في ديوانه (رجاء على شفاه العدم) الصادر عن دار الدراويش 2023 تولَدُ عند الشاعر أ. د. عادل الحنظل القصائدُ موشّحةً بألم الغربة، وجراح وطنٍ خلّفه وراءه، لكنّه ما انفكّ مغروساً في نفسه. لذا يتناوب هذان الجرحان (الغربة والوطن) معظمَ قصائده، ليُصوّرَ معاناته في غربته المكانية، ومعاناة غربة الوطن؛ لما ابتلي به من نكباتٍ وقادةٍ ينهشونه، لذا نجده يستلهم قصة قابيل وهابيل؛ ليضفي عليهما صورةَ الحاضر بين الأخوين في وطنٍ واحد: أحدهما يريد أنْ يُغيّر نحو الأفضل، والآخر لا يشاركه هذا الأمل والرغبة والهمَّ، فنجد هذا الإسقاط الفنيّ في تناصٍّ مع قصة ابني آدم قابيل وهابيل كما وردت في (العهد القديم)، وكيف قتل قابيل أخاه هابيل والسبب، وهي القصة التي ورد ذكرها في القرآن أيضاً دون ذكر اسميهما: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ) المائدة 27 . وقد ورد التناصّ في قصيدة الشاعر "قابيل":
هابيلُ
هل أنتَ الذي ضحَى
لكي نأتي الى الدنيا
بثوبِ ملائكةْ
أم كنْتَ مقتولاً
لأنَّ أخاكَ أعرضَ أنْ تكونَ مشاركّهْ
وهنا تورية (ترميز) الى ما يحدثُ في الوطنِ منْ قتل قابيلَ (الحاكم/السلطة) لأخيه هابيلَ (المحكوم/الشعب) كي لا يشاركُهُ في الحكم. وهو تضمين بين صورتين تلتقيان في دلالتهما واشاراتهما. إنّ عدم قبول قابيل لأخيه هابيل هو صراعٌ على السلطة والكرسيّ مثلما يحدثُ في العراق، وهذا في إشارة الشاعر من القصة واستلهامها. هاتان الصورتان المتضادتان والملتقيتان في مضمونهما الإنساني بوجهيه السلبي: الشرّ المستحكِم، والقتل المتعمّد من أجل مصالح ذاتية زائلة. والوجه الإيجابي: الخير الهادف والمناضل منْ أجل صالح الإنسان. هذا الصراع يخلق شرخاً اجتماعياً أخلاقياً في نسيج الوطن وشعبه، فيؤدي الى صراعٍ يقتل فيه الأخُ أخاه (قابيل وهابيل).
هذا التقابل وتصوير حالتين هو سمّةٌ من سمات قصائد الديوان، وقصيدة "غربتان" مثال آخر لهذه المقارنة بين الذاتي/الشاعر، والجمعي/الوطن، فهو يعاني الغربة بعيداً عن أرضهِ وبلاده، والوطن يعاني الغربة بمَنْ يتسلطون عليه، منَ الغرباء، ومِنْ أهله ومِنْ خارج أهله فيما وراء الحدود، وهو ماكان وراء رحيل وهجرة الشاعر:
كلانا غريبان
رمَتْها سُدىً بذرةٌ في العراءْ
وأنكرَني موطنٌ لا يصونُ الوفاءْ
الوطنُ رمته بذرةٌ منه في العراءِ؛ ليُمسيَ غريباً متجرّداً من ثوبهِ وقيمه السامية. أمّا هو الشاعر فقد أنكره الوطنُ الذي لا يصون الوفاء، أي وطن عاقّ، وهو هنا يستخدم المجاز، فيرمز بالوطن الى البذرة الناكرة، أي الذين يتحكّمون بمصيره فيطاردون الأوفياء من أبنائه، فيضطرون للرحيل، ليلقوا بأنفسهم في أحضان بلاد غريبةٍ علّهم يعثرون على الأمان والطمأنينة والحياة الكريم. لكنّهم يقعون فريسةَ الغربةومعاناتها، تماماً مثل وطنهم الغريب اليوم بسبب معاناته من حكامه. فمعاناته إذن مزدوجة بين وطنٍ عاقّ (المتحكّمون برقابه)، وغربةٍ أعقّ:
وطني كامرأةٍ تدورُ بضرعِها
تسقي بهِ نذلّاً يُباركُ ذُلَّها
كالنخلةِ العَيطاءِ والعَوجاءِ
ترمي تمرَها
في صحنِ جيرانٍ
وتحرمُ أهلَها
(من قصيدة لولا ثراك)
ويستمر الشاعرُ في القصيدة بذكرَ علّةَ غربته ورحيله عن؛ محاولاً إفهام المتلقي مسببات نظرته السلبية الى أوضاع بلاده والتي دفعته ليلقي بنفسه في أحضانِ ديار الغربة:
والمجدُ مجدي
لو وجدْتُ العزَّ في عليائهِ
ما ينفعُ الذِكرُ الجميلُ
وملءُ كفيَّ الحصى
أأُسامُ ذُلاً
كي يُقالَ يموتُ حتفَ وفائِهِ
وطني يُفرّقُنا الرحيلُ
وكأنّهُ هنا يُبرّرُ غضبه من وطنه، وهو ما يدفعُه الى التعبير عمّا في داخلهِ والتبرير للقارئ عن هذا الإحجام عن تمجيد الوطن الذي لاقى فيه الإجحافَ والظلمَ واللاعدالة. لكنّه في ثنايا قصائده يفتح لنا نافذة العِلّة الكامنة وراء ذلك. هي ليست الأرضُ التي سقتْه ماءَ النكران، إنمّا المتسلطون عتاةُ الجور والعسفِ والإضطهاد. الشاعر د. عادل الحنظل تمتدُّ محبتُه وجذور مشاعره في عمق الوطن. وهذا ما نقرأه بجلاء في قصيدة "ما بعد أسوار النفاق":
ابنُ النخيلِ أنا ومربعيَ الشجرْ
مرأى السماءِ لديَّ ما بينَ السَعَفْ
وأعدُّ بينَ الخُوصِ أنجمَها
فتأتي دونها عِشتارُ تدعوني إذا الليلُ انتصفْ
معها يغني الكَرْمُ أغنيتي
ويثملُ فوق مائدتي الرُطَبْ
يهتزُّ مِنْ حولي الوجودُ
فينثني حيناً وأخرى ينتصبْ
يختالُ حسّي حينَ تعزفُ لحنها
نرى هنا، بوضوحٍ لا لبسَ فيه، أنّ ارتباطه بأرضهِ وثيقٌ، محبةً لا انفصام عنها، وبذا فإنّ كلَّ ما نقرأ من غضبٍ دفين، إنّما هو حالةٌ من معاناةِ الغربةِ والاضطرار للرحيل، وهي سويعاتٌ وتمضي.
القلق الوجودي :
نقرأ في الديوان صوراً مُعبّرةً في قصائد عن إحساس الشاعر بالقلق (الوجوديّ)؛ وهو بين فكَي الغربة، وما تجرُّه من أحاسيسَ واخزة لروح الإنسان الذي يصعبً عليهِ التآلفُ مع مجتمع جديد غريبٍ روحاً وثقافةً، وهو ما يوقعُه في حيرةٍ، واضطرابٍ وألمٍ يحدثان جرحاً غائراً في روحه الشاعرة الحساسة، وهو ما يدفعه الى أنْ ينفّسَ عبر القصيدة عن هذا الجرح والألم. فالقصيدة هي وسيلته في التعبير عن أحاسيسه، يقول في قصيدة (حائر):
أنا حائرٌ
يقسو عليّ العمرُ في رغباتهِ
ويزيدُ رشّ الماءِ فوقَ الطينِ قلبي
كي يمرّغَني
إذا أفلتُّ منْ نزواتهِ
...
يا جامعَ المتناقضَينْ
هل ذاكَ منْ نكدِ الزمانْ
أم تلكَ منْ حسناتهِ
أيصحُّ أنْ تضعَ الجحيمَ على مشارفِ جنّةٍ
أم أنَّ سعدَكَ في لظى جنّاتهِ
الغزل:
يشتملُ الديوان أيضاً على مجموعة من القصائد الغزلية، وهي ليست غزلية تقليدية تصفُ المحاسن والجمال، وتتغزّلُ بمفاتن الحبيب، وتعبّر عن الشوق الحارَ واللهفة والغرام الحرّاق، إنّما هي أقرب إلى الأحاسيس التي تراود الشاعر وهو يحبّ، فيعبّر عنها بصور ولغة تصفها وتقدّمها على طبقٍ شعريّ جماليّ، وتصوغُ ما تبثه في نفسه من لواعج ومشاعر. يقول في قصيدة "كرّ الشوق":
أبصرُ في عينيكِ ضياعَ الصبرْ
ونزوعَ غريقٍ أفلَتْهُ الطوف
فيمورُ على شفتيكِ نداء
فمُكِ الفاغرُ كالموقدِ يلتمسُ الجَمْر
يدعوني أنْ أنحرَ ذاتي بعناق
وأنا أعشقُ بينَ يديكِ النحرْ
وكما نقرأ له في قصيدة "تراتيل":
امنحيني ليلةً
أو بعضَ ليلْ
واشرحي صدراً
يغذُّ السيرَ غذّا
.....
أُشعِلُ ذكراكِ قناديلاً
تخيفُ الصمتَ حولي
وتراتيلاً