منذ سنوات أصيبت عناوين الرواية الأجنبية والعربية بهذه الموضة: أعني أن يحمل العنوان اسما لشخصية مشهورة (على سرير فرويد).. (من يخاف من فرجينا وولف؟).. (دماغ لينين). ربما رائدة هذه الموضة  في خمسينات القرن الماضي هي الروائية فرانسوا ساغان، حين  حملت روايتها العنوان التالي (هل تحبين برامز؟). بالنسبة لي أرى أن هذه الموضة تشتغل على نظام الاستعانة فيكون الاقتران بين اسميّ المؤلف واسم شخصية مشهورة. وكأن الأمر دخل ضمن الفاصل الإعلاني.

(*)

بالنسبة لرواية (الحرب التي أحرقت تولستوي).. العنوان يستفز تساؤل القارئ، ويحيل بعض القرّاء إلى عنوان رواية تولستوي (الحرب والسلم)، هنا يكون التساؤل: أهناك تناص روائي بين رواية زينب السعود وملحمة تولستوي؟  كما هو الحال في (أبناء الجبلاوي) للروائي إبراهيم فرغلي حيث عنون المؤلف الفصول بعناوين بعض مؤلفات نجيب محفوظ. أو كما عمل الروائي رشيد الضعيف في روايته (معبد في بغداد). وقارئ آخر ربما يسأل: هل احترقت موهبة تولستوي بعد انجازه روايته الملحمية العظيمة (الحرب والسلّم)؟ وما كتبه بعد هذه الرواية محض هوامش سردية تحاول أن تكون رواية ً؟ السؤال الأخر.. إذا تجاوزنا تأويلنا السابق: أية حرب احترق فيها تولستوي؟ وتولستوي هو(مرآة الثورة الروسية) وما بين القوسين هو عنوان كراسة تحتوي مقالات في علم الجمال كتبها فلاديمير لينين عن شخصية تولستوي وعن منجزه ِ. وهناك لعبة (العنوان المخادع) الذي تستفيد منه دار النشر. رواية (المركب) للروائي العراقي غائب طعمة فرمان.. لم يكن اسمها (المركب)، هذا العنوان أطلقه على الرواية، الروائي سهيل إدريس صاحب دار الآداب. عنوان رواية غائب (أم الخنازير) وهي جزيرة في نهر دجلة تجري فيها أحداث الرواية. لكن خوف دار الآداب آنذاك من سوء تأويل العنوان من قبل السلطة آنذاك جعله يغيّر العنوان.

(*)

(الحرب التي أحرقت تولستوي): تسلك مسارين: مسار عام تجسده الحرب الروسية الأوكرانية والظلال القاتمة لهذه الحرب على مجموعة من الطلبة العرب الذين كانوا يدرسون الطب في أحدى الجامعات الأوكرانية.

المسار الثاني يتجاور مع الأول ويختلف عنه بخصوصيته ِ المتمثلة بالمراسل الحربي يوسف. وزوجته جمانة التي تريده زوجا وأبا معها دائما وليس متنقلا بين الدول ويزور عائلته فترة قصيرة بين الحين والآخر. وهناك مسار ثالث لا علاقة له بالحرب: مسار شفيف مكتوم بين رشا ويوسف. والمسار الثالث هو الذي يهم قراءتي..

(*)

 المراسل الصحفي يوسف شاب مندفع  يحلم بتأسيس محطة اخبارية ولهذا الصحفي الحالم علاقة طيبة مع والد رشا، حين تسمع رشا صوته (دقات قلبها تتسارع كلّما سمعت صوته يُقرأها أحدى مقالاته لوالدها، لم تكن تفقه كثيراً من الكلام الذي كان يغزله بعناية، لكنّها لسبب لم تكن تعرفه عشقت صوته../ 120) يومها كانت رشا في فترة المراهقة وهي  الآن تسأل نفسها، أثناء الحرب الأوكرانية الروسية: هل من الممكن أن يحتفظ القلب بذات الانفعال تجاه شخص ما بعد سنين من الانقطاع هي الآن أكملت السادسة والعشرين ويوسف على مشارف الأربعين. مكالمة يوسف اعادتها لتلك السنوات (كأن قلب المراهقة عاد إليها) يوسف كان يستمد من أستاذه الدكتور فارس، العزم والتشجيع، رشا عشقت الصحافة بسبب صوت يوسف، حين يكون في ضيافة والدها الدكتور فارس، لكن المعادلة جانحة نحو السلب بالنسبة لرشا، على ذمة السارد (أذكى والدُها حبَّ العمل الصحفي في قلب يوسف، ولكنّه أصر على قتل الحب ذاته في قلبها/ 145).. يوسف هو المراسل الصحفي الذي ارسلته الفضائية التي يعمل فيها إلى أوكرانيا يبذل جهدا كبيراً  لترحيل الطلبة العرب من مدينة (كييف) حفاظاً على حياتهم من كثافة القصف الروسي. الطلبة في الفندق يصغون ليوسف وكيفية انقاذهم بعد رفضت السلطات الأوكرانية أن  يكونوا في القطار مع العوائل الأوكرانية، ورشا كانت تصغي ليوسف معهم منجذبة لمؤثرية صوته وهنا يخبرنا السارد (هل ستتجاوز هاتين المحنتين محنة الحرب ومحنة لقاء يوسف من جديد؟/ 171) لحد هذه اللحظة من الحرب ماتزال رشا في طفولتها تلك التي تعلقت إذنها بصوت يوسف. لكن بسبب القصف ومحنة من معها من الطالبات والطلاب، وبسبب كيفية أن يكونوا خارج الحرب وعلى مشارف السلام.. من داخل رشا ستتساقط كثيرا ً من سلوكيتها تلك أثناء توديعها للمراسل الحربي يوسف، وتقدم له هدية بسيطة وهو يعود لوطنه جريحا وهو يعتبر انقاذها واجب وطني  وحين يغلق يوسف باب حجرته فأن رشا ( أغلقت باباً في قلبها على مشاعر طفلة مراهقة، وجدت نفسها بين عشية وضحاها تكافح من أجل النجاة من حرب لا تعرف متى وكيف بدأت، وحتماً لا أحد يعرف متى وكيف ستنتهي/ 206).. الكل يعود إلى وطنه أعني الطلبة العرب والمراسل الحربي يوسف. هنا تتخلص رشا من مؤثرية صوت يوسف وهي تحيّه بسلامة عودتهِ، كما يخبرنا السارد قائلا (لأول مرة لم يرتعش قلبها لسماع صوته ورؤيته، كانت قوية متماسكة من الداخل. سرها هذا الشعور. أيقنت أنها نضجت وتخلصت من مشاعر زائفة أرهقتها سنوات../ 233) هل علينا أن نكابد من حرب ٍ حتى نتماسك من الداخل؟ رشا  أثناء الحرب وهي في أوكرانيا كانت تحتاج منقذاً كبيراً فكان يوسف، لكن وهي الآن في وطنها انتفت حاجتها لمنقذ.. وبشهادة السارد في الرواية (تتغير قوانين الإنسانية في لحظة ليصبح المرء حبيس مصلحته الشخصية.. لأنّ حاجته إلى النجاة بنفسه أكبر من حاجته إلى إنقاذ غيره../ 211)

(*)

نعود  إلى عنوان الرواية (الحرب التي أحرقت تولستوي) وأقول: العنوان ليس وصيف النص وكل العنوانات  تبث رسائلها إلى القارئ ليتقرب من الكتب يتلمسها يتصفحها لأن إنتاج دلالة العنوان يمكن أن يدرس ضمن أنتاج الدلالة العامة للنصوص وكل فاعلية العنونة منبجسة من مهيمنة النص، وهكذا كل عنوان يحتوي خلية سردية موقوتة تتشظى بمؤثرية قراءة النص..  ونحن على مشارف نهاية الرواية تباغتنا بالمعلومة التالية (بحثت رشا بين أغراضها فوجدت رواية (آنا كارنينا)، كانت قد ابتاعتها من مكتبة الفندق ظنّا منها أنها ستتسلى بقراءتها أثناء طريقهم إلى لفيف. مدت يدها الممسكة بتولستوي إلى مُعاذ. مزّق أوراق الرواية... ضغط مُعاذ على رأس الولاعة فاندلع اللهب الأحمر قربها من الورق فاشتعلت النار فيه.../ 213) فالبرد قاس جدا والتدفئة معدومة وهم في طريق النجاة.

في قراءتي الثانية للرواية لم أعثر على أية شخصية لها اهتمام ثقافي بما فيهم رشا التي تبدو في الرواية طالبة نمطية في كلية الطب. ذات بعد واحد في الحياة، وشخصيات الرواية كان كل همّهم  العودة لذويهم وهذا أمر طبيعي فهم لا دخل لهم بما يجري. ولم يتطرقوا في أحاديث إلى أي شأن ثقافي. وهذا يعني أن مؤلفة الرواية لم تمهد للقارئ بهذا الخصوص. أقول ذلك من خلال تجربتي كعراقي في الكتابة والحروب.. مَن يحب الكتب يتحاور مع الآخرين حولها.

في الصفحة الأخيرة من الرواية نقرأ المفاجأة السينمائية العربية التالية: (بقيت رشا واقفة في موقف السيارات بانتظار سيارة والدها، ألقت نظرها إلى داخل الكيس الذي قدّمه معاذ لها، كانت رواية (آنا كارنينا) لتولستوي! افترّ ثغرها عن ابتسامة كبيرة، تذكرت رحلتهم إلى (لفيف) فتحت الصفحة الأولى، قرأت الإهداء الذي كتبه ( إلى من أتهمتني بأنني أتجسس عليها، ولم تعتذر../ 235) هذه المفاجأة كمتلق أراها فائضة جدا ومقحمة على النص الروائي.

(*)

جمالية الرواية مهارتها في استعمال المونتاج في السرد. والاعتماد على فاعلية الحوار بين الشخوص. وموضوعتها ترّكز بنسبة عالية على نخبة من المقيمات والمقيمين في وطن الآخرين نخبة عرضة للقتل بِلا سبب.

  • زينب السعود/ الحرب التي أحرقت تولستوي/ الأن ناشرون وموزعون/ عمّان الأردن/ ط1/ 2023
  • مقداد مسعود في تقديمه لكتاب (ثريا النص) للأستاذ محمود عبد الوهاب/ المكتبة الأهلية في البصرة/ ط2/ 2021
عرض مقالات: