لست الوحيد الذي تحاصره فكرة كتابة مذكرات أو لنقل يوميات أو حقائق ترافقها قناعات أو تصورات عن المشهد السياسي والمجتمعي الذي رافق عملنا الاعلامي والمدني والوظيفي على مدى العقود الماضية التي اعقبت التغيير، تلك السنوات العجاف المثيرة للجدل والمزدحمة بالتقلبات أو الاخفاقات أو حتى الأحلام البلهاء، في ظل عملية سياسية عرجاء وصراعات لاثبات الوجود على حساب تحقيق العدالة أو تثبيت اركان الدولة التي نحلم..

أقول: هل من حقنا أن ندلي بما نعرف، وهل ثمة مسؤولية اخلاقية تحتم علينا البوح بكواليس تجسد ذلك البؤس في توزيع مقاعد المناصب أو ذاك الاستسهال أو الاستخفاف بمصير شعب يريد النهوض من كبواته بعد أعوام الاستبداد وما اعقبها من سنوات الفوضى وغرور الزعامات بل وتفردهم؟ هل ستكون هناك فرصة لتوثيق مسببات فشل مؤسسة ما وهل يحق لنا أن نكتب ماذا كان يحصل في برامجنا الحوارية أو ما يحصل من اجتماعاتنا أو احاديثنا الجانبية مع قيادات البلد أو قيادات الرأي العام؟ هل ستبقى تلك اسرارا محرمة ومسكونة بهواجس التعريف عن خفاياها ودهاليزها على الرغم من حجم الدمار الذي احدثته !! أليس من حق اجيال منزوعة الامل أن تفطن لمن كان سببا في تجهيلها وقتل أحلامها؟ ربما يتطلب ذلك فعلا اخلاقيا يرمي وراء ظهره لوم اللائمين على ما سيعد سلوكا احمق لابد أن تسبقه المحاذير من ذكر الأسماء والعناوين البراقة، وربما يتطلب أيضا الكثير من الموضوعية التي تستند إلى الصدق والمكاشفة والخروج من متلازمة الذاتوية والانفعالية والنرجسية التي ترافق مزاج من يكتب مذكراته، والخروج بالمقدار نفسه للتنصل عن كل مسؤولية والصاق التهم بالمنافسين للحفاظ على ذلك الرداء الأبيض المزعوم. لابد من ادراك حجم المسؤولية الاخلاقية لمن يتصدى لهكذا نوع من التصريح ومباغتة المسكوت عنه، ادراك قيمة ومغزى وهدف تدوين الوقائع وتفسير الاحداث بروح من الشفافية وصحوة ضمير تمكن ذلك المحارب أن يتوقع سيل التهم والتعليقات والاستنتاجات وقد تصل الى التهديد! والاهم من ذلك هل ستتوقف مسوغات هذا المشروع عند حدود التطهير النفسي والمجتمعي من ذنوب أو حماقات عاشها الكاتب أو سارد الحكايات أو صاحب المنصب؟ لا ضير من الاعتراف بقناعة ثابتة أن اغلب مدوني كتاب المذكرات انطلقوا من هذا المنطق لئلا تؤثر على افكارهم في نهاية مشوار حياتهم وقافلة ايامهم المثقلة بالأسف والندم والمواجع ، لكن هناك مسوغات لا تقل اهمية وتبرز في تحقيق رفاهية الاعتراف أو لنقل ازالة الكتمان أو تحنيط الحقائق من دون قصدية التشهير ، لان هناك خيط رفيع بين تلك الهذيانات المتوترة الملغومة بالشخصانية وتأنيب الاخرين في لحظة غضب أو ساعة تنافس نرجسي، وبين سرد هموم وطن وشعب اكتوى بنيران مشعلي حرائق والفتن والطائفية والذين سيكونوا ابطال هذه السردية التي سنكون نحن الذين نزعم نصاعة سريرتنا ونزاهة سيرتنا اكثر الشهود الاخلاقيين والمبدئيين في كتابة تاريخ هذا البلاد ،في عسر احوالها وتعاسة ايامها؛ بعد أن كانت لنا جلسات ونقاشات واجتماعات غير معلنة أو غير مدونة وغير مرئية تضمنت مواقف وتصريحات واقوال لابد أن ينجلي عنها صدأ السنوات وتكسر اقفال مخازنها لتكون متاحة وممهدة لتبني مواقف عقلانية تخدم  مستقبل اجيالنا وتسعفنا باسكات صوت الضمير.

عرض مقالات: