يقول الشاعر الإنجليزي شيلي في تصديره لمسرحيته الشعرية "برومثيوس طليقاً" وهي من ترجمة الدكتور لويس عوض، والصادرة عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987:
"" كان كتّاب المآسي عند الاغريق يتناولون بالتصرف فصولاً في تاريخهم القومي أو حلقات في أساطيرهم ليجعلوا منه موضوعاً لمسرحياتهم،...."
وقصة العملاق برومثيوس في الميثولوجيا الإغريقية معروفة، تكاد أنْ تكون الأشهر في العالم، وعملية غضب كبير الآلهة زيوس عليه، بسبب سرقته قبساً منْ نار الآلهة ليهديها للبشر، وذلك لحبه لهم، كي يمنحهم الدفء (الحرارة) والمعرفة (النور). وعقابه معروف: إذ ربطه كبيرُ الآلهة بالأغلال الى صخرة، وسلّط عليه نسراً يأكلُ كبده في النهار، وينمو ثانيةً في الليل، وهكذا في مسلسل عذاب لا ينتهي. استلهم قصته الكثير من شعراء العالم، وضمنوها قصائدهم. ومنهم الشاعر العربي أبو القاسم الشابي وقصيدته "هكذا غنى برومثيوس" شاهد:
سأعيشُ رغمَ الداءِ والأعداءِ
كالنِّسرِ فوق القمَّةِ الشمّاءِ
التراجيديا (المأساة) بالأساس تتعلق باستعراض أحداث مأساوية ذات أبعاد حزينة، ونتيجة مؤسفة درامية في النهاية، لذا ارتبطت الدراما بها، والمسرحيات التاريخية الإغريقية بالذات خير مثال، وشكّلت سمةً رئيسة للمسرح. لتتطور في العصور الوسطى في أوروبا مع مسرحيات شكسبير وراسين الفرنسي (1639-1699)، لتكون ملمحاً وامتداداً لأيام الإغريق.
(الصراخ) من سمات التراجيديات الكلاسيكية، ولا نعني بالصراخ صوتياً، وإنما اسلوباً شعرياً يمتاز بقوة اللغة وألفاظها الرنانة شديدة النطق وقوية التلفّظ صارمة الأداء، واستخدام الكلمات ذات الجرس الفخم والإيقاع العالي، وذلك بحكم التعبير عن المواقف والوقائع والأحداث العظيمة ذات الأثر الكبير على الشخصيات ومشاعرها وتفاعلها، ومواقعها ودورها ضمن المضمون المُعبَّر عنه بالصور والوصف والسرد والأحداث. ولْنقرأ معاً ما ورد على لسان برومثيوس في دراما شيلي المذكور (برومثيوس طليقاً) ص137 :
" برومثيوس: يا ملك الأرباب والشياطين! يا سيد الأرواح طُرّاً، ماخلا روحاً واحداً جبّاراً! يا ملك الأرواح التي تملأ الأفلاك اللامعة، تلك الأفلاك التي نرعاها معاً بعين ساهرة، من دون سائر الأحياء! انظرْ الى الأرض غصّت بعبيدك، أولئك الأشقياء الذين كتبتَ عليهم الخوف، والذلّ، والأمل العقيم."
ولننظرْ الى الألفاظ الواردة في النصّ أعلاه، وما تحمله من قوة اللفظ، وشدّة الرنين، وعنفوان الصوت وما تحمله من إشاراتٍ معنوية، ودلالات ضمن سياق المضمون والأسلوب والتركيب اللغوي، إضافة الى موقف الشخصية الرئيسة (برومثيوس) وما كان يعانيه بسبب ما قام به وما مرَّ عليه من أحداث جسام:
الأرباب، الشياطين، طراً، جبّاراً، الأفلاك، غصّت، عبيد، الأشقياء، الخوف، الذلّ، العقيم.
وهو ما نقرأه ونلمسه ونحسّ به في شعر مازن جميل المناف، ذي البُعد التراجيدي الواضح، بقوة أسلوبه، وعنفوان أحاسيسه المتفجِّرة ، والموقف والأحداث العظيمة الوقع والتأثيىر مما عاشها. يقول في قصيدة "لحظة ارتباك":
خرجتُ عن التسلية
إلى حصادٍ آخر
لم يبقَ سوى لحظة طارئة
في أجواء غرفتِي و أنا أعدّ غنائم حروبي الباردة في خنادق الألم
سلامٌ للأرواح ِالمقيّدة بسلاسل الشّك واللّاجدوى
سلامٌ للأراجيح الجائعة برائحة القيء المزمن
وشؤم الفرح المنقوع بالدَّم
خلفَ أكوام العَبثْ
وخير أمثلة على ما ذكرناه سالفاً منْ ألفاظ في نصه أعلاه:
غنائم حروبي، خنادق الألم، المقيّدة بسلاس الشكّ واللاجدوى، رائحة القيح المزمن، شؤم، المنقوع بالدم، أكوام العبث.
قال ارسطو بأنّ "هيكل العمل التراجيدي لا ينبغي أن يكون بسيطاً، بل معقداً، وأن يمثّل الحوادث التي تثير الخوف والشفقة." (ويكيبيديا)
وهو ما عبّر عنه شاعرنا المناف في قصيدته قائلاً:
اضمحلّت أفكاري المُتعبة
فوجعِي حائر لا يقبل القسمة
أنهكَ جيوشَ حَيرتِي
عندَ الفزع العنيف في وقفة احتجاج
صوب ميادين الإنصياعِ
وفصولُ الشَّغب
نلمس القوة وشدة اللغة، والإيقاع العالي في:
"اضمحلت، وجعي، أنهك، جيوش، الفزع العنيف، احتجاج، ميادين الانصياع، الشغب."
وهكذا ينطلق الشاعر في قصيدته بصخب وجلجلة وقرقعة لغوية، تشبه قرقعة الأسلحة التي نسمعها في لغة ووصف المعارك والصراعات العنيفة في التراجيديات القديمة. لكنّ الفرق أنّ مازن جميل صراعُه وصخبهُ وقرقعتهُ داخلية ذاتية؛ لمعايشته أحداثاً عظيمة، ووقائع صاخبة عنيفة حياتية وعامة في محيطه الجغرافي (وطنه)، وهي أحداث ووقائع تركت آثاراً عميقة، حفرت في داخله صدوعاً كبيرة، وشروخاً سيكولوجية، لا تندمل جروحها، ولا تنتهي أوجاعها بسهولة ويسر، مثلما يسجّلها ويعبّر عنها شعرياً شاعرنا المناف حين يقول:
ما زلتُ أتراشق الغباء وراء أكياس الرّمل
أعدتُ ترتيبَ هواجسي على أسرَّة الغرام
ها أنذا أعتلي طوابيرَ الغضب وذلك الدّوار الذي يراقص خطيئتِي كالمجنون
أجرجرُ آلافَ الموتى العائدين بلا نعش ٍ في أزمنة ٍ أزاحت الستار عن أحذية ِ المشاهير
ولنتأملْ الألفاظ التي صاغ بها الشاعر قصيدته، وعبّر من خلالها عمّا اعتراه لحظة مخاض ولادتها، التي جاءت بعد معاناة ومعايشة حيّة لما ورد فيها من خلفية شعورية تراكمت بعد أحداث كبرى عامة وذاتية، دفعتْ به نحو التراجيديا، بوعيٍّ منه أم بعفوية وتلقائية من طبعه الشعري، فالشعر طبع، وصناعة بعد ذلك، يتمخضّ عن الذي يكتنزه الشاعر في خزانة اللاوعي، تجربةً ولغة وثقافة، واكتساباً فنيّاً. ومن شواهد الصراخ الداخلي لفظاً:
أتراشق، الغباء، هواجسي، طوابير الغضب، الدوّار، خطيئتي، المجنون، أجرجر، الموتى، نعش، أحذية....
ويمكن لنا أنْ نضرب الكثير من الأمثلة الشعرية التي تمتاز بكلّ ما ذكرنا سابقاً منْ خصائص شعره، ومنها البعد التراجيدي موضوع قراءتنا هذه النموذج على ذلك. ومما يتسنى لنا ضربه من خصيصة الصوت العالي الذي يسود في قصائده المعنية، وقوة وبأس وشدّة المضمون المُثار من خلال صلادة الألفاظ وقوتها حرفاً ونطقاً ، مما يناسب الحال والغرض والهدف من ولادة القصيدة، وسياق التعبير والأسلوب المناسب لكل ذلك، والتأثير المطلوب في المتلقي، وخلق الجو الفنيّ إيقاعاً منسجماً لغةً، وموسيقى شعرية تصويرية؛ لبلوغ الغاية المرتجاة من حشد كلِّ تلك العناصر المفروض توفرُها في الصياغة الشعرية لاستكمال الصورة الفنية شكلاً ومضموناً. ويمكن لنا بكلّ تأكيد أن نضربَ مثالاً آخر بنصٍّ من قصيدة أخرى للشاعر مازن جميل المناف، وهي قصيدة (خارج جدران الصمت) حيث يقول في مستهلها:
أتشدَّق بالتفاهة من روائحكم الكريهة
وبريق الرصاص الثائر
لاشيء بعد استقراء التاريخ
لم يكن في مجريات الأفق متسع
أحلّق فوق عتباتكم الوقحة
لا أودّ أن أُخلي اغتباطي
خلف دعابات حركاتنا السرية
معذرة لهذا الإستطراد ..
أنقِّب عن رسائلِي الحمقى بالوعود
وأبحثُ عن أغلال اقيد ذلك الأرق الرخيص
أتكأ على نوافذ غفوتي
على خدَر الشعور
أليس الوقت مبكراً ..؟
أن تتسكعَ قصائدنا ويسكت الضمير بالخذلان
لست أسيراً ..
لكن يطوق عنقي ذراع الجوع
لقد أوصاني الرّب أن أغنِي
أن لا اعلن التوبة
في جناته المنهوبة
أتشدق بالتفاهة، روائحكم الكريهة، الرصاص، عتباتكم الوقحة، رسائلي الحمقى، أغلال، الأرق الرخيص، خدر الشعور، تتسكع، يسكت...بالخذلان، ذراع الجوع، المنهوبة..... وهكذا في متوالية لغوية رنانة شديدة الوقع، بالغة التأثير، صاخبة الإيقاع، خشنة الملمس اللساني، معبّرة بصدق حسّي عما مرّ به الشاعر من التجربة والمشاعر ومخاض ولادة القصيدة. إنها بحقّ صادقة شكلاً ومضموناً وأسلوباً وتعبيراً، وتصويراً دقيق الرسم والألوان.
ختامها:
إذا كان الصراع بين الآلهة، أو بين الأبطال (التراجيديات الإغريقية والرومانية) مركز ثقل التراجيديات الكلاسيكية القديمة، التي تدور حولها الأحداث والشخصيات المنتقاة، فإنَّ صراع الإضطرابات والوقائع الكبرى الداخلية التي تقع في البيئة الاجتماعية العامة المحيطة بالشعراء، والدراميين، والأدباء عموماً، هي مركز ثقل الأحداث بشخصياتها التي تسببتْ في وقوعها، وشاركت بفاعلية فيها، كان لها أثرها البالغ والعميق، والواغل في أعماق النفس البشرية التي عاصرتها وعايشتها، فأثّرت في حياتها بشكل كبير، وأحدثت تصدُّعات وشروخاً، واختلالات سيكولوجية، مما تسببت وجرّت معها اضطرابات وجروحاً وخدوشاً نفسية وآلاماً للفرد والجماعة. فأدّت الى انتشار الحزن والأسى والقنوط واليأس والتوحُّد والقلق، والانغلاق على الذات، مثلما حدث لهاملت في التراجيديا الشكسبيرية. وبما أنّ الشاعر صوت الذات الشاعرية الإنسانية الخاصة، وانعكاس وصدى لتجاربه ومعاناته الحسيّة الخاصة، وتجارب ومعاناة الجماعة حوله عامة، فإنّه بالضرورة والعلاقة تجد الصراعات والوقائع الكبرى طريقها الى نصوص الشعراء، وهذا ما نلمسه في قصائد الشاعر مازن جميل المناف، ومنها الى جانب القصيدة المعنية بالبحث قصيدته (خارج جدران الصمت)، إذ يرد في نهاياتها قوله:
دعِونِي وحدي أرحل.
فكل الأساليب مبتذلة قاسية
ها انذا اتجرع هذا الصقيع
واقفز على حظي الشاغر
الأرق يعشعش في عيني
انا أعرف ما أريد من كثرة الثرثرة
والصخب الصاعد من رأسي
قلّبت كل شيءٍ رأساً على عقب
وسبقت عمري
.......
اشعرُ في اعماقي بالضعف
ها انذا ألتحفُ الخراب
تارةً أسعل وتارةً أعوّي
على مسرح الجريمة وساحات الاحتجاج
في قصائد مازن جيل المناف جوانب عديدة من الخصائص الفنية شكلاً ومضموناً، يستطيع الناقد والباحث أنْ يلتقطها موضوعات لقراءاته ودراساته، من خلال إبحاره في مكامن القصائد لفظاً ومعنىً ومبنىً، ليستقرئ، ويستقصي، ويستكشف.
عبد الستار نورعلي
نصّ القصيدة:
(لحظة ارتباك)
شعر: مازن جميل المناف
لم أعد أكترث بأي شيء
كثيرةٌ هي معابدُ النّعي
حظيت بهزائمي المقدسة
حتى قطة طفلتي أصابها التطرّف
أسَرت هذا الإرتباك
خرجتُ عن التسلية
إلى حصاد ٍ آخر
لم يبقَ سوى لحظة طارئة
في أجواء ِ غرفتِي و أنا أعدّ غنائم حروبي الباردة في خنادق الألم
سلامٌ للأرواح ِالمقيّدة بسلاسل ِالشّك واللّاجدوى
سلامٌ للأراجيح ِ الجائعة برائحة ِالقيء المزمن
وشؤم الفرح المنقوع بالدَّم
خلفَ أكوام العَبثْ
ما زلتُ أتراشق الغباء وراء أكياس ِ الرّمل
أعدتُ ترتيبَ هواجسي على أسرَّة الغرام
ها أنذا أعتلي طوابيرَ الغضب وذلك الدّوار الذي يراقص خطيئتِي كالمجنون
أجرجرُ آلافَ الموتى العائدين بلا نعش ٍ في أزمنة ٍ أزاحت الستار عن أحذية ِ المشاهير
لا شيء يحتلُّ عقلِي طالما أُباغت شَغفِي سراً في رُقعة شَطرنج
أفترشُ ضحكاتِي الساذجة عند أضرحة الأنبياء
وأقيم صلاتي المأسورة خلفَ حدود اليأس
لعلّي أكونُ حذراً حدّ الشّفقة
قُبيلَ مراسمَ دفن البيدقِ الأسود
وذلك الرّخ المعاند
لن أُطيع أوامرَ الرّب ثانيةً
رغم أنني لم أنقض العهودَ في بَرزخ أحلامي
اجتزت ارتباكاتي الوقحة
بانتظار رصاصةِالرّحمة
أن تمزِّق جسدي المكتظّ بالأقاويل ِ
ورأسي المُتغطرس بالكذبِ
.
.
اضمحلّت أفكاري المُتعبة
فوجعِي حائر لا يقبل القسمة
أنهكَ جيوشَ حَيرتِي
عندَ الفزع العنيف في وقفة احتجاج
صوب ميادين الإنصياعِ
وفصولُ الشَّغب