(*)
في كتابي (أيميسال وتأنيث الكرسي) قلت (لا أملك ُ إلاّ ثقة ً ضئيلة بالمؤرخين فنسبة، الوقائعي مندوفة وممزوجة بمخيلاتهم الآيلة لعقائدهم. المؤرخ يتموضع قلمهُ في نصية التاريخ، أما الروائي فيشتغل تاريخية النص. يستعيد لحظة تاريخية ويفككها / ص11). تبدأ رواية(منازل العطراني) للروائي جمال العتابي بسؤال موجعٍ لمن يعرف ما جرى آنذاك :(أين المسار؟) هذا السؤال مفتتح السطر الأول في الصفحة الأولى من الرواية. وتنتهي الرواية بهذا السطر الأشد وجعا: (أوصدت الباب حين أدركت ضياع الأمل، أغلقت جفونها قبل الصلاة، وهي ممتلئة بالدموع، لم يطلع عليها الفجر./ ص253)..ما بين القوسين هو وجيز الجواب الدامي لسؤال الرواية. الحافلة بالأسئلة. محمد الخلف يداهمه كابوس يرى نفسه في مدينة مجهولة ملتوية، عالية ملساء الجدران لا نوافذ ولا شرفات.. كأنها أحدى مدن إيتالو كالفينو. في كابوسه يتساءل محمد الخلف(كيف يدخل أهل المدينة بيوتهم ويخرجون منها/ 33) هكذا يكون حال المدن في رعاية الأنظمة المستبدة : البيوت قبور الأحياء.. خالد يتساءل في حضرة والده(وأنا في الرابع الابتدائي تساءلت : ما معنى أن نشتم رأس الحكومة ونحن نهتف كل خميس لتحية العلم: يحيا الملك، يعيش الوصي/ 50).خالد يرصد المتغير السياسي في والدهِ محمد الخلف بعد 14تموز 1958 (كنت شخصا آخر بعد هذا التاريخ! أليس كذلك يا أبي؟) زهرة زوجة محمد الخلف (كانت تضع أمام زوجها الكثير من الأسئلة بينما يجهل الرد أو لا يستطيع) يمكن أن نعتبر رواية(منازل العطراني) جوابا سرديا اجتماعيا سياسيا عراقيا، حاول الروائي جمال العتابي أن يجيب عليه من خلال المناوبة بين الإيماءة والعلن. وكان المؤلف يجاهد للتخلص من تقريرية المؤرخ من خلال انعكاسات الظلال القاتمة على حيوات شخوص روايته. ولمست قراءتي لا مسافة بين الشخوص والمؤلف. أقول ذلك بعد قراءتي لكتابه الجميل(داخل المكان) وما يفعله المؤلف هي الاستفادة من كتابه. ما يرد في الرواية عن دعاء الفلاح جبارة المحروث ضد محمد الخلف نجده في كتاب( داخل المكان) للمؤلف العتابي (حلم إيباره المحروث بلقاء الزعيم/ ص35 وكذلك في ص73) وما جاء في الرواية عن دار المعلمين الريفية، ونجده أيضاً في صفحة 131 من كتاب المؤلف العتابي (داخل المكان) وما جاء عن وفاة شقيق محمد الخلف نجده في 219 من كتاب (داخل المكان) ومحمد الخلف صورة طبق الأصل من حسن العتابي مربي الأجيال والفنان التشكيلي والشيوعي الأصيل.. والرواية بحد ذاتها الجواب عن السؤال الوارد في صفحة 131 من كتاب(داخل المكان) حين يتساءل المؤلف جمال العتابي(هل يمكننا استعادة صورة من الماضي، لتمسح عثراتنا وإخفاقاتنا وخطايانا؟ أم أنها ستكون ذاكرة للألم وحده؟) كأن جمال العتابي يجعل الكتابة ممحاة أو يحاول الكتابة بالممحاة ومن خلال المحو يظهر الزمن السعيد بعيداً عن العثرة والخطيئة والإخفاق.
(*)
رواية (منازل العطراني) تتكون من سيرتين:
- سيرة عائلة مناضلة
- سيرة وطن مبتلى بأنظمة فاسدة
براعة الروائي جمال العتابي تكمن في الممازجة بين السيرتين بلغة ٍ تتماوج بين الشعري وبنسبة ضئيلة من الوثائقي. الرواية وهي تستحضر ذلك الماضي الذي كان حاضراً قبل ستين عاماً. وتشخص الغلط والصحيح،
الشخصية المحورية لا يعلن المؤلف عن هويته السياسية التي بسببها عرفته السجون، والمؤلف بخصوص 8 شباط 1963 يكتفي بتوصيفهم بالانقلابيين. دون ذكر التقويم الأسود. لكن المؤلف جمال العتابي في كتابه(داخل المكان) يخبرنا عن أبيه المعلم والمناضل والتشكيلي حسن العتابي المسجون بتوقيت شباط 63 في سجن الكوت حيث(ينتفض المحكومون ويقتلعوا أبواب زنزاناتهم، ويشاركوا أبناء المدينة المنتفضين على سلطة الانقلاب../ 73)، وفي ص120 من الرواية من خلال ما جمعته شكرية من أوراق تخص محمد الخلف في بيت رضية اخته رضية نلاحظ أن الخلف قد كتبها في (22 تشرين الثاني 1963) بخصوص عدم ذكر التاريخ 8 شباط 1963 فقد فعلها قبله بأكثر من نصف قرن الدكتور شاكر خصباك في روايته (الحقد الأسود) لكن نلتمس العذر للدكتور خصباك. فزمن كتابة الرواية وزمن جرائم 8 شباط قصير فالرواية منشورة في منتصف ستينات القرن الماضي. ربما هذه التورية للتحايل على رقيب المطبوعات، وبالتزامن مع خصباك نشر ياسين حسين روايته (الزقاق المسدود) في بيروت. لكن هذه الرواية انشغل المؤلف بشخصية البطل البوهيمية. وبالعداء للزعيم وقوى الخير. في ص18 يومض السرد بإيماءة وضوح (في مقهى السوق أتابع مشهد مجزرة الاذاعة، عرض التلفزيون جثة الزعيم، بصق أحد الجنود في وجه المدمى، بدأوا باِعتقال (ربعك) ..) ستختفي مفردة ربعك وتحل عوضا عنها مفردة (جماعتك) والكلمتان لهما المحتوى نفسه: الحزب الشيوعي العراقي. في ص53 لأول مرة يثّبت المؤلف جمال العتابي تاريخا واضحا حين يخبرنا السارد الحيادي أن خالداً قد جرى اعتقاله في 1962
(كانت التجربة قاسية تركت ندوباً موجعة في نفسه، حشروه بين أرباب السوابق والقتلة والمجرمين والمنحرفين لمدة أسبوع) ثم يصبح خالد هو السارد الثاني. بعد أن كان محمد الخلف السارد في ص66 – 70 سرد خالد يستعيد الماضي العام والخاص : (لم الدوّاية مكان ولادتي لكن أبي كان معلما فيها، قرية جنوبية تحيط بها الأهوار المسكونة بالطيور والأسماك. بيوتها من طين حين ينزل الظلام فيها تغط في الظلام..) يواصل خالد توصيف المكان الأجمل ثم ينتقل من المسح الجغرافي إلى نقلة حضارية (شهدت تلك السنوات افتتاح أول مدرسة ابتدائية في تلك القرية القصية من ريف مدينة الشطرة../67) في هذه المدرسة
سيغرس محمد الخلف ومَن والاه الفكر الجديد والمحبة المصفاة بين الناس والنشأ الجديد من خلال نشر ما تيسر من كتب وصحف ومجلات بين الناس.. كل ذلك كان في أربعينات القرن الماضي. في ص 95 يتناوبان في سرد ما يجري : السارد الحياد يليه خالد محمد الخلف. يخبرنا السارد الأول(كان الوقت ظهراً، عندما أفرجوا عن خالد، الحي الذي انتقلت إليه عائلته شبه فارغ.. الحي الذي كان ينبض بالحياة فقد روحه، فبدا خاوياً يثير الشفقة..) هذا السرد يومئ ينز دما ً من ثلاث مفردات : الفراغ.. الخواء.. الشفقة.. في سرد خالد يخبرنا وهو يدخل بيت العائلة (دُهش أخوتي الصغار لمنظري وأنا أحمل فراشي على كتفي، صرة ثيابي، تحت إبطي غريبا عليهم، نسوا هيأتي وقد كبرت، تغيرت ملامحي) حين نعقد مقارنة بين كلام الساردين: السارد الحيادي وسرد خالد سنحصل على المعلومة التالية: المتغيرات الضارة على مستوى الشارع نجد تتمتها في السجين العراقي الذي فقد ملامحه العائلية مما جعل الطفل صلاح وهو شقيق خالد يتساءل (من هذا الرجل الغريب؟ ).. وخلافا للوضع العام فالوضع الداخلي للعائلة يختلف : الأم صارت عاملة في معمل للنسيج.. وهدية شقيقة خالد تعلمت مهنة الخياطة من اختها محسنة.. والعائلة يسكنون في البيت ويحرسونه بتكليف مالك البيت بشرط
الاهتمام بزراعة الحديقة
(*)
في ص81 نكون أمام سرد المونتاج فالصفحة مشطورة أفقيا: الثلث الأوّل نحن في بيت محمد الخلف في بغداد وللتو استيقظت ابنته محسنة من كابوس رأت أباها
(وقد أمتلأ وجهه بالندوب، بل كانت جراحاً تنزف../ 81) فيما تبقى من الصفحة ذاتها نكون مع محمد الخلف ومعه نوّار الذي (أختار ركناً من الصريفة، يحتمي تحت سقفها من سموم ريح تموز..) محمد الخلف (عادت صورة خالد تحتل مشاعره، مثل غيمة سوداء لتعكّر مزاجه من جديد..) هنا تفسير كابوس محسنة. فالأب ملاحق وأخوها القوا القبض عليه حتى يسلّم نفسه والده محمد الخلف. ومحمد الخلف يتلظى على نار حامية(حاجة الأسرة إلى مورد مالي يفقد صوابه يزداد الشعور حدة، يوجه ّ اللوم إلى نفسه)
(*)
السجين المناضل محمد الخلف، مصادفة ٌ تنقذه من العودة إلى الزنزانة وتقذفه ُ وهو بملابس السجن في تظاهرة جماهيرية عزلاء تتصدى لبيانات الانقلابيين
(*)
لو أمتثل المعلم والمناضل محمد الخلف للعقيد رئيس المجلس الذي ساومه في شتم رموز انتمائه السياسي والفكري مقابل الإفراج عنه. لسارت هذه الرواية على ذلك ذات الطريق الذي قرأناه في الروايات التي تجسد تراجيديا السقوط السياسي للبطل المنتمي. لكن محمد الخلف لم يمتثل لأوامر رئيس المجلس العسكري ولا لصديقه صالح كيطان الذي ينصحه بشتم الرموز فلا ضير في ذلك فالبطولة الحقيقية هي حين(يؤكد الإنسان وجوده بفاعلية وحضور وازدهار عبر ممارسة الفكر بصورة حيّة خلاقة متجددة بنّاء مثمرة، هنا البطولة الحقيقية لا في السجون/ 7) هذا التنظير لا اعوجاج في منطقه، لكنه غير فاعل لدى من يرى شتيمة الرموز النقية هي السقوط الاخلاقي في مستقنع السلطة التي سرعان ما تستعمل الشاتم لمآربها الدنيئة.
(*)
السارد الأول هو محمد الخلف يوجّه خطابه إلى صديقهِ صالح كيطان، الذي سحبه من التظاهرة وآواه في بيته الكائن في الكوت
(*)
من أجمل ما قام به المؤلف هو لا فاصلة بين السارد الحياد وبين ضمير المتكلم في ص11 الفصل الثاني يخبرنا السارد الحيادي عن محمد الخلف( قضى ليلته ُ مشدوداً لشاشة التلفزيون في منزل صديقه صالح، الدم
موثّق بحمرة قانية على البلاط، راديو بغداد في عرس من الانتصارات بعدد الضحايا، يعيد ويكرّر بيانات التحريض، الموت يجثم فوق الصدور.) ثم ينتقل السارد الحيادى من العام إلى الخاص واصفا حالة محمد الخلف(الخلف لا يعرف إلى أي انتصارات ينتمي تلك اللحظة، الوهمية منها أم الاندحارات المأساوية، لا يعرف ما تخبئه له الأيام وما تؤرخه المقادير، عن أي هدف يبحث الآن) ثم ينقطع بث السارد الحيادي ليبدأ ضمير المتكلم، لسان حال محمد الخلف(هل أعيش لأنني أخاف الموت؟ نحن نحب الحياة لكننا نعتبر السجن سعادة والموت شهادة، هل أعود إلى السجن من جديد؟ مَن يُعين شخصا مثقلا بالأسئلة؟) في ص12 يعاد الظهور السارد الحيادي واصفا محمد الخلف(آوى إلى فراشه...).في ص12- 13 يتناوبان السرد : محمد الخلف والسارد العليم. ها هو محمد الخلف يخبرنا(على جثة السدة سرتُ، من كل صوب وحدب تحاصرني طوابير من الحراس، ريحٌ تئن كأنني في القفار.. كنت في خطوات العبور عند عتبة السد الأولى....) ويستمر محمد الخلف لعدة سطور يصف لنا كابوس يقظته النهارية في الهواء الطلق.. ثم يستلم السرد السارد الحيادي (أمسك بمسبحته ومشى مسرعاً، عيناه غائرتان مسبلتان بحبات دمع لا تُكاد تُرى، قلبه يخفق...) ويواصل السارد الحيادي سبر أغوار محمد الخلف حتى نهاية ص16
(*)
هل كل ما جرى لمحمد الخلف كان سببه استجابة دعاء بثه جباره المحروث ضد محمد الخلف بتوقيت ذلك اليوم من 1958 حين صحت ناحية الغازية على غبار أشبه بعاصفة يتصاعد في أطراف المدينة تثيره أقدام الفلاحين الحفاة يحركهم الشوق للقاء الزعيم، لم يطل مكوث أغلبهم في الناحية لكن الفلاح جبارة المحروث ظل يعاند، يرفض العودة لقريته ويلح على محمد الخلف :(أسمعني محمد لابد أروح(لبغداد أشوف) الزعيم/ 149).احتدم جباره المحروث، نفسه تجيش غضبا، عض طرف لسانه، تقلصت تقاسيمه ألماً، رفع ذراعيه إلى أقصى ما يمكن للأعلى مشمّرا عن ردنيّ دشداشته، صاح مناجيا ربه( محمد الخلف! الله يحرمك من الهوا، لأنك حرمتني من شوفة الزعيم!!/ 149) وبتوقيت لحظة الدعاء ..ومحمد الخلف تسلسلت حياته : سجون.. هروب.. اختفاء.. قلق.. خوف.. عوز.. فقدان أعز الناس.
جمال العتابي/ منازل العطراني/منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتّاب في العراق/ بغداد/ ط1/ 2023
- جمال العتابي/ داخل المكان/ مطبعة الكتاب/ ط1/ بغداد/ 2021
- مقداد مسعود/ أيميسال/ المكتبة الأهلية في البصرة/ط1/ بيروت/ 2022