بأمسية المقهى الثقافي العراقي في لندن التي أقامها في اليوم السادس والعشرين من نيسان الماضي يكون قد انقضت ثلاث عشرة من سنوات عمره حيث قدم أول أمسية له في نيسان ٢٠١١ وواصل نشاطه منذ ذلك الحين باعتباره: " فضاء ثقافي عراقي في لندن.. يعنى بالإبداع بجميع حقوله "

وبهذه المناسبة قدمت الشاعرة دلال جويد في إفتاح الأمسية كلمة المقهى وفيما يلي نصها:

 "الحضور الكريم، أصدقاء المقهى ومناصروه، تحية طيبة وسلام..

يطفئ شغيلة المقهى الثقافي العراقي في لندن، في هذه الأمسية الجميلة، شموع ثلاث عشرة سنة من العمل، وهم أكثر إصراراً على مواصلة درب الأنوار والإبداع والمعرفة، من اجل ثقافة معاصرة وأصيلة ومناسبة لما تمر به البشرية عموماً ومجتمعاتنا خصوصا من تغيرات وتبدلات متسارعة وزمن عاصف ومسؤوليات جديدة ومتطلبات مختلفة.

إن شغيلة المقهى الذين أقاموا أول امسية لهم في نيسان عام 2011، كانت تحدوهم الآمال والطموحات لجعل هذا الفضاء الملون والواسع الثراء ملتقى لجميع العقول ومركزا لمختلف المشارب والتوجهات التي تسعى لرسم ثقافة تليق بنا وتواكب ما يدور حولنا من تغيرات إيجابية للتعلم منها أو من سلبيات محيطة بنا لتأشيرها وتشخيص ما ينفع لتجاوزها.

وبجهود ضيوفنا وأصدقاء المقهى ومناصريه إستطاع شغيلة المقهى في الإستمرار والمواصلة وتمتين الصلة بالجالية العراقية وجمهور الجاليات العربية الكريمة في لندن عاصمة الغرب الحديث.

لا نريد الحديث عن العوائق أو الصعوبات التي واجهت شغيلة المقهى ولا عن التقاطع في وجهات النظر وكيفية معالجتها بروح سمحة ومرنة ومسؤولية، ولا عن لحظات الضيق والتعب أو ما يشبه العجز أحياناً، لأن كل هذا أصبح خلفنا وصارالموقف واضحاً لدينا والطريق معبداً، لا يتطلب سوى الإستمرارية والسعي وراء كل ما يضيف لنا ويغني تجربتنا الثقافية العراقية والعربية بكل ما هو إيجابي وجديد ومتنوع. وكان الهدف الواضح هذا، قد رسم لنا الطرق التي يجب إتباعها ولم يقتصر على جنس إبداعي معين، وإنما توزع على مختلف الأجناس الإبداعية، من بحوث ودراسات وندوات تأريخية وفكرية وفنية: موسيقى، شعر، رواية، مسرح، سينما وتشكيل.

لقد كانت ثقتنا بجمهور المقهى عالية وقد أثبت جمهور المقهى وضيوفه الكرام هذه الثقة. وكلنا تفاؤل وحماس للإستمرار بالتعهد الذي أخذه شغيلة المقهى على عاتقهم بالتعاون مع جمهور المقهى والأساتذة الذين تكرموا وساهموا في إغناء فضائه الفني والمعرفي الجاد والرصين.

في الختام، لا يسعنا إلا ان نعرب عن شكرنا الجزيل وتقديرنا العالي لكل من ساهم مادياً ومعنوياً في دعم مجهود شغيلة المقهى وجعلهم قادرين على المضي نحو تحقيق الأهداف التي رسموها ويواصلون تحقيقها. فإليهم ولكم جمهورنا الكريم ومناصري مقهاكم نرفع القبعات ومنكم نستمد العزم والإستمرارية. مع تمنيات شغيلة المقهى

 ولم يفت المقهى من أستذكار زميل فقدناه مؤخرا هو الفنان المبدع الملحن كوكب حمزة، أذ ألقى الفنان التشكيلي فيصل لعيبي صاحي كلمة باسم شغيلة المقهى وكانت بعنوان:

الكوكب الذي مرَّ مسرعاً

 فقدت الساحة الفنية العراقية والعربية قامة إبداعية رصينة وجادة، وبفقده خسرنا علماً من أعلام الموسيقى والغناء العراقي والعربي. كوكب حمزة ذلك البابلي الحالم المليء بالسحر والخيال والتوقد والإنبهار.

 فنان مليء بالتفاؤل والأمل والأهداف التي تغطي عالما يسع للجميع، لأطفال العالم الحلوين وللمسافات التي هي أقرب من حبل الوريد، مسافة قنطرة يمكن ان تجعلنا نمسك بأطراف أصابع بعضنا ونحن بين ضفتين تجمعهما، وعندما خاطب نجمته الأولى والوحيدة في سمائه الزرقاء وحين أطلق حماماته نحو سماء الناس وسلم رسائله إلى طارش يرضى النشد وأوصاه، كان يدرك المحنة بحجمها القاتم والثقيل والمقبض للروح.

كوكب الذي ساهم مع مجموعة من مبدعي عراقنا الحبيب في تنويع وإغناء الحنجرة العراقية وتطعيم كلماتها بلغة الشعراء الغاوين ومن يتبعهم وتغيير مسار اللحن الجنوبي الشجي وجعله يجنح نحو الأفاق البعيدة، كان هو وزملاؤه يرنون لعالم بلا ضغائن ولا حروب أو دماء. عالم مليئ بالمحبة والحنان والسلام والفرح، عالم يستطيع النرجس والجوري والبنفسج وياسمين تلك البيوت ان يصل إلى بقاع العالم المترامية. من تشيلي إلى سايغون ومن بغداد إلى عدن ومن بيروت إلى نيويورك. عالم الإنسانية الموعود.

كان جهد هذه الكوكبة لا يقدر بثمن، إذ ضمّنوا ألحانهم وكلماتهم رسالة سامية وأمدوها بأفق واسع وسماء عالية.  وكان الهاجس الذي لم ينفك يراودهم هو العودة لتقبيل الأبواب والدروب والنحيب على أكتاف الوطن الذي فارقوه مرغمين.

ورحيل كوكب يعلمنا درساً لا يمكن ان نتغاضى عنه ولا أن نعتبره عابراً، ألا وهو الالتفات لتراث هذا المبدع وغيره من نجومنا التي غابت وجمعه وتبويبه وتقديمه كشهادة حية لرحلة العراقي الطويلة التي لم توصله للميناء الذي كان يريد العودة له. فهناك المئات من مبدعينا الذين لفهم الغياب وفقدنا آثارهم وما تركوه لنا. فنانون تشكيليون، شعراء، قصاصون، سينمائيون، مسرحيون لم تسمح لهم الظروف ولم تنفتح أمامهم فرص العمل لتحقيق ما كانوا يصبون أليه. هناك كم هائل من التركة الغنية لإبداع هؤلاء، من الواجب لفت الإنتباه لها والتفتيش عنها وجمعها وحفظها.

الذكر العطر لعزيزنا كوكب الجميل ولسائر مبدعينا الذين غابوا عنا فتركوا لوعة غيابهم العالقة في الروح.

شغيلة المقهى الثقافي العراقي في لندن

 بعد ان انتهى المقهى من كلمتيه، ابتدأت أمسية شهر نيسان وكان الضيف فيها الفنان السوري المبدع قائد الأوركسترا (المايسترو) باسل صالح، وقد كانت محاضرته تتضمن محورين هما:

 الأول: (آلية عمل الحبال الصوتية وطرق الغناء الصحيحة) والثاني: (الأصوات وأسباب تنوعها وكيفية المحافظة عليها).

  وحسب ما عرفنا ان دعوة المقهى له تأتي في سعيه إلى التوجه لدعوة مبدعين عرب لأمسياته.. وكان الدكتور سعدي الشذر قد تولى تقديم الأمسية مستهلا ذلك بكلمة تطرق فيها إلى موضوع الأمسية وعرّف بالضيف:

" لي السعادة أن أقف أمامكم متحدثا عن قامة ذات قيمة موسيقية تقدمية ووجدانا يشار له بالبنان.. صوته يعطي للكلمة معنىً وأداؤه ينعش هشاشات الذاكرة. فهو كمن يرسم. بالنوتة ليدخلنا عوالم الحزن بشكل أفضل ". وأضاف:" فالموسيقى روح الحياة ولغة المشاعر، وهي من الفنون الإلهية المقدسة وترجع إلى ما قبل ٣٥ – ٤٠ ألف عام (تعزف) بأدوات حجرية بسيطة تحاكي أجواء وأصوات الطبيعة".

وإستطرد الشذر بتقديمه للضيف المايسترو قائلا:" الأستاذ باسل موهبة لا نزاع فيها، وعطاء مستمر لا ينضب، فهو قائد أوركسترا وملحن وعازف عود ومؤلف موسيقي. مهنيته تدفعه لتوخي الدقة والحذر في الاختيار والشرح والأداء ، وينعكس هذا في اختياره لموضوعة اليوم حيث يبحث في ماهية الحبال الصوتية وما هي طرق الغناء الصحيحة وتواضعه يمنعه من ذكر تاريخ حافل بالإنجازات مثل كونه قائد أوركسترا الموسيقيين السوريين في لندن وحاصل على شهادة الماجستير في التربية الموسيقية او قيادته لعمل مشترك بين أوركسترا  فيلهارمونيك ليفربول ومجموعة  الموسيقيين السوريين بالاشتراك مع الموسيقار العالمي Damon Albarn أو عن تقديمه لعملين موسيقيين من تأليفه لأوركسترا ليفربول و كورنويل ، وأخيرا وليس آخرا تقديمه لعمل موسيقي لكورال بي بي سي الذي يعتبر من أهم الكورالات في أوربا ."

وأضاف د. سعدي إلى منجزات ضيف الأمسية المايسترو باسل انه:" عضو في جمعية المبدعين الموسيقيين في بريطانيا وقدم أعمالا وشارك في مهرجانات في المغرب وفرنسا ولندن وأمستردام وكمبردج وإسطنبول والدنمارك وكلاستون بري مع العديد من الفنانين أمثال:

Sam Willis, Martin Green, Susheela Roman, Tom Morris, David Greig.

وقد اختتم الشذر كلمته في تقديم الضيف قائلا:" قبل أن أترككم، أود ان تتخيلوا ان الكون آلة موسيقية عملاقة أحادية الوتر موصولة بالأعلى، بالروح المطلق ومن الأسفل بالمادة المطلقة، ويصبح الكون نغما وعددا كما قال فيثاغوروس. ومع كل ضرب عود يهتز الكون من حولنا وتتحرك الأجرام السماوية بوزن ولحن وانسجام وإيقاع وجرس. ان كنت تريد ان تعرف شعبا، استمع إلى موسيقاه، فالموسيقى وجدان الشعوب ".

وبترحيب ملحوظ من الحاضرين، تجلى بتصفيق مستمر، تقدم الضيف المايسترو باسل صالح إلى المنصة، فشكر الحضور ود. الشذر على تقديمه.. ابتدأ بشرح أسباب طرحه لموضوع محاضرته والظروف التي رافقته في البحث بهذا المضمار فقال:

” كيف توصلتُ إلى هذا البحث؟ تخرجت من المعهد العالي للموسيقى بدمشق في عام ١٩٩٩وعدت مدرسا للغناء الشرقي في نفس المعهد .... يمكن نسمع عن ان الكثير من الأطباء مهتمين بالموسيقى والفن.. انا من الأشخاص بالعكس من ذلك، فأنا موسيقي أهتم بالطب (ويبدو هذه من الحالات النادرة).. فمن غير المعقول انني اعمل أستاذا للغناء أهتم بتدريب وتطوير أصوات مغنيين ولا اعلم عن فسلجة الجهاز الذي يتم فيه التصويت عند الإنسان.. ومن هنا بدأت رحلتي مع هذا البحث فعملت عليه زهاء ثماني سنوات.. فيما بعد عملت أطروحة الماجستير بين المعهد العالي للموسيقى وكلية التربية في جامعة دمشق وكان مضمون رسالتي للتخرج التي أنجزتها بمعاونة الدكاترة بالجامعة إضافة إلى بعض الأطباء واستحصلت على موافقة الجامعة على ان اعمل ابحاثي عن الأولاد في سن المراهقة الذين يمرون بمرحلة تبدل الصوت فيما بين سن ١١ عاما إلى ١٦ عاما وهي الفترة التي تظهر فيها عند الحدث الصفات الذكورية.. ويعتبر هذا البحث من أعقد الأبحاث ويندر وجود دراسات عن هذا الموضوع..

أحببت في هذه الدراسة معرفة أقصى مايمكن عن الحبال الصوتية والحنجرة وكيفية عملها وما هي النصائح باتجاه تجويد الصوت والتوصل إلى لنتائج الأفضل كمغني..

 وأكد المايسترو صالح انه ليس طبيبا انما هاو للطب.. ولهذا ستتضمن محاضرته على توضيحات فسلجية، فعرج على ذكر ماهية الحبال الصوتية.. إذ أشار أولا إلى ان كثيرا ما يطرح السؤال عن عددها عند الإنسان.. وتحدث عن تصورات الناس لعددها وحجمها.. فقال انهما حبلان فقط عند كل إنسان.. سواء كان مغنيا ام غير مغن.. انهما لدى الكل بنفس الطول.. اما يميز المرء عن غيره بإستخدامهما.. هو التفكير الواعي واستخدام المرء لعقله (تفكيره) بكيفية إستخدامهما بالطريقة المثلى. وذكر انهما يتواجدان بإعلى الحنجرة ويتخذان شكل رقم ٨ بالعربي ويهتزا على بعضهما أثناء مرور الهواء.. وشبه عملهما بكيف تعمل (الصافرة).. وأكد المايسترو باسل في حديثه على إن عملية إهتزازهما هي العامل الحاسم في ظهور الصوت بعد ارتطامهما ببعضهما اثناء مرور الهواء بهما. وذكر مثالا على آلية عمل (البالون) وكيف يخرج منه الهواء عند فتح فوهته. ثم تحدث أيضا بإسهاب عن فسلجة الأعضاء للجهازين التنفسي والصوتي.. والعلاقة فيما بينهما ووظائف الحبلين الصوتيين فيما يتعلق بالتنفس وبالتصويت وأضاف ان هناك وظيفة ثالثة وهي حبس الضغط.

اما النصائح التي ذكرها لإولئك التي يعتمد اداءهم الوظيفي اليومي على الصوت أمثال المغني ام المذيع ام المعلم.. الخ، فأهمها الانتباه إلى عدم الضغط على الحبلين الصوتيين بالإبقاء على مجرى النفس مفتوحا.. ثم انتقل إلى موضوع ماهي الأطعمة والشراب التي ينبغي تناولها لتحسين الأداء الصوتي. وماهي أنواعها، وما الأنواع التي على المغني عدم تناولها قبل الغناء، في أقل تقدير قبل ساعتين، بل الامتناع التام عن تناولها عدا الماء. وفي هذا السياق جاء على ذكر امثلة للأغذية والسوائل التي يتناولها الإنسان ومامدى تأثيرها على أدائه الصوتي. ولم يكتف الفنان باسل ذكر ذلك بالكلام وانما كان يعطي امثلة بصوته عمليا مما سهل على الحضور إيصال المعلومات التي يطرحها وتبرهن عمليا على ما يطرحه.

ومضى الأستاذ باسل في تبسيط الكثير من عمليات التصويت بإيراد الأمثلة سواء في طريقة الكلام للإنسان عموما او أداء المغنين والأساليب التي يتبعوها في تجويد أصواتهم وتطرق إلى النبرات التي ينبغي عليهم التدريب عليها حسب خصائص وسمات صوت كل منهم وصلاحيته لأداء النوع الغنائي الملائم لهم وأورد الأمثلة الحسية عن كل ذلك.

حظيت محاضرة المايسترو صالح بإهتمام الحضور فطرح العديد منهم أسئلة ومداخلات في صلب الموضوع أجاب عليها بشرح وافٍ.. وقبل نهاية الأمسية ألح الحضور على الأستاذ المحاضر على تقديم أغنية رغم ما أخذته المحاضرة من وقت طويل، وعلق المايسترو باسل:" ان هذا الطلب يجعلني ان أضيف نصيحة أخرى للمغنيين ان لا يغنوا بعد القائهم لمحاضرة دامت زهاء الساعتين"، لكنه مع ذلك قال انه سيؤدي أغنية ليست كتلك التي تقدم في مناسبات الآفراح واكراما لجمهور مثقف (سميعة).. فأحتضن العود وختم الأمسية بغنائه لأغنية (الأطلال) وهي من كلمات إبراهيم ناجي والحان رياض السنباطي وغنتها كوكب الشرق ام كلثوم.. فأجاد الأستاذ صالح في أدائها وبأسلوبه المتميز.. الذي إستقبله الحضور بعاصفة متواصلة من التصفيق.. وهكذا قدم المقهى أمسية ذات نكهة خاصة ومغايرة.. ورددت القاعة في حتام الأمسية مع الضيف قائد الأوركسترا الفنان باسل صالح:

 يا حبيبي كل شئٍ بقضاء.. ما بأيدينا خلقنا تعساء 
ربما تجمعنا أقدارنا.. ذات يوم بعد ما عز اللقاء 
فإذا أنكر خل خله.. وتلاقينا لقاء الغرباء
ومضى كل إلى غايته.. لا تقل شئنا فإن الحظَّ شاء

 

عرض مقالات: