر واليابس ، كلاهما لا هدنة فيه قابلة للتفاوض ، انهما يعصفان في كيان البطل ووجوده مادام  الهاجس يعبث في داخله عالم من الشك والريبة ، وكان لحضور زمن الحرب بعدا قاسيا في تجسيد تضاعيف هذا المأزق ، مأزق الضعف الإنساني إزاء قوة تفوق طاقته أي أنه خارج أطار الذات ولذا نجد إرهاصات المواجهة تأخذ منحى الرسالة المتمخضة شعن السرد  أحدهما باتجاه الحرب والرسالة الأخرى باتجاه السحر وبهذا الوعي قدم لنا النص تكنيكا مشبعا بالدلالة والقصدية لحركة الشخصيات   . 

الرؤية السردية :

هناك ثلاثة مظاهر تشمل الرؤية من الخلف عندما تكون الشخصيات واضحة ولا أسرار فيها والرؤية الخارجية هو الاختلاف الواضح بين الشخصيات ومدى تأثير ذلك على حركة السرد والرؤية المصاحبة وفيها يكون البطل الراوي متساويا مع المرويات المحكية للشخصيات الأخرى . هناك قواسم مشتركة بين الشخصيات ( وحدة موضوع ) والنص لا يهيمن عليه الوصف إلى درجة الملل بل أن الراوي العليم يتوارى خلف الأحداث والأفعال هي من تجسد قيمة السرد ، والسرد نراه يتمتع  بتقنيات الحذف والاسترجاع والتلخيص والوصف ، فالكثير من الوقائع والأحداث تتميز بالمواقف البنائية للنص الروائي  فهي على الرغم من تباينها إلا إن القارئ يجد في هذا التباين فرصة لكشف دوافع الشخصية وأثر توقعاتها على مجرى الحكاية .

فالحفرة التي عثر عليها في الليل داخل البيت ، الأشباح بهياكل مرعبة والأقزام  الذين يحملون التابوت ، الرجال الثلاثة  أحدهم يحمل  سكينا في حزامه وهم يسألون عن سالم ، سؤال صاحب  الدكان علي الطاهر المقابل لبيت أخلاص وهي ايماءة عابرة ولكن دالة وهنا مكمن الفرس كما يقال  ، هروب البنت في ليلة عرسها ،بيوت الشارع التي تحولت إلى مآتم ونعوش جراء الحرب الضروس ، اذاعة لندن وصوت المذيع ماجد سرحان وهو ينقل أخبار الحرب عبر الأثير ، السفر إلى مصر من أجل اللقاء بمنير ، الإقدام على تشويه  بعض الشباب المساقين الجدد للجيش  لأنفسهم  لغرض التمرد على الانخراط بالحرب ، ذكريات المدرسة والفرقة الموسيقية التي يشترك فيها منير وإخلاص . هذه الحركات وغيرها كل منها تؤدي وظيفة للفعل بحيث لا يتقيد الراوي في التسلسل المنطقي لوقوع الأحداث أي أن السرد الزمني لا يخضع للترتيب المتدرج صعودا لذروة الحدث وإنما يترك للقارئ تمثل الموضوع  أو تموضع الشخصية في المكان أو الزمان الذي تتجسد فيه الأحداث ، بمعنى آخر أن الشخصيات منفتحة على عدة خطوط سردية وتمنح  أفقا للتصور في رسم تشكلاتها الذهنية  ، مثل : الحرب ومآلاتها ، البيت المهجور والاقاويل ، الثراء الفاحش لعصام مجيد الذي أشترى أغلب عقارات الشارع ومن ضمنها بيت سالم ، مداخلات الافلام مثل فيلم – أضحك الصورة تطلع حلوة وفتوة بولاق وغيرها من الأفلام ،عملية الشنق بالمروحة السقفية ، رحلة ابراهيم الى مصر لتعقب منير ، دهس الأب سالم  أمام جدارية فائق حسن. فهذه الأحداث غير بريئة اطلاقا فهي مرموزه بطبيعتها ومحفزة على قراءة ما بين السطور بالتأمل والممكن والمتوقع  التي تعد حسب مقولة منذر عياشي الكتابة الثانية .للنص السردي .

دالة  الصراع :

هذه الرواية تتحدى الواقع بالوهم وتتحدى الوهم بالواقع و تتداخل فيها عدد من أشكال الصراع وأبعاده ومظاهره بين النفسي والاجتماعي  والسياسي ونتيجة لذلك الاحتدام الحاصل بين ضغوط الواقع المأزوم بالفقر والجوع والحرب تأخذ الحكاية في شروعها الستة مختلف الأشكال ، ففي كل شروع حدث يقابله ردة فعل محتدم ، فالكائنات الخرافية والأسطورية التي يولدها البيت المهجور يمكن أن تكون سمة لا تختلف عن ما تحمله إفرازات  الحرب وأثرها  على البنية الاجتماعية ، العلاقة بين إخلاص ومنير الموشومة بالانهيارات لا تخلو من المقموع والمسكوت عنه ، حضور سالم بملابس رثة وبوجه بائس  بعد الغياب إلى منطقته القديمة من الممكن أن يكون نموذجا للاستلاب المشوه ، تقصي ابراهيم الحقيقة والسفر خارج الحدود والعودة بخفي حنين وهي إشارة إلى أن تداعيات اليقين لم تعد قائمة في سديم الغياب ،فالرغبة في العثور عليه منقوصة  تحث دائما على البحث الذي يبدو أزليا مع الواقع أو الحياة عموما ، بركات وقصة عائلة سليم الملفقة بالهروب الى اليونان والتاجر عصام مجيد الذي اشترى البيت المهجور والبيوت المجاورة بما فيهم مخبز العم كريم وحولها إلى عمارات والابتعاد عن بائع الكتب الذي عرض عليه كتب جديدة حول السحر وتحضير الأرواح ، هذه البنيات رغم تنوعها في السرد تعد محمولات دلالية مكثفة للتأثير والسيطرة على مسار تطور الحدث في النص الروائي. اننا أمام صورة يندر أن يكتب في عوالمها عن- السحر- ولكن الكاتب أستطاع أن يسبر أغواره بفنية وتقنية وبرؤية سردية قابلة للتحقيق ومصاغة بلغة جاذبة للانتباه.

عرض مقالات: