حين توقفت المدافع واخليت الخنادق من الجنود، بعد اندحار الفاشية الهتلرية، عام 1945، فتحت حالا جبهات حرب أخرى سرية ومكشوفة، سميت (الحرب الباردة)، كان من ضمن أسلحتها، الى جانب الوسائل السياسية والمخابراتية والاقتصادية، وسائل الأعلام والفنون وفي مقدمة ذلك: السينما!
لم يرق للحلفاء الغربيين الرأسماليين، في لندن وواشنطن وعواصم اخرى، الذين تكاتفوا مع دولة الاتحاد السوفياتي لدحر المانيا الفاشية، المجد الذي جناه شريكهم الاشتراكي، والعالم الجديد الذي يبشر ببنائه، فاغرقوا العالم بالأفلام السينمائية والكتب والاغاني التي تغّيب دور شعوب الاتحاد السوفياتي والتضحيات البالغة (27 مليون شخص) التي قدمها لأجل دحر الفاشية. من جانبها حاولت السينما السوفياتية الرد بأفلام أبرزت بطولات وتضحيات شعوبها تحمل ضمنا الرؤية السوفياتية للحرب، ورغم حصار ماكينة التوزيع الرأسمالية نجحت أفلام سوفياتية عديدة للوصول الى أهم المهرجانات، ونالت شعبية كبيرة، خصوصا التي تناولت موضوعة الحرب.
على سبيل المثال، فيلم (البجع يطير) من اخراج ميخائيل كالاتوزوف عام 1957، وصنف كفيلم رومانسي ـ حربي وتم تصويره بالأسود والأبيض لإضفاء طابع وثائقي على مشاهده الحربية، ويعتبر تاريخيا من أول الأفلام في استخدام الكاميرا المحمولة، حيث كان مخرج الفيلم مراسلا حربيا خلال الحرب العالمية فوظف تجربته في التصوير، فنال السعفة الذهبية في مهرجان كان عام 1958، وذكر كل من فرانسيس فورد كوبولا ومارتن سكورسيزي كونه من الأفلام المفضلة لديهما، وعرض الفيلم بجرأة وبراعة قسوة الحرب واضرارها.
وأيضا فيلم (طفولة ايفان) للأيقونة السينمائية أندريه تاركوفسكي عام 1962 ويعتبر اول تجاربه السينمائية الطويلة، ويحكي قصة صبي تيتم بعد مقتل والداه على يد القوات الألمانية الهتلرية الغازية، فالتحق بالجيش السوفياتي كمستطلع، ومن خلال عيون الطفل ايفان يقدم تاركوفسكي ملحمة إنسانية عن فضائع الحرب. نجح الفيلم تجاريا ونال ثناء النقاد، بل ان مخرجا مثل انغمار بيرغمان أقر بالتأثير الكبير للفيلم على عمله واعتبر جان بول سارتر الفيلم أجمل ما شاهده على الأطلاق. واكتسب تاركوفسكي شهرة دولية، خصوصا بعد نيله جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي عام 1962 وجائزة البوابة الذهبية في مهرجان سان فرانسيسكو السينمائي الدولي نفس العام، كما تم ترشيح الفيلم لجائزة الاوسكار للدورة 36.
وهناك كذلك الفيلم الطويل بجزئين (يقاتلون لأجل وطنهم) الذي تناول قصة احدى معارك ستالينغراد السوفياتية، التي كسرت شوكة الجيش الهتلري وكانت بداية لسلسلة هزائمه العسكرية. كان الفيلم من كتابة الكاتب الشهير، ميخائيل شولوخوف، الحائز على جائرة نوبل للآداب عام 1965عن رائعته (الدون الهادئ)، اخراج الفنان الأسطورة سيرجي بوندارتشوك، أنتج الفيلم عام 1975، وشارك في مهرجان كان السينمائي نفس العام ضمن قائمة المرشحين للسعفة الذهبية، لكن تم رفض ترشيحه لجوائز الاوسكار للدورة 49.
حاولت السينما السوفياتية، الى جانب اظهار بطولات شعوب الاتحاد السوفياتي، عرض بشاعة الحرب، ولم تمجدها، بل كشفت حجم التكلفة البشرية وما تركته من اثار في نفوس الناس، وعلى حد قول تاركوفسكي عن فيلمه (طفولة ايفان) أنه أراد في صنع الفيلم (نقل كل كراهيته للحرب)، واختار الطفولة (لأنها أكثر ما يتناقض مع الحرب).
بالنسبة لأمريكا ودول الغرب، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتحول روسيا الى الوريث ليس لأسلحته النووية فقط، بل وللموقع والتأثير الجيوسياسي، لم تنته وتتوقف الحرب، وماكينة إعلامهم عن صنع أفلام تشيطن الشعب الروسي، تسيء لتأريخه وتظهره كعدو محتمل للديمقراطية الاوربية، في أفلام حركة ومغامرات تقليدية، عن المافيات الروسية وتجار الرقيق الأبيض والمخدرات أو جنرالات متمردين يحاولون الانتقام من أميركا والغرب ويحملونهم سبب انهيار الاتحاد السوفياتي. مع مجيء فلاديمير بوتين لقمة السلطة الروسية تحت قباب الكرملين، زادت جرعات الدعاية الغربية توافقا مع التطورات على الأرض، حيث زحف حلف الناتو باتجاه حدود روسيا، مما استفز الدولة القومية التي بناها بوتين وطاقمه السياسي، وفق تطلعاته ليكون القيصر الجديد في الكرملين. مع غزو روسيا لأوكرانيا واحتلال أجزاء من أراضيها صار مفهوما بان الامر لم يكن وليد قرار مرتجل، فاذا كانت الدعاية السينمائية في هوليود انتجت اعمالا فنية تلمح للأطماع الروسية في أوكرانيا، مثلا المسلسل الأمريكي (القناص) بمواسمه الثلاث، والموسم الأول انتج وعرض عام 2017، وتجري احداثه بعد ان ضمت روسيا منطقة القِرم لأراضيها في اذار 2014، فمن جانبها حاولت السينما الروسية تقديم رسائلها الفنية ورؤيتها عن مخططات الغرب، فكان الأبرز في ذلك فيلم (النمر الأبيض) لتسويق فكرة كون روسيا كانت وستظل مهددة من قبل دول الغرب. الفيلم روائي طويل، ساعة و44 دقيقة، ينتمي للخيال العلمي العسكري، من اخراج كارين شاخنازاروف عام 2012 (قبل ضم القِرم!!)، بميزانية 11 مليون دولار أمريكي، سهلت بناء قرية روسية كاملة في ضواحي موسكو، لتكون مكانا للتصوير، وتحويل جزء منها إلى مدينة أوروبية مدمرة في نهاية الحرب واستخدام أطنان من الديناميت لإعمال التفجير للمعارك التي دارت في الفيلم. انتجت الفيلم شركة موسفيلم، أكبر شركة انتاج سينمائية سوفياتية، وحاليا روسية، تملك في مخازنها أكبر رصيد من المعدات الحربية الكافية للتصوير، من دبابات وقطارات عسكرية واسلحة وملابس عسكرية تكفي للممثلين والمئات من الكومبارس الذين ظهروا في الفيلم. ذكر المخرج انه طالما حلم بصناعة فيلم عن الحرب، تخليدا لذكرى والده، الذي خدم عامين في الخطوط الامامية لجبهات الحرب، ويعتقد ان من الأسباب الأخرى التي دفعته لإخراج الفيلم أن السينما الحديثة، تفتقر إلى قول الحقيقة حولها، فأعتمد على رواية (سائق الدبابة) للكاتب إيليا بوياشوف التي ابهرته كما قال، ورشح الفيلم على الصعيد المحلي في روسيا لثمان جوائز من ضمنها جائزة النسر الذهبي، ورشحته روسيا لتمثيلها لجوائز الأوسكار في الدورة 85 لعام 2013.
تدور احداث الفيلم خلال السنوات الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، مع انتشار شائعة وجود دبابة المانية بيضاء غير عادية في ساحات المعارك، تخرج من الضباب، تظهر وتختفي دون ترك أي إثر، وحرص الفيلم في المشاهد التي تظهر فيها هذه الدبابة بجعلها تخرج من بين أغطية الضباب الكثيف، ليضفي عليها حضوراً خارقاً للطبيعة، ولهذه الدبابة قدرات استثنائية لتدمير الدبابات الروسية، أطلق الجنود عليها أسم (النمر الأبيض)، واعتبرها ضابط الماني أسير اثناء استجوابه تعبيرا عن الروح الألمانية.
بعد أحد معارك الدبابات يتم العثور على جندي روسي (الممثل أليكسي فيرتكوف) سائق دبابة محترق جسمه بنسبة 90٪ ولديه حالة تسمم الدم، لكنه يتعافى بشكل غريب ويثير دهشة الأطباء والقادة. فقد ذاكرته بسبب الحادث ولا يتذكر اسمه وعائلته، لكنه لا يفقد مهارته العسكرية، منحه الأطباء اسم (نايدنوف) ــ مشتق من كلمة روسية تعني تم العثور عليه ــ، يخبر القادة، بانه غير مهم عنده تذكر ما هو اسمه، ألاهم تذكر انه جندي دبابات روسي. يملك السائق قدرة فهم لغة الدبابات والتواصل معها والاستماع اليها وفهمها، وأصبح مهووسا بالعثور على دبابة (النمر الأبيض) وتدميرها، بأمر من (آله الدبابات)، لأنها تجسيد للحرب ورعبها ودمائها، فيلاقي تفهما ودعما من الرائد فيدوتوف (الممثل فيتالي كيشينكو)، نائب رئيس مكافحة التجسس في جيش الدبابات، الذي وبدعم من القيادة يشكل طاقم خاص، بعد اللجوء لأفضل المصممين لتصنيع دبابة روسية بمواصفات خاصة، للبحث عن (النمرالابيض) والايقاع بها. وبعد عدة مواجهات، يظهر فيها الفيلم بشاعة الحرب، خاصة في مشهد مذهل تسحق فيه الدبابات البيوت الوادعة، والأشجار وتحول ما حولها الى خراب، تتعرض (النمر الأبيض) لإضرار بالغة لكنها رغم اصابتها تنجح في الاختفاء في الضباب. في عام 1945، بعد استسلام ألمانيا، يحاول فيدوتوف، إقناع سائق الدبابة نايدنوف بأن الحرب انتهت، لكنه لا يوافقه، قائلا (لن تنتهي الحرب، الا بتدمير النمر الأبيض، فهو مستعد للانتظار عشرين،خمسين، مئة عام، لكنه سيظهر بالتأكيد مرة أخرى ويضرب). وما ان يستدير فيدوتوف إلى سيارته، حتى يختفي (نايدنوف) مع دبابته تاركا غيمة من الدخان.
يلخص فكرة الفيلم، مشهد أخير خيالي يظهر فيه هتلر في مكان قليل الإضاءة، يتحدث مع شخص يخفيه الظلام، ويخبره (ببساطة وجدنا الشجاعة لتحقيق ما حلمت به أوروبا! ألم نحقق الحلم السري لكل مواطن أوروبي؟ كانوا دائما لا يحبون اليهود! كانوا طوال حياتهم خائفين من هذا البلد المظلم الكئيب في الشرق. روسيا. قلت: فقط دعونا نحل هاتين المشكلتين، نحلهما مرة واحدة وإلى الأبد). وإذ يخبرنا الفيلم بأن (النمر الأبيض) تعبير عن روح الحرب والمطامع الدفينة الدائمة لدى الغرب لهزيمة روسيا فأن الجندي (نايدنوف) هو روح المقاومة الروسية المتجددة والعنيدة والتي تقاوم الموت!
* نشر في جريدة المدى البغدادية عدد يوم 12 تشرين الأول 2023
لمن يرغب ارفق رابط الفيلم مترجما
https://www.facebook.com/100009653388667/videos/304435611943221/