تتحدث ازهار رحيم في روايتها “ليلوّة” عن تداعيات مجتمعية تخص المرأة في ظل احداث الطائفية والاقتتال والتفجيرات التي اصابت البلد بعد ظروف التغيير التي جرت عند سقوط النظام الصدامي ، مشيرة إلى تلك القسوة والظلم الاسري في كنف الرجل، وإلى مجموعة حيوات تشترك بخيط رابط لعدد من النساء ذلك هو خيط الصداقة الذي يربطهن، فتعرض لنا قصة كل واحدة منهن وما هيأت لها اقدارها من ممكنات العيش وروابط الانتماء ورفقة للرجل.

عتبات نصية

في هذه الرواية هناك عتبتان مهمتان يجب الوقوف عندهما وهي عتبة العنوان وعتبة الاستهلال الذي تفتتح به الكاتبة كل مفصل من مفاصل الروي، أما العنوان ففيه إشارة دلالية لا تنفصل عن خصوصية العمل الروائي وفيه تضمين لزمن الحكاية الذي يبدأ مشواره ليلا حين تبدأ ياسمين وهي الشخصية المحورية في الرواية بقص الحكايا لطفلها قبل خلوده للنوم فلفظة (ليلوّة) هي رديفة للترنيمة التراثية التي تطلقها النساء عند هدهدة الصغار للنوم وهي تنشد (دللول يا لولد يبني...) وقبل تلك الترنيمة يبدأ الكلام المباح فيطلق العنان لأقاصيص منشأها الف ليلة وليلة لكنها تنزاح لتتمفصل حول ( ياسمين، حنان، كوثر، زينب، سكارلت) وهن مجموعة صديقات كن يجتمعن اسبوعياً في بيت ياسمين لتبادل الأحاديث وتناول الطعام وكشف الاسرار، وفي ذلك تنعقد دورة تكاملية تامة ما بين الخيال بمرجعياته الموروثة والواقع وحركته النهارية في حيوات النسوة.

أما العتبة الثانية فهي الاستهلالات التي تفتتح بها الكاتبة اقاصيصها التي تبثها ياسمين لطفلها، وكانت تأخذ طابعا مغايرا بعد أن استدعى الروي اداته وتقنيته المعتمدة على التناص الاسطوري مع قصة الملك شهريار ذلك الذي كان يهدر دماء النساء في كل ليلة، لتكون الملكة المدللة شهرزاد هي صاحبة السبق بإهدار دماء الشباب والفتية في هذه الرواية في كل ليلة؛ ارضاء لمن يسكن جرتها ويعتاش على الدماء التي تكون مقابلا موضوعيا لادامة حياتها وعدم اراقة دمها على يد المتسلط الجبار الذي يتواجد في غرفتها حيث الجرة المضمخة بلون الدماء ولون السواد، في إشارة ميتافيزيقية تأخذنا إلى عالم الموروث الدموي الذي انبنت عليه قواعد العيش في هذه البلاد إلى الوقت الراهن، كانت الاستهلالات تحكى بلغة الف ليلة وليلة وتفتتح بجملة (بلغني ايها الملاك الصغير أو بلغني يا مولاتي المبجلة) وبذلك نجحت الكاتبة في خلق الوهم واستحضار مسوغاته ولم يبقَ لها سوى نسج الحكاية الحزينة التي تأتي تمهيدا أو تتويجا لمحيط الأحزان الذي توسعت مداياه بعد سرد كل قصة، إن تلك الاستهلالات قد افلحت بفتح بداية التاريخ وفتح بوابة الحاضر فنشأت ثنائية جديدة على تخوم الاسطوري/ الواقعي، الا وهي المتوازية السردية بين حكاية تلك الام المنتهكة من قبل زوجها بمعاملته القاسية لها وهي ياسمين التي تزوجت من رجل لا يستحقها لتؤمن حياة والدتها واخواتها، وبين القصة الموروثة لشهرزاد بمعالجة فنية ذكية تحسب للكاتبة، وفي النهاية تكوّن الرواية شخصيتان متلبستان بشخصية واحدة بدلالة موت ياسمين في نهاية الروي ليناديها طفلها بشهرزاد وليس باسمها الحقيقي او بلفظ ماما، والسؤال الذي يطرح هنا ماهي مفاصل التناص بين الاسطوري والسردي في هذه الرواية، وللإجابة علينا القول انها تتعدد بالتماهي شبه الكلي بين الاثنين، حيث يمكن للدلالة أن تنسكب من اكمام هذين المستويين فتؤلف جزرا دلالية وحقولا بكرا للمعاني، وهي تتعدد ايضا كلما اوغلنا القراءة في التاريخ وكلما اتسعت اهواله ودمويته في خارطة الحاضر.

نظرة شمولية لخط سير الاحداث في الرواية 

إن حزن ياسمين ومعاناتها الجسدية والنفسية في ظل رجل سادي مأزوم نفسيا كانت مفتاحا لأحزان اخرى توالت على بنية الروي وهي تخاطب احزان الصديقات الاخريات لها، والحزن هنا قوة مهيمنة في السرد بما يؤلفه من شبكة غنية بحاجة إلى الوصف والتحليل والتأويل والتعويم، لأنه يفتض مسالك دلالية كثيرة ترشح عن الشخصيات الرئيسة، وذلك يؤدي إلى استكشاف متوالية لا نهائية من الهموم المتراكمة طبقات فوق اخرى، كما حصل مع احدى الصديقات وهي كوثر الصحفية التي كتبت عن ارهاب العمائم فهُددت بالقتل، فضلا عن قصتها الثانية المتعلقة بحبيبها وما عانته من استشهاده في احد الانفجارات، وحنان المعلمة المطلقة التي تعاني من ازدواجية مجتمعية تؤرق اغلب النساء بعد أن طلقت من زوجها بسبب زواجه بأخرى  لعدم قدرتها على الانجاب وصراعها مع ذاتها بعد أن احبت رجلا متزوجا وله عائلته وزوجته من جهة، وصراع العائلة ورغبتها بمغادرة البلد خوفا من التهجير والقتل بعد أن فقدوا احد افراد الاسرة، وزينب وما تعانيه من عملها في مشفى يأتي له العديد من الحالات في كل لحظة بسبب توالي الانفجارات في البلد، وسكارلت تلك الفتاة المسيحية التي احبت مسلما ولم تستطع الارتباط به بسبب رفض العائلتين لذلك الارتباط فاجبرت على الزواج من غيره لتنجب اطفالا تتحمل مسؤوليتهم بعد أن يغادر زوجها إلى بلد آخر لتأمين حياة افضل لهم، وغير ذلك من حيوات تؤصل ديمومة العيش القلق وسط مآسي قاهرة لابد أن تقاوم اليأس فزينب تتعرف على حبيبها في ظرف اقل ما يوصف به  انه  ظرف مأساوي، حين ترمقه بعد أن كانت تحاول مساعدة الناس في بيوتهم المحترقة من اثر الانفجار فتشعر تجاهه بحب يهز كيانها، وفي الرواية الكثير الذي فيه اماطة اللثام عن حجم الكوارث التي ابتلي بها كل بيت وكل شاب وكل فتاة ومسن وعجوز ففي هذا النص احاطة تحمل ما تحمله من الخسائر الفادحة وقد جاء فيه “ كلهن سواء في المحنة سواء من خسرت حبيباً، زوجاً، شقيقاً، قريباً.. وربما لن ينجو بيت أو عائلة من الخسارة، لسبب أو لآخر، سواء أكان نزوحاً أم تهجيراً أم انفجاراً أم خطفاً أم اغتيالاً أم سرقة أم ابتزازاً.. انهار العالم الذي عرفته سابقاً، وبدأ يسير في طريق الاحتضار....”. 

كما تضمنت الرواية الكثير من رواسب الكره المستشري بين الناس بسبب المفاهيم المغلوطة التي تربى اجيال من البشر عليها ومن ذلك التشدد العقائدي فيما يخص التقارب ما بين علاقات الجورة في مناطق بغداد ودور المدرسة في زرع بذور الفتنة والتفرقة.

وهناك منعطفات كثيرة في الرواية تأخذ تدرجاتها في تعميق آهات الشخصيات وفي كشف جروحها وتشوهاتها وعدم امكانيتها على الشعور الصميم بمعنى الانتماء، وقد اتخذت الكاتبة من الجسد عاملا مهما لكونه ذا طبيعة متحركة ولتعلن عن المواقف الانسانية بكل معانيها فكان قطباً فاعلاً ورئيساً في إزاحة النقاب عن التعذيب الذي تلاقيه المرأة وهي قابعة وخاضعة في اتون الزوجية ومرابعها، إذ تتعالى الصرخات الصامتة داخل جسد فقد مفهومه القاموسي وتحول إلى رمز للقهر والاغتصاب والاهانة وتمثله هنا ياسمين التي فقدت توازنها وشعورها بالوجود بعد أن فقدت من ضحت لأجلهم وهم عائلتها عندما راحوا ضحية في احد الانفجارات في بغداد، ولم تستطع تحمل تلك الحياة غير المنطقية واللاإنسانية فكان لها الرحيل الابدي.  

عرض مقالات: