(الطريق الملتوي بين أبي الخصيب والبصرة طوله
سبعة عشر كيلومتراً. وكان يمكن أن يكون طوله
نصف هذا الطول لو كان مستقيما./ رواية أشجان النخيل/ 106)
(*)
المعلومة التاريخية التي بين قوسين تتحدث عن منتصف ثلاثينات القرن الماضي. وبقي الطريق ملتويا ولم يستقم إلاّ قبل سنتين من هذا القرن
وتبين أن الملتويات لا دخل لها بالهندسة المدنية بل بالفساد الإداري والتمايز الطبقي في المجتمع. في العهد العثماني كانت الحكومة إذا اقتطعت أرضا من أحد الناس لا تعوضه. وكانت توجه عمالها وأدواتهم صوب بستان ٌ من البساتين لتقتطع منه مساحة للطريق العام. فإذا أسرع صاحب البستان بدفع الرشوة تغيرت وجهة هؤلاء العمال نحو بستان آخر.. أما التمايز الطبقي فتجسدهُ بساتين باشوات وأغنياء لهم سطوة لم تكن السلطات تجرؤ على توجيه العمل نحو بساتينهم. وهكذا تكون الطريق السالكة مقتصرة على بساتين الفقراء التي كان الطريق يشطر بعضها نصفين!!
(*)
في (أشجان النخيل) وهي من تأليف المربي الفاضل المترجم البصري الكبير إبراهيم عبد الرزاق :يتوقف السارد عند الاقتصاد الزراعي ومَن يتحكم بأهم مصادره هو التمر العراقي وهو بحق يومها كان سيد تمور العالم، وهنا محنة الملاكين الصغار من أمثال إبراهيم المنصور، هؤلاء يحاولون أن يجدوا من يشتري تمرهم بسعر النوى فلا يجدونه، بينما(الملاكون الكبار يبيعون تمورهم إلى (بيت أصفر) و(بيت مارين)/17) والبيتان لهما الأولية في تصدير التمر، العراقي إلى خارج العراق حتى أواخر ستينات القرن العشرين، ومن خلالهما كان التمر العراقي ينافس التين التركي والزيتون اليوناني في الأسواق الأوربية. لهذه الأسباب هناك من الملاكين الصغار صار يفكر بعقلانية تجارية مربحة من هؤلاء عبد الجبار اليوسف من أبي الخصيب، بعد وفاة والده، أنتقل إلى البصرة (لأنه كان يرى أن التمسك بالعيش على النخيل لن يورث غير الفقر/49) كما أنه كان يرنو إلى التقدم الصناعي لذا خاطب أخوته( أنا أريد أن يعيش أطفالي في مكان فيه كهرباء، وماء نقي.. أن يأكلوا جيداً ويلبسوا جيداً، لا أن تبقى عيونهم مفتوحة على عذوق النخيل وقلوبهم مليئة بالخوف/ 50) وقد تحقق حلمه وأصبح له مكتباً في سوق التجار وأغدقت نجاحاته الرفاهية على أسرته (ولده يوسف يرتدي بدلة من القماش الانكليزي يخيطها له خيّاط هندي في سوق الهنود. زوجته تشتري من سوق البصرة القديمة، وتذهب به إلى (القطانة) لتخيطه لها ريجينية اليهودية المشهورة بأنها أفضل الخياطات../ 51)
(*)
تتناول رواية(أشجان النخيل) الوضع في البصرة، بتوقيت الثلث الأول من القرن العشرين( كانت صورة الملك فيصل الأول معلقة على الحائط فوق رأس المدير وإلى جانبها صورة للأمير غازي/ 28) ثم يستعمل السارد ،حيلةً تقنية حين ينظر الحاج نظرة فيها حزن فيبادر مدير المدرسة (جلالة الملك غازي لم تصلنا بعد صورته الرسمية.. ثم ينقل خبر مقتل الملك غازي العبد مبروك دلالة على ان الخبر طش بين الجماهير/ 95 وهنا يحيل المؤلف قارئ الرواية إلى مصدر تاريخي ليعرف القارئ أن الملك غازي تمت تصفيته في 4 نيسان 1939 وأن الرواية هي رواية تلك الحقبة الملكية. الوسيلة الثانية لسرد الحوادث الكبرى ومنها ذلك الفيضان في ثلاثينات القرن الماضي (عشرة أيام من هذا الصيف وضعت جبلاً من الفقر على أكتاف هؤلاء الفقراء/ 107) وما تبع الفيضان من أمراض خطيرة وتزامن ذلك مع امتحانات البكالوريا. هنا لا حظت قراءتي للرواية أن الروائي إبراهيم عبد الرزاق لا يتذكر تلك السنوات برومانسية أمراض السعادة، كما أنه لا يسهب في السرد عن المنغصات بل يتناولها برشاقة سردية. فالحكومة غائبة مرتين أثناء الفيضان وفي تفشي الأمراض التي سببها الفيضان. ومن وسائل المؤلف في تقريب الحدث، أن يستعمل السارد : الجريدة لمعرفة الحدث الأكبر وهو الحرب العالمية الثانية فالبصرة تكتظ شوارعها بالجنود الانكليز والكركة، وفي جريدة (الثغر) وهي من أقدم جرائد البصرة هناك فقرة في الصفحة الأولى، مكتوب فيها بيان هام(يعلن بهذا للعموم بأنه يمنع خروج الأهلين من دورهم أو محل عملهم إلى الأزقة والشوارع بعد الساعة الثانية زوالية مساء حتى الساعة الخامسة والنصف زوالية من صبيحة اليوم التاي وذلك اعتبارا من يوم الجمعة الموافق 9آيار 1941 ومن يخالف ذلك سيعرض نفسه لخطر أطلاق النار عليه من قبل أفراد الجيش الخفر/ بأمر تي. بي كونيان لفتننت جنرال/ القائد العام للقوات البريطانية في العراق/ 115) وأفضل ترجمة لهذا البيان حين صاح أحد الحاضرين(عجيب .. الانكليز يتجولون في البصرة ويمنعون أهلها من التجوال) وفي ص194 يتوقف السارد عند اضراب وتظاهرات طلابية بدأت من كلية الحقوق في بغداد يخبرنا عن اليوم التالي(حل الرصاص محل الهراوات فحصد طالب في كلية الصيدلة والكيمياء/ 198) والسارد يعني وثبة كانون 1948 ويواصل السارد ضخ العلامات (أثار الغبار مرور سيارة باص خشبية فيها عدد من الرجال على رؤوسهم غتر بيض، وعدد من النساء الملتفات بالعباءات السود، وعدد من الأطفال يرتدون ملابس تشبه ملابس كل أبناء الفلاحين.. / 215) ثم يعقب السارد(لم يكن بالا مكان تبين سحنات الراكبين ولا كان في السيارة- لولا سرعتها- أي شيء خارج المألوف) إذن سرعة السيارة أثارت الشبهة!! وسيكون مفتاح الشبهة بيد عبد الستار العرضحالجي الجالس في المقهى وشاهد السيارة وكان مفتاحه غير واضح تماما حين قال (مؤكد أن هؤلاء من الجماعة) وبعد محاورات بين رواد المقهى يعرفون من عبد الستار العرضحالجي (الذين يذهبون إلى عبادان. وماذا يفعلون في عبادان؟ يذهبون منها إلى فلسطين.. هؤلاء يهود، وهذه السيارة تنقلهم إلى السيبة، ومن السيبة يعبرون بالقوارب إلى عبادان.. هذه اتفاقات مع مخافر الشرطة من البصرة إلى السيبة، ومع شرطة عبادان، لا خوف عليهم من الحكومة في العراق ولا في إيران/ 216). نلاحظ أن السارد يتحول بين الحين والآخر إلى مؤرخ وامض يثبت الاحداث التي كانت تمر بها البصرة ومنها تهجير اليهود العراقيين، بعد الضغط عليهم عبر أحداث الشغب ضدهم..
(*)
تنشطر الرواية إلى شطريّ : المدينة والقرية وتتناوب الفصول بسردية تبين الفروق بين الشطرين ( 48- 49) (89- 91) ثم تنشطر الرواية إلى شطريّ البصرة / بغداد
(*)
من عناصر التشويق في الرواية بالنسبة للقارئ البصري(البصرة) وأنا أحدهم أن فاعلية سرد الأمكنة، جعلت قدميّ تستعيدان تجوال في شوارع ودرابين هذه الأمكنة تبدأ الرواية بهذا العنوان الفرعي(الصبخة) لهذه المفردة وقعها الخاص، وقد تناولها بعد ثلث قرن الشاعر عبد الكريم كاصد في كتاب خاص ثم تستوقفني الوحدة السردية الصغرى التالية :(عندما تتجاوز بناية محكمة البصرة) ما زالت هذه البناية العريقة تحتفظ بواجهتها الرمادية القديمة، رغم أن هذا المبنى العريق والذي يعتبر من معالم البصرة، لم يعد تكترث له أية جهة مختصة، ثم يكمل السارد(تدخل الزقاق المحاذي لثانوية البصرة للبنات الذي يمتد فيه سياج المدرسة العالي) قد تم قبل سنوات ترميم هذا السياج .في ص8 يتناول السارد المكان التالي( في مقهى البلدية يجلسون فيقرأون الجرائد ويتحدثون) وتسمية المقهى جاء من المبنى الذي تشغله مديرية بلدية البصرة، وفي سبعينات القرن الماضي ستكون باسم (مقهى الميثاق) وكنت من روادها ومعي رفقتي. لكن في تسعينات القرن الماضي ولحد كتابة هذه السطور ستكون مقهى البلدية بقفا المبنى القديم عبارة عن مجموعة كرويتات وموقد للشاي بلا سقف يتواجد فيها رجال من سكنة محلة السيمر ثم تتوالى الأمكنة التي يحن لها كاتب هذه المقالة(الأستاذ جاسم بيته في الخضراوية وهي قريبة من المقهى/ 9) والخضراوية كانت ملعبا لكرة قدم لفرق مرحلة المتوسطة في منتصف السبعينات، ينتقل السارد إلى الجهة الثانية من الشارع(الاستاذ محمود بيته قرب جسر الغربان) وهذا الجسر، الآن هو من أقرب الجسور لمبنى اتحاد أدباء البصرة.. لأمكنة البصرة على القارئ البصري مؤثرية شعرية أثناء قراءة رواية (أشجان النخيل) للمترجم الكبير الروائي إبراهيم عبد الرزاق. فالأمكنة في الرواية متعايشة مع هذا القارئ وله فيها ذكريات، مثلما هو متعايش معها وفيها. والروائي لم يكن مسرفا في السرد بل ينفق حسب الاقتصاد الأسلوبي. ليهبنا حرية التأمل والتذكر في الأمكنة والشخوص والحوادث..
(*)
تنطلق الرواية من محلة الصبخة، وتحلق في سماء خضراء خصيبية المعنى والمبنى ومن أبي الخصيب تقصد الرواية بغداد الحضارة والرقي في سنوات الملكية وبغداد التحرر الوطني والذخيرة الحية نحو صدور الطلبة في وثبة كانون 1948 ثم تعود الرواية إلى أبي الخصيب ومنها تهبط لتستقر في المكان الأم محلة الصبخة.
(*)
مع تدفق السرد نحو الشخصيات الرئيسة، كان السرد ينعطف ليتناول الشخوص الهوامش في الرواية وكانت انعطافاته حكائيا، في كل منعطف يتوقف السارد عند شخصية من هذه الشخصيات ليحكي لنا حكايات الأسماء التالية
- عبدالله المجنون/ 99
- سلمان /118
- انتهازية مأمور المركز/ 118
- عريبي/127
- إسماعيل السائق/ 129
- مبروك / 152
- عبد الغفور والسكير في الحانة وعبدالله المجنون/ 160
- الحكاية الأجمل هي حكاية الحب بين منصور وأنيسة : طفلان ثم تلميذان وهما في حب شفيف عفيف بينهما ..
هذه الرواية جسدت ثقافة المربي والمترجم إبراهيم عبد الرزاق وتناوله الشفيف للبصرة وأزقتها ومعالمها وللبصريين والبصريات
- إبراهيم عبد الرزاق/ أشجان النخيل/ دار الشؤون الثقافية/ ط1/ بغداد/ 2002