من الخصائص الأساس في نصوص الشاعر مازن جميل المناف طولُ النَفَس الشعريّ (الملحمي) في الصياغة العامة شكلاً، وفي الأسلوب لغةً، وخَلْق صورٍ مركبةٍ لتقديم الأفكار والأحاسيس، والدلالات والإشارات على طبق من الجمال الشعري المطلوب فنيّاً؛ لتقديمها الى المتلقي شحنةً كهروحسيّة تلامس مشاعره وأحاسيسه فتهزُّها تفاعلاً وانفعالاً، منْ خلال توليد لوحات مُخطّطة بريشة شعرية بليغة، عميقة الأثر والنحت في ذائقة ونفس المتلقي؛ حتى يلتحم المراد إيصاله، معنىً ومبنىً، مع قراءة واهتمام القارئ الباحث عمّا يُشبع ظمأه الى الشعر الأصيل واستمتاعه به، واحتساء كأسه حتى ثمالة إرهاصات ولادته. لذا تحفّز قصائده المولودة وحيَها على أنْ تكونَ طويلة متنامية شكلاً ومضموناَ ملحمياً درامياً؛ لتشتملَ على كلِّ زوايا مخاضها وجسدها المكتمل دون ثغرة ولا صدعٍ خادش لبهاء ردائها وهامتها الشعرية الفخمة، وليكتملَ بناؤها الفنيّ من التأسيس (البداية) الى أعلى نقطةٍ من هندستها ومعمارها الفنيّ (النهاية)، مع الحرص الشديد على الشعرية صوراً ومشاهدَ ومبننىً ومعنىً:

لثرى البطولة في عتمة اليأس

لكل جدثٍ ورمس

دفنت فيه جثث الصعاليك

لمن لاذ بالفرار

للأحذية المتعبة بالطينِ

لكل مقتدر يروض نفسه ذئباً في القفر

   ففي قصائده تأتي الصورُ خلّاقة، متلازمة، منظومةً في سلسلة واحدة بنظام عِقدٍ فريدٍ، وبصياغةٍ دقيقة الصناعة والنسج والرسم وبريق الألوان المتجانسة المتداخلة لتكوّن لوحةً تثير الدهشة والمتعة والقراءة المنغمسة في عالم القصيدة، كي تؤدي ما عليها منْ وظيفة في شدِّ المتلقي، واستثارة اهتمامه وتشويقه وتفاعله ومتابعته حتى الحكاية الحسية، ولإيقاظ إحساسه في البحث عن الجمال، ومعايشة التجربة الراسخة عموداً في بنائها، وتجذير أثرها في النفس:

(عتمة اليأس): صياغة بيانية ترتكز على الاستعارة، إذ استعار من الليل عتمته، وألبس اليأس رداءها البلاغي. اليأس حالة معروفة سيكولوجياً بأنها تلقي اليائس في وضع نفسي سوداوي، يرى العالم حوله ظلاماً دامساً، ويشعر بنفسه وسط عتمتها الخانقة، ليصل الأمرُ بالبعض من اليائسين الى أنْ يُلقي بنفسه في مهاوي الردى.

(الأحذية المُتعَبة بالطين): هل تتعب الأحذية! الأحذية ليست كائناً حيّاً حتى تتعب. رامَ شاعرنا أنْ يخلق صورةً شعرية مؤطرة بلغة بلاغية بجمالياتها، وبديعها وبيانها، فاستعان بالمجاز: مَنْ الذي يستخدم الأحذية غير الانسان، وهو الذي يتعب من كثرة المشي، إذاً فالمقصود بالصورة المُقدَمة هو إنسان مُتعَب، وهو مُتعب من المشي في الطين، ولماذا في الطين؟ لأنه خاض الحرب. وكيف عرفنا انه يقصد الحرب؟ مِنْ دلالته وإشارته التي أوردها في قوله (لثرى البطولة) فالبطولة تظهر في المعارك. والمعارك تدور رحاها – مثلما عهدنا – على الأرض كرّاً وفرّاً، مثلما أشار الشاعر ضمناً في قصيدته حين قال:( لمن لاذ بالفرار)، بينما الكرّ في دلالة قوله (لثرى البطولة)؛ لأنَّ الكرَّ بطولة. فالذي يكرُّ شجاع بطل. والشاعر الصائغ الماهر والحاذق هو الذي لايصوغ مضامين قصيدته صياغة ميكانيكية جامدة مباشرة تفقدها عنصراً مهماً في الأسلوب وهو استخدام الدلالات والإشارات والتوريات  والمجازات من غير تصريح، لأنّ في التصريح والجلاء التعبيري ذهابَ النصّ ناحية النثر، وفقدانه لأهم خصيصة شعرية فنية ملازمة للشعر منهجياً، وعفوياً تلقائياً طبيعياً نابعاً من طبع الشاعر الموهوب.

    كلُّ هذا دلالة على ثراء تجربته الشعرية، وإشارة الى ثقافته الواسعة، ولغته المكتنزة بقاموس كبير، يعينه على التنقل في أعماق تجربته بدقة لغوية مُعبّرة عن الحالة النفشسة التي عاشها ويعيشها الشاعر لحظة خلق القصيدة، وبسلاسة وانسيابية، وكذلك في دهاليز فكره، المستندة الى مكتبة فخمة تقف منتصبةً ليستخرج ما تحتويه من أفكار وتجليات. وهو ما يمدُّه كذلك ببلاغة عالية جميلة الأداء، غزيرة الدلالات والإشارات، والكوامن المكتنزة بخزائن من المعاني المتراكمة، التي تنتظر لحظة الانطلاق الى وعي وذائقة المتلقي المتحفّزة والظامئة الى ما يرويها من النصوص الدسمة، الدسمة بالأفكار والصور والأحاسيس المتدفقة، المتلاطمة بأمواج منَ المشاعر المرتعشة الهازّة لأحاسيس القارئ المنغمس في القصيدة وايقاعها. وهي مضامين عميقة بحاجة الى تأويل واعٍ مثقف، أدبياً وعامةً، وذوق فنيٍّ حسّاس خبير بمكامن النصوص وما خلفها، والمؤثرات الداخلية والخارجية والتجربة التي خلقت النصّ وأغنته. وهذه مهمة ليست بالسهلة، ولا بالمتوفرة إلّا لذي موهبة كبيرة، وقدرة وامكانية مكتسبة سعةً وهضماً، وخلفية ضخمة ثرية بالفن الأدبي والثقافي والذوقي. وذلك لأنّ قصائد مازن جميل المناف تحتاج الى مثل هذا القارئ.

    إنّ طول (ملحمية) نصوص الشاعر مازن جميل المناف انعكاس لطول نّفّسه، كما أشرنا، بحيث أنّ نَفْسَه تنطلق عفوياً، فتنهمر أمطارُ سحابه المُثقَل شعراً بغزارة لا توقفها العوائق، منْ لغة وبلاغة وصور مُصطنعة اصطناعاً ميكانيكياً، هكذا ينهمر غيثُ شعره بسلاسة واضحة، وإمكانية متفجرة جليَّة؛ لأنها تنطلق بحرية لا يتقيد معها الشاعر بقواعد مُعيقة لسيلها العرم المنساب من ينابيع مشاعره وارهاصات تجربته، ولتدفقها السلس. وهي عملية مخاضٍ شعرية ليست بالسهلة، بل صعبة عصية، تحتاج الى مبدع بموهبة ومقدرة استئنائية ومهارة محترفة وحذاقة، وتمكّنٍ من اللغة وأدواتها وقواعدها المنهجية، كي يستخرج مكامنها المختزنة بمنجم من معادن الأفكار والأحاسيس والتجارب واللغة وجمالياتها الفنية، وهو ما نراه متوفراً في أديبنا القدير مازن جميل المناف، وبجدارة إبداعية عالية قوية شديدة الانفجار، وبشظايا شعرية تنغرز في نفس المتلقي الواعي والمتذوق المستمتع.

 (عبد الستار نورعلي)

تموز 2024

...............

نصُّ القصيدة:

(مذكرات على أوراق محترقة)

شعر: مازن جميل المناف

للراحلينَ قبل الأوان

للناقمين الثائرين على العتاة

الرافعين للإنسانِ جبهة

للخالدين في دسائس الرب

لكل كنانةٍ

لثرى البطولة في عتمة اليأس

لكل جدثٍ ورمس

دفنت فيه جثث الصعاليك

لمن لاذ بالفرار

للأحذية المتعبة بالطينِ

لكل مقتدر يروض نفسه ذئباً في القفر

لكل نهر بلا مصبٍ

لكل عقلٍ غاص بالغضبِ

سنعيد ضحكة الوليد

للغادين . للآتين

لكل خنساء وهي تبكي ثكلى

لرصاصِ الغدر

للجندي الذي يلملم غنائم الحروب العبثية ..

للبغاء ومزابل الزعامة

.

.

مصيبتنا ...

بادران الكلام

وما زلنا نياماً

للوجعِ المستيقظ في حدود الله

للعاهرااااا ت والقديسين

للتبجيلِ . للشتائم

للعذابات القادمة

لصفارات الإنذار النشاز

للعادات السرية وفواصل التسلية

.

.

واشتباكات الفرح المقيت

لصراخنا .. والفكرة الكسيحة

فزادنا في نفخ ( الاراكيل)

ننفخ أبواق سأمنا لبرهةٍ فرح

نردد التراتيل بدرابين الله

لا نفقه ساعات الليل

والرقص على فواصلِ النفاق

لعلكم في هذا تعشقون المواعظ والخطب

ذلك لم يلد ويشبع السغب

ويحرر لكم شبرا

ولم .. ولم .. ولم

زمان الكذب قد لعبا

وإنسان له ألف وجه ما تعبا

وسوط وجلاد

وازلام وارقام ما خَفِيا

وحاضرة بها ألف غراب قد نعبا

ايا .... ابن الصعاليك

نسفك ميت في الطين

وصحيح قد بايعوا

وقومك قد شايعوا

الركض في تسابيح الكون

من جاءوا ومن نصبوا

ومن سقطت رآياتهم في مدن النفايات

إليكم تواريخي النائمة على أوراق اليانصيب

......................

*الجَدَث : هو القبر وهو مفرد أجداث

*الرَّمْسُ : تراب القبر

 

 

عرض مقالات: