صدر حديثاً عن دار النخبة للطباعة والنشر والتوزيع في القاهرة في شهر شباط 2023 المجموعة الشعرية " بغداد ارجوزة النشيج" ، المجموعة الشعرية السابعة عشر للشاعر والكاتب العراقي مصطفى محمد غريب ، تقع في 122 صفحة من القطع المتوسط ضمت 20 عشرين قصيدة شعرية متنوعة عالجت قضايا مهمة ما بين الهموم الوطنية والعالمية لقضايا العدالة والحقوق والحرية، كما رصد فيها مصطفى ما آلت له أوضاع وطنه العراق وقصائد رثاء وذكريات لكتاب وشعراء رحلوا بعدما أغنوا الشعر والثقافة بتلك الأيقونات الشعرية المميزة.. وفي مقدمتهم مظفر النواب وسعاد خيري.
للشاعر ايضاً روايات ومجموعات قصصية قصيرة طبعت في بغداد وسوريا ولبنان والقاهرة والنرويج‘ عالج الشاعر فيها العديد من القضايا والاحداث وتمكن من الربط ما بين التغييرات التي طرأت على الواقع الاجتماعي وتداعيات الغربة. .. المجموعة الشعرية " بغداد ارجوزة النشيج " عبارة عن مقاطع لحنية كأنها نسيج من العقد المركبة بين التأمل والامل والغربة الداخلية التي تمتاز ليس بالهروب والتخلي إنما في الاقتحام والثبات على الرغم من اللواعج والانكسارات النفسية وبدايتها في النص " صومعة المدينة البحرية" الذي يبدأ " هذا النص الذي بدأ به مصطفى هو عبارة عن توضيح لتلك اللواعج التي يعيشها الانسان في جو من الحيرة والتساؤل والقلق من خلال صور جمالية تتداخل في رؤيا جدلية لتوضيح القيم ما بين الطبيعة وتعاريجها حيث تنطلق من الصومعة بمعناها التعريفي الصوري والرومانسي وملامسة الانعكاسات القريبة " في الشارع القديم الملاصق للمحطة الشرقية / كانت قاطرة التهميش الصوري / تحملُ زرافات من مخلوقاتٍ نصف هلامية / ترسم كنيسةً قديمة على بحيرة تونة فانا Tunevannet / ناقوسها الأحد والموتى تُظهرها ظلال بناية قديمة الطراز / تقطنها حمامات المراقد.."هو الارتباط بين ظلال الذكريات تمسكاً بما هو وكأنها صور هلامية.. هي اطلالة من " نافذةٌ خضراء بلون العشب الشتوي أعيش عالم البصير الأعمى في الرؤيا. / من كوة صغيرةٍ تطل من صومعتي، / صومعتي التي تقوم في البناية القديمة تاريخها يعود للفايكنك* / القراصنة الذين حاربوا الطبيعة باللجوء اليها وإخضاعها للرغبات / قراصنة بحر الشمال الذين يرتدون جلود الدببة ويغطون الرؤوس بقرون غزال الرنة./ صومعتي تطل من مأوى يرتدي ثوباً من الاغصان قرب حديقة أشجار التفاح الخمسة../ في جانبها الشرقي مدينة السمك المالح، وحانة البحارة الحقيرة، وسكارى إدمان الغيبة /لم أكن يوماً فقيهاً ولا مكتشفاً ولا عارفاً / بحياة البحار والخمور البيضاء والسمك السلمون" قد تكون الرؤيا متفرعة لها ابعاد في التصور إلا أن المذهل لا يغيب كما في الخاطرة المتماسكة بالإبحار عن عالم صار باكورة للألم ولهذا فهو يصرخ " آه يا ميناء العمر المملوء بسفن الإبحار" فتظهر الذكريات كأنها شلالات من خدش الذاكرة وتحويلها الى مشهد " كيف لا اذكر طرطوس واللاذقية البحر" انه التعميد في صفاء صوفي " كنت اغسل روحي كلما يشتد حزني وكآبتي في ليل الامطار الدمشقية" إلا أن هذا الحنين ينتقل انتقالات تراجيدية نحو " يا عراقي المذبوح من الوريد إلى الوريد/ عصافيرك الدوري / تختبئ هنا من الثلوج والامطار/ من الافراد والاشرار/ من المقولات في زمن الغبار / كيف يمكن ان أنسي أبو النوّاس وحانة الغاردينيا والسمك المسقوف؟!" العصافير في اللوحة الداخلية على الرغم من وجودها في هاجس الذكر والتذكر " كيف قَدمتُ مع عصافير الدوري من العراق/ عصافير هاجرتْ في شجون /الفرار من الاندثار!/ لسقوط في اغتراب الاندثار/ كيف أنسي ما فعله القوالين ؟ أكثرية القصائد لها ارتباطات بوشائج دليل على قيام شبح الغربة الذي حاول التمويه لكنه فشل في إخفاء طابع الرفض والإصرار وهي إشارة واضحة في قصيدة سلام عادل الشهيد الحي في ذاكرة الناس والذي ارتبط اسمه بالقدسية في التضحية والإصرار " تئن من وجع التغير في الفصول/ يا رجل القرن العشرين / يا مرآة لحفاة الكدح الموروث/ يا رمز هتافات الوجع الممدود إلى كل جهات المعمورة/ عبر تواريخ القحط المفجوع / سجلت التاريخ باسمك / في هذا التاريخ المقبول / سُجل اسمك في النور" هذا التسجيل هو المعنى الحقيقي للثوري ومقاومة الأشرار التي تستشرق الحاضر والمستقبل " في عمق الصورة" صورة واضحة حفظتها ذاكرة الثوريين" ونشيد العمال المأثور/ قامات في صرح الحزب / حزب الكدح الشامل والمنثور/ الماشي رغم ظلام الديجور/ يا دهشة تاريخ الموقف/ يا لؤلؤةً في جيد الأجيال/ انت جدار الفولاذ سقاه الكدح البرهان" ان الموقف الوطني والطبقي الذي تميز في موقف الشهيد الشيوعي دلالة على الإيمان الثابت بعدالة النضال ضد القوى الرجعية والإمبريالية " يا رمز الموقف للأجيال/ وسطوع الفكر الإنسان/ ها أنت الغائب والحاضر في الساحات/ تجوب بيوت الفقراء/ تُسجل ذكراك على الابداع/ ونضالك نبراساً فوق الهامات/ يا نور الكلمات" وتخطو القصائد التالية " ــ تباعد الرؤيا/ ــ حتمية إدراك الفكرة/ ــ مسرح الحلم القادم/ ــ قلب الوجود /ــ رغبة" تخطو نحو الاندماج ما بين العام والخاص في النضال وفي الصراع والعلاقات الاجتماعية، ثم تقوم قصيدة سعاد خيري في أيار "تحرير مفهوم أحادية الموقف المبدئي في التضحية حيث إشارة واضحة لقيم المرأة وعدالة موقفها الذي تجلى في مواقفها الرافضة للظلم والطغيان منذ الحكم الملكي الذي غيبها عشرون عاما في سجونه ومواقفها المتتالية دليل على قيم وقوة نضال المرأة " دعني أفصح عن ذاك التاريخ/ كنا ننشد هبوا، هبوا.. وسنمضي نمضي قدماً ونهز الرايات/ وضحايا الحرس الأسود في بغداد../ وسعاد الخيري مثل القامة/ تتحدث عن تموز البطل الواقف في اوروك/ تموز على الالواح/ تموز الواقف في المحراب/ تموز المذبوح على الأبواب/ والرايات الحمراء/ وأبو يحيى حدثنا عن سلمان / الصوت الدافئ في المرثيات" انها المناضلة الشيوعية التي لم تئن من اضطهاد التعذيب والاعتداء وكانت مرفوعة الرأس متفاخرة بأبجدية النضال الطبقي لشغيلة اليد والفكر "سعاد الخيري/ بيضاء كلون الثلجِ/ حمراء كحبِ الرمان / طلبت مني أن اقرأ شعراً/ فقرأت الأبيات الزنبق في أيار../ طلبت تاريخ الأمم المقهورة / قالت هل ننسى؟ أيار على الأبواب/ هل ننسى الكدح الموروث بحكم طغاة الاوغاد /ومقاصل رأس المالْ/ تنصب في الاعداد " والقول المأثور " وسنمضي نمضي قُدماَ/ ومضينا نحمل عزماً وعناد/ فينا أمل التغيير وفي الانشاد" الانتقال من الحالة الفردية الى فضاء الفكرة الواسعة دليل على إمكانية غور النص في اغوار الشخصية والجماعة وهي ما ظهر من قصائد « نص ــ دهشة في التاريخ ، الادراك في التنويع ، إسراف في الرؤيا "،لقد توضحت بشكل ملموس الفكرة التي طغت على اهداف الشاعر في قضاياه الخاصة به والقضايا الخاصة بسمات المعارف تجاه الآخر، الوطن، المنفى، العلاقات الإنسانية، النظرة الخارجية في تلك العُقد من وجود الانسان ومركباته ووسواس السر نحو عالم مجهول وهذا التوضيح برز في قصيدة العنوان " بغداد ارجوزة النشيج " النشيج الدائم منذ الازل في زواياه التي تخص بغداد والنكبات التي اصابتها فمنذ البداية تظهر بغداد " بغداد حريق .. بغداد غريق / بغداد نواح.. بغداد جراح / بغداد القادمة من عمق التاريخ / تستيقظ مذعورة / من لوعة تفخيخ" وتظهر الأسئلة دون مقدمات " هل صوتها نعيق ودمعها زهيق؟ / تُقصف بالراجمات وبالمجانيق؟ النخل عريق .. في فن التحديق / فيما قال ضرير العينين / ذو العقل الراجح والمفتوح / وبصير العقل المرموق * / وعريقٌ في الأمجاد / في ذكرى بغداد الاسفارْ / والحلم العابر للأسرار" ... نعم فيما قاله أبو العلاء المعري عن نخيلها الذي هو الرمز الخالد لوجود الشجر " وردنا ماء دجلة خير ماءٍ وزرنا أشرف الشجر النخيلا " هذا الوصف الدرامي بما أصاب حالها من الاحتلالات والحروب والحصار وامام الجفاف الذي يبرز كأعظم مشكلة تواجهها والعراق اجمع، إلا أن ذلك لم يمنع كونها " بغداد الثورات " مع تساؤل " كيف لووا رقاباً في حد مأفون/ رقاب الأجيال سليل الطوفان " إلا أن الجواب يكمن في السؤال نفسه " كيف لووا؟ وهي "سلالة رؤيا / ودماء الشعب على الجدران / وسجون بني الشيطان " الا ان المآسي لن توقف " لكن بغداد واقفة من جرح فلول الأجداد / حافلة بالرواد / حافلة بالوعد الموعود / فهنا يأتي التحدي بالإنذار "انذركمْ ! / انذار بصير العقل / الحافة فيما كنتمْ / أو اصبحتم / لا حيلةْ / في الإنذار / فسليل الموروث من المبعوث الأمريكي / القادم معروف / وله شغف في التحقيق المكشوف / وله شرف إيراني في التدقيق / لكن والحق يقال ــــ لن تصبر بغداد / بعد الهرج المصنوع / في أروقة المال التمليق / الذل رسوم كارتونية " الكثير من الإجابات تبدو لأول وهلة على شكل تداعيات من أسئلة على شكل شحن الهمم " هل تنسين النسيان؟ / مشانق من غسلين / هل ننسى ما فعلوا؟ / ها همْ احفاد / افراد الحرس القومي، احفاد الجيش الشعبي، وفدائي الجيف ميليشيا الدعوات / هم جاءوا بالآيات / وسيوف من جمرات النار / يدعون الثمن الثأر/ يصرخ باغيهم يا للثأر / من شعب قمامة في المنحنيات " وتبقى بغداد الأساس لكن " ننذركمْ / لا نبصركمْ / هذا الفجر نراه / ذاك الفجر نشاهد مغزاه" فنزف بغداد يصاحبه مدن اخرى " لا يمكن أن تبقى بغداد تنزف دون وقوف / المدن الحاملة هم عراق التجديد / لن تبقى في خانات القتل الاستبداد / والبصرة تئن على حدباء التاريخ / والحدباء لها صوت أنين المطمورات" وماذا في نهاية المطاف هل سيكون الاستسلام الابدي
" الحقد المتوارث أصبح قانون / قانون يتمركز في الطبقات / لحسم خلاف بين الأقوام / كي تخرج من بغداد مشاعل من حكمة / وعراقٌ يصدح من رايات.." اما قصيدة مظفر النواب في رحلة الطواف يبدأ الشاعر بشطر عائد الى مظفر النواب " يسعود احنه عيب انهاب يا بيرغ الشرجية « ويعني التحدي والشجاعة والوقوف بوجه الطغاة " في الطواف الأخير
نطبع القبلاتْ / قبلة / في اللقاء القريب البعيد / كلما الشعْر جاء النشيد. / نذرفُ دمعةً
في الفراق الذي صار تاريخاً مرير/ عندما الحزن شاء أن يكون المديد /أن يكون الغطاء
فرسٌ في تخوم السماءْ" انها تذكرة للراحل في تشابك البعد الشعري ومواقف مظفر المعروفة حيث أن القصيدة قسمت الى أرقام في كل رقم تذكرة عن مواقف ليس لها إلا السير وعدم الوقوف حتى يصل الى الرقم الرابع " يا ربيب الأسود / ثم صوت الحقيقة
يا ربيع الوجود / ثم حب الخليقة / يا سليل الفهود / في الخطوط الدقيقة / فكرةٌ / عزمها يبتدئ / وكما يبتغي حرفها / في المثال.. / ظافرٌ / إن ترى فَخرها / في الحياة / فارسٌ يمتطي فرساً من شهاب / في عميق الهدوء الظلام / هالةٌ من ضياءٍ ينير الحتوف" ليس قصيدة النواب وحدها تتحدث عن تاريخ الصراع في العراق والمنطقة إنما نجد بغداد القدر الطويل في الذكرى والمواقف وفي الختام ان القصائد الأخرى (في رحلة الطواف وبغداد في عمق الجب و التألق في الوجود وقصائد اخرى من بينها ، إشارات النصوص المنفصلة والتي تتكون من 86 نص الذي يشير فيها مصطفى " هذا الفضاءُ/ نظلُّ نطْرقُهُ / حتى نرى / في الفَسْحة العَلَما / كيما يكون الطيرُ نُطْلِقُهُ / نحو النجومْ / لِيُطْلِقَ القَسَما" .. وتختم المجموعة بقصيدة (خصلتان) « في مشهد الوضوح / كنت أراها في الصباح / بالقرب من حديقة الدار / قرب مخبزٍ صغير / تقضم قرصاً من شعير / تقول سكري المثير / يضرب في العروق كالسعير / كنت أراها في المساء / تفلي رأسها في مشهدٍ مثير / تنزع ثوبها الصغير / وترتدي دشداشة الكتان /في منظرٍ يثير
ـــ 2 ـــ
كنت أراها منظرين / تفاحتين / كمثرتين / كنت أراها قدحاً من الشراب / من كرمتين / مختلفتين/ في الكأس كانت مسرحين
وعيني كانت كالبراق
تراها حباً وعناق
سمراء كالدقيق
حمراء كالعقيق
كنت أراها حبة الضياء
تشع مقلتين
" على الجبين اللجين"*
تقول حزناً وبعاد
"إن كنت تقصد قتلي"*
فأنا القتيلة مرتينْ
فكلما أراك قادم
أصاب من صبري عليك
وكلما اشتاق من بعاد
يا سالب العقد الثمين.
أقول ضوء قادم من ظلمة الوجه الحزين "
** المقاطع للشاعر اللبناني بشارة الخوري ( الاخطل الصغير )..
تبقى اجتهادات القارئ والنقاد من خلال الاطلاع والقراءة والتعمق لأن النصوص تحتاج الى الاجماع ولا يكفي ما نقدمه من رؤيا دقيقة والنفاذ لجوهر المواضيع التي تتخللها نوع من التراجيديا الشبيه بمسرحية لها فصول مرتبطة ببعضها على الرغم من عناوين النصوص المختلفة والمنفصلة ظاهرياً