تحت العنوان اعلاه، اتممت د. نادية هناوي، مقالة مهمة، نشرتها اولا مجلة" افق" الدورية في عددها الاخير (حزيران/ يونيو 2023) والتي تصدر عن مؤسسة "الفكر العربي" البيروتية. وقد وثقت – هناوي- في مقالتها شهادات لشعراء ونقاد مميزين: عبد الجبار عباس، جبرا ابراهيم جبرا، محمد حسين الاعرجي، هاشم الطعان، وفوزي كريم.. ومما جاء في المقدمة "ما زالت تجربة محمد مهدي الجواهري الشعرية فريدة وكبيرة وهي إلى اليوم بلا نظير لها عراقيا ولا عربيا، لما لها من مقومات تتجاوز مقاييس الجيلية فضلا عما فيها من مؤشرات تبطل التجييل العقدي وتفند مزاعم عشريّته"...
واضافت هنداوي" لقد اتفق النقاد على أن تجربة الجواهري كبيرة ومميزة ولكنهم تباينوا ـ كل بحسب منطلقاته وتوجهاته في تقدير أبعادها الشعرية؛ فمنهم من وجد أن شعر الجواهري فوق الدراسة والنقد، ووصفه جبرا إبراهيم جبرا بآخر الفحول. ولأن الجواهري خارج السياقات المعتادة، تجاهله منظرو الجيل العقدي واستبعدوه من تنظيراتهم وكأنه غير موجود... وما بين اتفاق النقاد على الجواهري والتباين في تحليل شعره، أصبحت تجربته مثالا للشعر الذي لا يؤثر فيه تقادم العهد ولا أفول الجيل الذي انتمى إليه. وأمد هذا الجيل من عشرينيات القرن الماضي إلى خمسينياته ثم الجيل الثاني الذي انتمى إليه، وأمده من ستينيات ذلك القرن إلى تسعينياته".
ووفق الباحثة ايضا " وإذ لم تترك القصيدة الجواهرية تحولا على بنية القصيدة الكلاسيكية، فإنها رسّخت قوالب هذه القصيدة وأحيت ما كان مندرسا فيها، لا بالطريقة التي مارسها الشعراء الاحيائيون مطلع القرن العشرين بل بطريقة أخرى تقوم على النزول بالقصيدة إلى أرض الواقع تفاعلا مع الشارع العراقي والعربي وأحيانا العالمي؛ فشدت الجميع إليها كبارا وصغارا مثقفين وغير مثقفين، محافظين ومتنورين"... واضافت نقلا عن عبد الجبار عباس: " حرص الجواهري على أن تتكافأ في شعره الجدة والعراقة فكان إقباله على شعر الفحول القدامى إقبال من يقرأ الديوان فيسيل فيه دما وفكرا وروحا. لئن كانت الثورة رحلة مستمرة إلى المستقبل، فان عظمة الجواهري تقوم في جانب مهم منها على انه انفرد بين شعراء جيله وكثير من صغار شعراء الجيل التالي ، انه جعل من نقده لآفات مجتمعه وثورته على لصوصية حكام العهد المباد العملاء رحلة إلى الثورة والمستقبل يرددها شعر لا تبلى جدته ولا يغرب شبابه .. انه طار إلى المستقبل بجناح أقدم عمرا"..(مرايا جديدة، ص20)
وبحسب مقالة هناوي فأن الشعراء الذين عاصروا الجواهري تنبهو إلى قوة تجربته وعرفوا أسباب تفوقها فكان أن اتخذوها " ظلا لهم. فهم يكتبون شعرهم السياسي والاجتماعي على طريقة الجواهري وكأنهم يحسون بدرجات متفاوتة ان هذا اللون من الشعر يكاد يكون مكتملا إن لم يكتمل فعلا على يد الجواهري" كما قال محمد حسين الاعرجي في مؤلفه الموسوم "الصراع بين القديم والجديد في الشعر العربي، ص43" .. كما وثقت عن هاشم الطعان:" كنا نتسقط أغلاط الجواهري في اللغة والنحو فإذا بنا نجد أغلاطنا في تغليطه وكنا نأخذ عليه إغرابه ثم صرنا إلى حيث نعتقد ان الجواهري بث حياة في هذا كله فما هو حوشي ولا هي أوابد".
هذا وجاء في مقالة د. هناوي " نجح الجواهري أيضا فيه متحولا بالقصيدة الكلاسيكية نحو الواقعي المحلي أو الوطني جنبا إلى جنب العربي والعالمي. فنمت تجربته أكثر وغدت عابرة لا في إطار فني، بل زماني منتمية إلى جيلها وفي الوقت نفسه مستبقة حالها ومتطلعة بخطوات واثقة نحو مستقبل فيه سينتمي الجواهري إلى جيل شعري جديد قادم"... وتابعت "ولا نغالي إذا قلنا إن من يقول بالشباب والشيوخ في مجال العمل الشعري هو من المدافعين عن التجييل العقدي والمعولين عليه طريقا يوصل إلى الشهرة ولفت الأنظار. ومهما كانت الافتراضات وقوتها وأيا كان رسوخ هذه المقولات، فان تعابر الجواهري الجيلي، يظل حقيقيا وقائما كمثال شعري يتخطى المراحل ويأبى الجمود".
وفي اسشهاد وتوثيق لما ارادته هناوي، فان جبرا إبراهيم جبرا يحتار في شأن الجواهري ويرى أنه " يريد أن نأخذ شعره كمكمل فني واحد لا شأن للزمان بتفاصيله..ان التسلسل الزمني أمر له شأنه الكبير في فهم الجواهري وتتبع أفكاره.. بل ان الجواهري لا يمكن فصله عن الخط التاريخي طيلة السنين الأربعين الماضية". وقد عزا جبرا سبب قوة تجربة الجواهري الشعرية إلى بلوغها حدها الأقصى من النضج والقوة فكان لا بد من الثورة عليها.. وتابعت هنداوي: ان الشاعر فوزي كريم يرى بأن قوة تجربة الجواهري هي في عدم انتمائه إلى جيله الذي نشأ في وسطه ولا إلى الجيل الذي آتى بعده، ولكن سياقات الحال الشعري تؤكد ان الجواهري كان شاعرا اجتماعيا وعاما وفاعلا ومنتميا أيضا للجيلين الشعريين، فلا الأول قيده ولا الآخر وقف ضده... ولا شك في أن بعضا من شعراء هذا الجيل ما زالت تلاحقهم الانتقادات، فطوّر قسم منهم تجربته، ومنهم من اتجه نحو قصيدة النثر وبعض منهم مارس كتابة أنواع من الشعر والسرد، غير أن تجاربهم بقيت تنتمي إلى جيلها حتى وإن انتهى أوان الجيل بمجيء آخر جديد بعده ابتدأ عهده مع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين.
وفي الاخير جاء في مقالة هناوي "ان السؤال المطروح للمستقبل هو: هل يمكن ان يظهر من هذا الجيل شاعر له تجربة بها يقدر على التعابر بشعره إلى الجيل الشعري الثالث متزامنا مع تحولات القصيدة العربية الحديثة وتكون له إسهاماته ويشق طريقه الخاص ويثبت جدارته واستقلاله ويوسع آفاق شعره ويطور أدواته مرتقيا إلى القمة شأنه شأن الجواهري؟ .. إن التعابر لا يلغي حقيقة التعاقب الزماني للجيل، ولا يستهين بأدواره الحقيقية وإنما هو برهان موضوعي على أن لكل قاعدة استثناء. والجواهري هو الاستثناء الذي يتجاوز انغلاقات السنوات العشر وتخلياتها، وهو الامتداد الذي فيه الانتماءات تشمل الأبعاد الفنية والتقويمية".