كانت أمسية المقهى لشهر آيار/ مايس ٢٠٢٣، قد أقيمت مساء الجمعة المصادف السادس والعشرين منه، كان عنوانها " تأثير الطقوس على وعي الجمهور " قدمها ضيف المقهى الدكتور رياض رمزي، الذي استعرض منجزه مدير الأمسية الشاعر قيس السهيلي بإيجاز قائلا : " د. رمزي كاتب وباحث عراقي له مؤلفات عديدة منها "الدكتاتور فنانا " وكتاب آخر بعنوان "الاقتصاد السياسي للطقوس الدينية الحسينية " وكتاب ثالث هو " الدكتاتور بطلاً" ، وله رواية عنوانها " التيس الذي انتظر طويلا" إضافة الى استمراره في نشر مقالات عديدة معظمها في "الحوار المتمدن " تناول في الكثير منها مسائل وقضايا الإسلام السياسي ".
أما عن أمسية اليوم قال الشاعر السهيلي ان د. رياض سيتحدث فيها عن تأثير الطقوس الدينية على الوعي الفردي الذي يرتبط بالإ نثربولوجيا وعلم الاجتماع والفلسفة وتاريخ الأديان، وأشار الى إن أهم ما سيركز عليه الضيف هو الطقوس الدينية المجردة من بعدها القدسي بل كظاهرة اجتماعية، وذكر ان له كتابا كرسه لهذا الموضوع سيصدر قريبا.
ابتدأ ضيف الأمسية بطرح مقتطفات توضح ما سيأتي عليه في محاضرته فكان المقتبس الأول للفيلسوف الألماني الشهير عمانوئيل كانت: " لتكن لديك الشجاعة لاستخدام عقلك " وقال ان هذا القول أُتخذ شعارا لعصر التنوير.. اما المقتطف الثاني فكان لكارل فون كلاوزويتر مؤلف كتاب (فن الحرب) :" إن الشعوب المتخلفة محكومة بعواطفها أما الشعوب المتحضرة او المتقدمة فهي محكومة بعقولها " .. ثم أتى على المقتطف الثالث وكان للكاتب الروسي ميخائيل باختين الذي قال:" إن الاحتفالات الدينية هدفها تكريس النظام القائم، ففي الأوقات التي تسود فيها الأزمات، تنتشر الاحتفالات الدينية” اما المقتطف الرابع فهو للكاتب والروائي الفرنسي اونوريه دي بلزاك:" زمن عمَّ فيه الفجور.. فالكثير من أعضاء المجاميع الدينية يجلسون او يضطجعون بين العاهرات وفي الصباح يطلبون من البسطاء التزام العفة "المقتطف الخامس. لكاتب تونسي مميز اسمه فتحي المسكيني حيث قال:" غالبية من الجمهور ترى ان الاحتفالات الدينية خطرها أكبر من خطر تناول المخدرات".
ثم انتقل الدكتور رمزي الى استهلال موضوعته بتساؤله:" هل يمكن العيش في المستقبل والحاضر اعتمادا على حدث عتيق ؟!" ويجيب:" طبعا لا.. فالطقوس أنتجت عزوفا في التفكير لدى الأفراد، وهم في الحقيقة الغالبية منهم جمهور أُمي فلاحي شبه متعلم، لم يتمكنوا من مجابهة الفساد بسبب قصور معرفي وانشغال بالطقوس.
وقال ان الإسلام السياسي قام برشوة الجماهير عن طريق عطل وتعطيل وتسيب وتوزيع الطعام في السرادقات لجذب الجمهور، أي أدت هذه النشاطات الى انصراف الجمهور عن الدرس الحسيني وعدم جعله يخضع لمعطيات تاريخية بل تحول الى صورة لديه.. وهنا استشهد د. رمزي بما قاله هيغل الفيلسوف الألماني الشهير:" ان العصور القديمة او الوسطى، انتقلت الى العصر الحديث نتيجة لوجود قلق ذهني لدى المفكرين الذين حفزتهم المؤسسات والجامعات عندما أنتجت فكرا جديدا ".
ثم طرح الضيف محاولته في تعريف الطقوس كما يراها وقال ان هذا ما توصل اليه شخصيا من خلال دراسته على ان:" الطقوس تشمل الشعائر الدينية (السبايات، التشابيه، الزيارات.. الخ) وكلها ممارسات بعيدة عن التعبد الديني، لا علاقة لها بالتعبد الديني، بل هي فعل كرنفالي بهيج يجلب ترويحا للنفس المتأزمة، بعيدا عن الفكر التنويري، لا يوجد فكر تنويري في الطقوس، بل هي طريقة تقوم بتسخير الجمهور لإبعاده عن مشاكل فعلية لجلب منافع لسدنة الطائفة ".
وأضاف الضيف ان الدولة قامت مؤخرا بتوظيف افراد لا علاقة لهم بالأداء الاقتصادي.. وأشار الى ان ما يحدث في الطقوس هو اختطاف لشخصية (الحسين) هذه الشخصية العظيمة إذ مثلا في فترة انتشار جائحة الكورونا حث البعض على رفض اللقاح زاعمين انهم في بلد موجود فيه الحسين الذي اجترح الكثير من المعجزات هل يعجز عن إمكانية طرده الكورونا؟! وهذه الحالة حولت صمت الحسين عند استشهاده الى صخب بعد عدة قرون.
وذكر ان الطقوس تحوي على كلمات أطلق عليها تسمية (كلمات مفتاحية) كثيرا ما يجري ترديدها وتكرارها بدافع إثارة الحنين والعواطف والشجون كأشعار النواح التي ينظمها شعراء موهوبون، يرسخ هؤلاء فكرة ان كل ايمان فكري له إيقاع يناسبه كالصوفية مثلا لها ايقاعها التأملي، والطقوس لها إيقاع يناسبها يدفع الشخص الى الحزن.. وتلك (الردات) تغمر المرء بالسردية الأسطورية لأحداث ماضية واعجازها وتتيح له نسج بطولات خيالية. .. فالشخص هنا الذي يعيش القهر الاجتماعي والظلم وشظف العيش لا يتعامل مع واقعه الصعب وإنما يلجأ الى الاسطورة، والاتكال على أشخاص لابد وأنهم سينقذوه مما هو فيه. وبذا تم التوصل الى فكرة (الشفاعة) عن طريق التزكية من المراجع للحصول على النعم والبركات.. وذلك عن طريق الترغيب والترهيب.. بمعنى أنك إذا أتيت معنا ستحصل على ميزات لكنك إذا لم تأت ستمنع البركات عنك.
وقال ان الطقوس نفسها هي كرنفالية تصور النازلة الكبرى مشحونة ببطولات لحنية فعند المشاركة بها تأسرك القدرات التعبيرية لها، فهذه السردية لا تسمح بإدخال إفكار جديدة بها او تفكيكها.. في الغرب ابتكروا الحالة التأويلية حيث القاريء للنص يمتلك المقدرة في تأويل النص وفق الكثير من التأويلات الفلسفية الأخرى. الطقوس تشبه البيعة، وهنا أكد المحاضر قائلا:" أنا أزعم ان سدنة الطائفة عن طريق شبك الجمهور عاطفيا، تمكنوا من ربط الجمهور وجعلوا الطقوس أشبه ما يكون بمثابة إسمنت في ربط الجمهور بالطائفة ".
واستخلص المحاضر ان الفكر الحر ما أن يدخل هنا حتى ينتهي اللجوء الى الأسطورة والخيال واستاذية الخطباء الذين يبتدعون ما هو غير تاريخي وتفخيم احداث لم تحدث أصلا، وكثيرا ما تلتزم المؤسسات الدينية الصمت إزاء طروحات أولئك الخطباء او تركهم دون تعليق لطروحاتهم وأضاف مستدركا الى ان:" بعض رجال الدين يتصدون أحيانا لها، لكن هذا لم يرتق الى تنظيم او حث لتصحيح العقيدة وهذا ما أحاول من هذه المحاضرة التنبيه اليه بهدف ادخال التفكير الحر والمسؤول وهي طريقة لجعل أساتذة وخطباء المنابر ان يكفوا. ويقال لهم ان ما تفعلوه خطأ وعلينا تصحيح ذلك.. نحن ندعو الى تحسين الأسلوب الديني لرفع الحسين (مثلا) من شخصية اسطورية الى ثائرة فهو الذي قال :( لا أفر فرار العبيد ولا أعطيكم ما بيدي عطاء الذليل) هذا كلام كبير جدا قاله قبل أكثر من ألف سنة، يعني على الطقوس ان تخرج من الرداء الديني الى الرداء الفلسفي والتاريخي ". وأضاف:" انني لست بصدد الإجابة عن أي سؤال لأنه لا يمكنني.. وهناك كلام لطيف الى ابن خلدون لا يمكن الإجابة في الربانيات لان معانيها متداولة لدى العامة، فانا لا أتمكن الان من الإجابة في هذا المجال، لكني اعتقد ان النقاش الحر من الممكن ان يساهم في تعميق الوعي، ومن الضروري الاستمرار في تبادل الرأي ".
حظيت الأمسية بمداخلات من الحضور فكانت البداية للكاتب عبد المنعم الأعسم ومن بين ملاحظاته: " تفكيك المقدس هو ليس بدعة من رياض رمزي فهو عريق بالتاريخ، حتى النبي محمد اول معركة خاضها كانت ضد المقدس الوثني.. وهذا صار من اساسيات تفكير الانسان ولدينا من اخوان الصفا ومن العلماء المتنورين أسماء كثيرة تصدوا للمقدس.. اعتقد ان المحاضرة التي قدمها رياض وان كانت سريعة وقصيرة لكنها كانت جيدة وتستحق التأمل ".
اعقبته الروائية فيحاء السامرائي بملاحظاتها:" اقتصرت المحاضرة على الطقس الحسيني في حين ان الإعلان عنها يوحي انها ستتناول الطقوس بشكل عام.. فبالإضافة للطقوس الشيعية هناك الطقوس السنية كالدروشة وهكذا في المذاهب والأديان الأخرى كانت بعض الطقوس كرنفالية يجري الاحتفال بها كأنها اعراس او مناسبات اجتماعية.. لكن السياسة والطائفية هي التي عملت مؤخرا على ابتداع طقوس تعمق جهل الناس.. ان الطقوس بشكل عام مورست منذ القدم منذ السومريين.. في اوربا مثلا عندما انفصلت الكنيسة عن السياسة تحولت تلك الطقوس الى احتفالات مرحة يبتهج فيها الناس ". وساهم الأستاذ علاء الدين الناصري بمداخلة قال فيها:" كنت أتوقع ان تكون المحاضرة عن نشأة الطقوس بشكل عام وذكر مختلف الطقوس عند الملل والشعوب المختلفة، ففي كل بلد هناك طقوس معينة موجودة وموروثة”. وأضاف ان الطقوس ترتبط عادة بالشعبوية وتكون عند عامة الناس البعيدة عن الوعي وفي جميع المجتمعات بغض النظر ان كانت دينية او غير دينية وأكد ان الطقوس إذا كانت واعية فتفقد محتواها. أكد المحاضر اتفاقه مع ملاحظات السيد علاء وقال انه يتمنى عليه ان يقرأ كتابه الذي سيصدر وسيجد توسعا في تناول الطقوس الذي غاب عن المحاضرة لقصر الوقت وما طرحه هذا المساء هو جزء يسير من كتابه.. اما الأستاذ صباح يعقوب فقال ان المحاضرة تضمنت فيضا من المعلومات لكنه يختلف مع المحاضر وذلك لاقتصار محاضرته على:" الجانب الديني وأهمل الجانب التاريخي.. فكثير مما تتناوله الطقوس ليس لها وجود في التاريخ وليس من آثار تدل عليها.. ان بعض الطقوس جرى تأليفها بعد مئات السنوات لأحداث قد لا يكون وجود لها أصلا او حرفت عن حقيقتها ".. وأضاف: " هذه الممارسات ينبغي ان تغير.. فقد بدأت تتركز منذ عشرين عاما بتعمد وهناك توجيها واضحا من الإسلام السياسي بتعميقها فطقوس النواح واللطم وغيرها سبق وإن كانت موجودة لكنها تعززت بشكل مفتعل ومبالغا فيه.. ان الأحزاب السياسية تعتمد بالأساس في بقائها على هذه الممارسات، انهم يعيشون عليها ". اما الأستاذ عادل خصباك فقد تناول المسألة من زاوية وجود هذه الطقوس في الموروث التاريخي ففي العراق موجودة من سومر وقال ان أحد الفرنسيين ترجم الالواح الطينية التي بينت كيف أصبح النواح فنا في العراق عندما يتوفى شخص ما.. وهناك مسألة أخرى حين عمل المبشرين على نشر الدين المسيحي في أفريقيا استخدموا في ذلك التكيف مع الطقوس المحلية وهذا ما يحدث في العراق تستخدم هذه الطقوس لمن لهم مصالح فيها ولهذا مثلا يجري حجب دروس واقعة الطف لأنها تتعارض مع تلك المصالح وهنا ينبغي التوقف. وكانت مداخلة الأستاذ غانم سلطان تتركز في إشارته الى ان:" الأخ رياض دمج في محاضرته بين المرجعية والأحزاب الإسلامية.. فهما شيئان مختلفان على الرغم من انهما من جنس واحد.. المرجعية لا تبحث عن دور سياسي فهي لها دور اجتماعي والأحزاب الإسلامية هي تجربة سياسية بحتة.. فقط أحببت لفت النظر انه من غير الصحيح الدمج بينهما ". وكانت المداخلة الأخيرة للشاعر عدنان الصائغ حيث أكد ان:" الطقوس على مر التاريخ كما أشار جيمس جورج فريزر في كتابه " الغصن الذهبي " ان الطقوس موجودة لكن عندنا حدث انزياح قصة الطف مثلا على مستويين الأول شعبي والثاني ديني.. هذا الانزياح أبعد القصة عن جذورها التاريخية وبنفس الوقت وضع غلافا بين رؤية المجتمع وبين الحدث نفسه وبالتالي هذا الانزياح أثر على عقلية الناس فبدأ الغرق بالأوهام والأباطيل.. فهنا تحول الطقس من عمل احتفالي - كرنفالي، كما في كل العالم لكن عندنا حدث العكس وبدأ يأخذ ويجذب معه الكثير من العادات التي لم يعد يتحملها العصر ولا العقل، وبالتالي تحول طقسنا الى مسار أصبح من الصعب الآن إيقافه لأنه يتطور باستمرار بالمزيد من الانزياح نحو الهاوية في معناه البعيد عن التاريخ وعن الدين ".