في السجن
كان الحلم يأتي كما لا يريد قلبي
ولا السجان
شفافاً وأبيض
رأيت رفاقي يحملون دفاتر وأزهاراً
ثم تقول في النهاية..
في صفحات الفيس بوك
لم يزل يباغتني رحيلهم
ولم ازل أبكي
حتى
ينتهي شحن الموبايل
أدب السجون هو المثير للجدل لكثرة ما في هذا العالم من سجناء ساسيين تغيبوا في الأقبية ولم نسمع عنهم مئات الروايات والنصوص عن هذا الأدب المبكي والمؤلم. هناك رواية مصرية بعنوان (حوار مع الشيوعيين) لعبد الحليم الخفاجي وكيف التقى بهم في السجن وحاورهم. رواية (الحياة والسجن) للشاعر المصري أحمد فؤاد نجم. كتاب أمريكي (الجنون في غياهب السجون) وكيف التقى الطبيب (تري كوبرز) مع المساجين الذي فقدوا عقولهم وأصبحوا مجانين وإستطاع أن يدخل هذه العقول وأعطانا رواية ممتعة ومرعبة بنفس الوقت وتبيّن أزمة الصحة العقلية خلف القضبان الأمريكية. رواية مشرحة بغداد للروائي العراقي (برهان شاوي) الذي يشرح بها تجربته في السجن. رواية (القط الذي علمنا الطيران) للروائي هاشم غرايبة عن سجون الأردن . ونوال السعداوي عن تجربتها في سجن النساء وغيرها الكثير لا يسعنا درجها هنا. بينما الشاعرة رماح نفهم من نصها أنها أيضا قد إكتوت من جحيم هذا القباء المعتم. وكإنها تقول لنا على غرار (للحب وقت وللموت وقت) للروائي الالماني (أريش ماريا ريمارك) وكيف يصف لنا أن السلطة القمعية تسلب عقلك فتوصيك من أنك لوفكرت في أن تحلم فنحن نعرف بك ونستطيع معرفة مايدور في رأسك فتبقى في السجن مثل آلة تعمل ليل نهار ولايحق لها أن تفكر والاّ ستكون العواقب وخيمة. في السجن تصل شهوة الموت والحلم به لدى السجين الى أعلى مستوياتها. يقول جورج أوريل في روايته 1984 ونقلا عن السجان والسلطة القمعية (ألد أعداءك هو جهازك العصبي) فإذا فكرت بشكل آخر لايرضي السلطة فلسوف تتعرض الى مالايحمد عقباه. وهكذا تُسلب عقول السجناء حتى تصبح حجرا أصم. وهناك مثالٌ آخر عن السجين البريء في مستعمرة غويانا الفرنسية المحكوم بالمؤبد ظلماً والذي يرمي بنفسه من أعالي المرتفعات بقفة صنعها بيده ويسقط في البحر وينجو ويقول وهو في عرض البحر فوق قفّته (أنا هنا أيها السفلة). أما الذين يحالفهم الحظ في الخروج من المعتقلات كما تنقل لنا الشاعرة رماح (بل هي ذاتها كانت سجينة ربما) وكيف يظل السجين يتذكر رفاقه يحملون دفاتر وأزهارا حتى تصبح الإقحوانة نخيلا أبديا. ويبقى السجين المطلق سراحه يعاني مهما مرت الدهور عليه ولا يمكن لها أن تمحى فتقول الشاعرة حين تتصفح الفيس بوك و يا لكثرة ما به من مآس في هذا المجال المرعب في تحطيم عقل الإنسان وسلبه إرادته فتقول: (أظل أبكي حتى ينتهي شحن الموبايل) هذا يعني البكاء والبكاء طالما في الجسم نبض وطالما هناك شحن في الموبايل وكانت موفقة رماح هنا في هذا التعبير المجازي العابر للإبداع فأن الموبايل لا يمكن أن ينتهي شحنه فدائما هناك شحن وهناك بطارية بديلة مما يعني هناك البكاء المستمر.
من بين كل هذا الخراب والعدمية والموت فهناك ميلاد جديد على مر العصور لكي تحمي البشريه نفسها من الإنقراض فلابد للمرء أن يعيش وفقا للغريزة الطبيعية التي إكتسبها في ممارسة طقوس الحب الذي هو الأسمى في كل مراحل حياتنا وهذا ماتخبرنا به رماح في (مخالُبُ زنبقة):
رجل
كلما آوته برتقالة
صار حطبا
إمرأة
كلما ناولوها دمعة
صارت ذئبة
وكسرت النوافذ
رماح تصنع من الخطا صحيحا مثل تلك الفتاة التي وقع الحبرُ على قميصها فقامت بقص البقعة على شكل مثلث ثم ربطتهما معهما واصبح مثل العقدة الجميلة التي تظهر على أسفل البطن كموديل لطيف وعندما رآها صديقها قال لها ما أجمل هذا القميص وهنا فرحت محبوبته أيما فرح لأنها تلقّت ما يبهج روحها وقلبها .أما المرأة التي تحس بالأذى وألم الخنجر في خاصرها نتيجة معاملة أحدهم لها فإنها ستنقلب الى تحطيم الجبال، وإحذر المرأة إذا غضبت كما في الفيلم العالمي التشويقي والعائلي ( يكفيenough ) تمثيل (بيلي كامبل) و (جنيفر لوبيز) صاحبة أجمل عجيزة في العالم ذات يوم، والتي يؤدي بها المآل أن تتدرب على القتال في سبيل القضاء على زوجها العنيف والذي يريد إنتزاع طفلتها منها ومن ثم قتلها وطفق بضربها في كل مرة وملاحقتها أينما هربت منه وحبست نفسها في أبعد الأماكن لكنه يصل لها لعلاقاته العديدة مع أجهزة الشرطة الفاسدين وهو من الأثرياء فاستغل سلطته على هذه المرأة المسالمة والتي تحبه حباً عظيما لكن طفح الكيل بها وما من بد سوى أن تتخذ قرارها في التخلص منه فتدربت على القتال والمنازلات والملاكمة لتحمي نفسها منه وبالفعل حصل الشجار بينهما فبدت هي أقوى منه بكثير حتى لفظ أنفاسه الأخيرة بعد ضربات منها اليه وبهذا تخلّصت منه ولم تعاقب بحجة الدفاع عن النفس . وهنا تبرز ماقالته رماح ( إمرأة كلما ناولوها دمعة صارت ذئبة). ويستمر الحب ولواعجه في حياتنا مهما أوغلنا في السياسة وحب الأوطان لنقرأ شذرة (خدوش):
الخدوش التي
تركتها نقراتك على الشرفة الزجاجية
لم تزل
رغم عشرات الشتاءات التي غسلتها
وفصول الربيع التي دللتها
كلما مرت بها ريح تعوي
(فضيلة النساء رهينة بغوايات الرجال.. تيريز تارديف..)
علينا أن نعلّم أنفسنا على الترحيب المستمر بالمرأة ولسوف نرى العطاء المستديم منها. كما أن الشجاعة الحقيقية هي في أغواء المرأة ذاتها أكثر من مرة لا الشجاعة في إغواء أكثر من إمرأة. المرأة بتركيبها الناعم والمهفهف تكره الجرح الداخلي أكثر من الخارجي والذي يأتي من إتخاذ موقف منها أو أهانتها بلا مبرر بينما الجرح الخارجي الناجم من الضرب من الممكن أن يندمل مع مرورالوقت. ومن هذا المنطلق نجد رماح كانت في غاية الإبداع حين وصفت ماتقوله في شذرة قصيرة بارعة حيث تبقى الخدوش(الأذى) مهما مرت عليها الفصول والسنوات لأنها ثبتت لديها كما ثبتت في الراحتين الأصابعُ. هكذا هو تكوين المرأة الداخلي الذي جبلت عليه منذ الأزل ويبقى صوب الأبدية. فعليه يتطلب منا عندما تكون المراة على خطأ يتوجب البدء من جديد وطلب الصفح منها لكي تستمر الحياة بالسلام والحب المنسجم والإكتواء بالنار والحمى التي تتوالد في كل ممارسة حميمية أو عناق في الهواء الطلق أو فوق أسرّة الحرير مثلما نقرأ نص (وقت بلا هوية):
يقال
الفراش يبقى باردا بلا شرشفها
الشتاء يطول حتى
تصاب ناره بكحة الضجر
وانا والله
اجمل من الرافلات على السجادة الحمراء
لولا انني أبتليت باطفال اليمن
تعال
ترعاني الحمى
بلل جبيني بيقينك
ان كل شيء
سيكون على مايرام
(أجمل العواطف ليست سوى اللقاء بين أنانيتين اثنتين وحتى لقاءات الصدفة طالعة من روابط قامت في حياة سابقة.. الروائي الياباني هاروكي ماروكي)..
الجنسانية هي الأكثر رهافة في الإنسان وهي في نهاية المطاف وجود الأشياء التي تبحث في بعضها عن العنصر الذي ينقصها. تقول رماح (تعال) فهنا لغرض الرؤيا وإمتلاء العيون لأن العشاق حين يتعانقوا تتعانق حتى عيونهم وأن من ينظر ويحدق بعمق لحبيبه هذا يعني وجود الجمال في عينيه، كما أن العيون هي نوافذ الروح القابعة في سجن الجسد التي تريد أن ترى وتحس ماذا يعني بقاء الشراشف باردة. بينما لو إلتقى الحبيبين فكلاهما ينطفيء بنار جمرهما. هكذا هو الحب إتحاد بين الجنون والحكمة ومايفعم المرء ليس الشغف الحسي انما اللقاء والحميمية. الدخول الى الشعر بلاحب بمثابة الدخول الى صحراء بلا قطرة ماء وعلى طريقة أوسكار وايلد (نحب النساء رغم اننا نعرف من أنهن يزدنَ مصروفاتنا الى ثلاثة أضعاف). ومن بين كل هذا الأيروتيك نجد رماح لاتتغافل ولاتنسى من أنها تلك المرأة التي أبتليت بالوطنية الصارخة والضاربة في عمق تفكيرها وعقلها ولايمكنها الخروج من هذا المآل أبدا فقالت (ابتليت بأطفال اليمن). هكذا نحن معشر الشعراء مهما حاولنا مسك السعادة الحقيقية نراها سرعان ما تتلاشى من بين أصابع كفوفنا فالسعادة نسبية تتأرجح كما البندول بين ضياعها ووجودها.
هناك نص إنثوي طاغِ وجميل وضع على الغلاف الخلفي للديوان :
ما بالكِ
متى تشابكتِ هكذا كعوسجة
وانت ابنة الماء البسيط
اهدئي
فكيف
سألملم من حواكير خيباتنا طفولتك
لنسكن بالألبوم ثانية
ونحتفل
بليلة الميلاد
(الذكريات قوّتنا وعندما يحاول الليل العودة ينبغي اضاءة التواريخ الكبيرة كما تضاء المشاعل.. فيكتور هيجو).
(ما بالكِ) كلمة خاصة أطلقتها رماح لجرجرة الذكرى من ساحة الغفلة فالذكرى سنّارة النسيان. كما وأن هذه الكلمة تُطلق لكي يفزّ المرء ولاينسى فالتأريخ ينسى أخطاء التأريخ على حد زعم الفيلسوف( هيغل) . وأما ذكر الألبوم فهذا يعني ذكرى صورة واحدة منه ماهو سوى الأسف على لحظة ما. وهناك روائي عراقي جعل تأريخ ( مدينة السماوة وهي مدينتي) كلها عبارة عن صور في علبة ( تعني الألبوم) وأعطى موسومية روايته ( مدينة في علبة) وفي كل مرة يسحب صورة ما لشخصية ما ويبدأ بسرد التأريخ عليها وماحصل في تلك الفترة في هذه المدينة وعلاقتها بالوضع الإجتماعي والسياسي العراقي بشكل عام . فهنا توفقت رماح بشكل كبير في محاكاتها لنفسها وكيفية حصولها على متعة ليلة الميلاد بدلاً من أن تكن كعوسجة الشوك .
إستوقفتني أيضا فلقة معنوية رائعة من نص (طاقة نجاة):
في مفارق الوقت المشجر بالحراب
وكلّما همّ ظلّك الجبان بطعنك
اذكرني
فأنا بكل العربات التي سحقتني
أسكنك
عين الصواب فيما قالته شهرزاد لآيار وهنا أقصد روح الحقيقة بما رمته رماح بوجه المعني وهذا لامناص منه أقرب الى الصحيح فكل الضجيج يأتي من العربات الفارغة بينما إبداع رماح كما قطارات معبئة بإزدحام الفكرة والمعاني الإنسانية المتوجهة صوب هدف الوصول الى محطاتنا الأخيرة.
سطور أخيرة بحق الشاعرة :
رماح شاعرة سورية تستدير لها الرقاب لمجهودها الشعري في ثلاثة دواوين ومنها (تفاحتي وقد سرقتها) ولها نصوص مترجمة للغات أخرى وعندها الكثير من الخزين والجاهز للطباعة ولازالت على الدرب يُشجيها الوطن والأدب الرصين الموجع. الذي يتوجب علينا إدراكه هو أنّ الدافعية الجمالية عند رماح هي حاجتها الى الرصد على الدوام والى الخلق وقد وجهت رؤيتها الى مكامن الصور داخلها وخارجها. وأستطيع أن اطلق على قصيدتها بالقصيدة الرماحية على غرار مسميات القصيدة النوابية التي إشتهر بها مظفر ومنها أطلق هذا المصطلح على الشعراء المائزين وكل بإسلوبه الخاص بإسمه وبذلك إستطاعت رماح أن تحفر إسمها في مديات اللامعين والباقين في رموز السطوع دون نضوب . كما أن بساطة رماح في تشكيل نصوصها هي بساطة مخادعة لأنها متعايشة مع الغموض القليل و الصفاء الظاهر والواقعية المنتقاة مع خيط رفيع من السوريالية وهذا يوصلنا الى فهم كلية الشاعرة والى الشعور بتكامل شخصيتها الإبداعية. وانّ بعض المميزات الفنية للشاعرة يمكن ملاحظتها دون عناء يذكر حتى نتوصل الى مفاهيم اهتماماتها المماثلة بالوطن والحب . الشعر بالنسبة لرماح هو طريق الوصول الى الجمال تماشيا مع مع ماقاله الألماني غوتة مستهزءاً حين سأله أحدهم (ما فائدة الشعر) فقال (أنه جميل وهل هذا لايكفي) لأنه لو أصبح ذا فائدة فقد جماليته. أضف الى ذلك رماح تبحث عن شيء بعيدٍ ومستعصٍ وهذه هي ميزة رماح الذهنية في الشعر الوجداني أو الأيروتيك أو في جعل الأوطان على طبقٍ من شعر .