تنبني مجمل نصوص المجموعة الشعرية "جمهورية البرتقال" للشاعر ابراهيم الخياط على عدة مستويات بنائية، وان كانت ضمنا تشترك بها مع النصوص الشعرية الاخرى، حيث تبدو كخصائص عامة مفترضة مشتركة للنص الشعري، تبعا للمنهج الذي نستخدم ادواته في مقاربتنا هذه، وهما المستوى السطحي او "البنية السطحية surface structure" والمستوى العميق او "البنية العميقة deep structure" للدلالة الشعرية، وتشير هذه الاخيرة الى الاحالات التي يقود اليها النص، ليست الاحالات المباشرة بالتأكيد ولكنها تلك التي تنبني من خلال التفاعل بينها وبين جميع دلالات النص من خلال تشكيل وحدات نصية او بؤر دلالية تتجمع فيها، والتي تختفي تحت البنية السطحية التي تنقاد ربما الى الهيمنة التي تفرضها الاشارة القاموسية والمعجمية للدلالة، لتنتج انساقا ينبني على ضوئها النص، ومن ثم المجموعة الشعرية ككل، سأخذ في هذه العجالة نصا واحد وهو نص "جمهورية البرتقال" الذي هو عنوان المجموعة، ولأحاول اكتشاف تلك المستويات واساليب تشكلها داخل المتن.
فالمستوى الاول وهو السطحي بني على مسارين يتعالقان فيما بينهما وهما "انا النص" بكل تشكلاته التي يظهرها النص، اي اماكن ظهوره التي تتعالق بالمكان تارة وبالمرأة تارة اخرى وبالمكان او الزمان .. الخ، ومسار اخر هو المكان – ليس المكان الاول الذي اشرنا اليه والذي يظهر من خلال تعالقه بـ "انا النص" كما في يظهر "خطوتي، تسورني.. الخ" وانما المكان المستقل، اي الحضور الوجودي لذلك المكان كـ "النهر، المدينة.. الخ"- ومن خلال العلاقة بين هذين المسارين يقدم النص ثيمته المحصورة "بين الاسى واستدارة النهر الذبيح" وما تحيل اليه هذه الدلالة الظرفية، والتي ربما تتكشف اكثر ان نحن قاربناها الى المستوى الاخر وهو المستوى العميق لعلاقات النص، الذي تنبني دلالاته على ثلاث علاقات:
- علاقات صغرى هي علاقات استعارية او مجازية تنبني على احالات سيميائية او تناصية.
- علاقات متوسطة تنشئها تلك الدلالات الصغرى لتصنع مقطعا دلاليا داخل النص
- علاقات كبرى تنشأ من خلال التفاعل بين هذه العلاقات السابقة، لتنشأ الدلالة الكلية او "البنية الكلية" للمقطع الذي ينخرط في عملية تشكل الدلالة الكلية للنص برمته.
لو أخذنا هذا المقطع المفترض من النص، وحاولنا تحليله واكتشاف تلك العلاقات، فسنرى تلك العلاقات العميقة بين الدوال وكيف ستقودنا الى اكتشاف انساقه البنائية:
بين الاسى
واستدارة النهر الذبيح
كانت خطاي
تنبئ بالجفاف
وتقرأ سورة الماء المدمى.
ويمكن اجمال هذه العلاقات بالعلاقتين الصغرى والمتوسطة لأنها ستكشف بناء النص ونمط العلاقة المتحكمة به.
تبنى العلاقات الصغرى على بنى استعارية ومجازية، حيث العلاقة الاولى "النهر الذبيح " التي هي علاقة استعارية مكانية تحيلنا الى مستويين من التحليل، الاول هو العلاقات الدلالية المباشرة لحدي الاستعارة، والثاني هو الاتكاء على المرجعيات الاحالية التي تحيلنا اليها التناصات المعرفية والثقافية، والتي ربما تجنح بنا بعيدا ان تعاملنا معها من هذه الزاوية كتناصات، اذ ان كلمة "ذبيح" مثلا تحيلنا الى الكثير من التناصات التي ربما نقترحها لهذه الدلالة، منها ما هو ثقافي وتاريخي وديني، لذلك وتجنبا للجنوح بدلالة هذه الاستعارة بعيدا، سنكتفي بإحالاتها السيميائية القريبة حيث ان النهر ربما يشير الى الحياة او الوجود، والذبح يشير الى القتل والموت، بينما تحيل العلاقة الثانية "خطاي تنبئ" وهي علاقة مجازية بعد تحليلها الى "خطى = الحركة" و" انا = انا النص"، "تنبئ = الزمن"، ان حركة انا النص "سيرة حياتها" تتنبأ بما سيؤول اليه المستقبل، على العكس من "تقرأ سورة الماء" فهي وان كانت تبنى على نفس العلاقة السابقة الا انها تختلف زمنيا، بانها صوب المستقبل، وهذه العلاقات مجتمعة تدخل في بناء العلاقة المتوسطة.
تحيلنا هذه العلاقات وكما ظهر لنا سابقا، انها علاقات او "بنى جزئية" داخل بنية متوسطة تشكلها ربما الظرفية في "بين الاسى واستدارة النهر الذبيح" والتي تتفاعل مع الافعال "تنبئ، تقرأ"، حيث ان الدلالة التي ممكن ان نفترضها لهذا المقطع، تبنى على العلاقة الزمانية بين الفعل المضارع "تنبئ"، والذي ربما يحمل اشارة دلالية للمستقبل، باعتبار ان التنبؤ مرتبط بالمستقبل، والفعل المضارع "تقرأ" الذي يحمل اشارة ضمنية للماضي، باعتبار ان القراءة هي اعادة استحضار لما كتب سابقا، واللتان ترتبطان بعلاقات جزئية، فالعلاقة الاولى "الزمانية" وهي "الحاضر- المستقبل" ترتبط بالجفاف، والعلاقة الثانية التي هي "زمانية- احالية" "الحاضر- الماضي" ترتبط بالماء المدمى، والذي يحيلنا الى الاشارة الاولى داخل المقطع وهي "النهر الذبيح"، وبمقاربة هذه العلاقات يظهر لنا ان "الجفاف الذي ربما يشير الى الموت" هو المستقبل، بينما تشير العلاقة الثانية الى ان "الدم/ الذبح = القتل" هو الماضي، اذا فان الماضي والمستقبل محصورين بين الاسى والنهر الذبيح وما يشير اليه من دلالة، لتكون هذه العلاقة هي دلالة المقطع المفترض.
اما في المقطع التالي فتبنى العلاقات ضمن نفس دائرة العلاقات السابقة، وان اختلفت في جزئيات بسيطة، حيث يقول الشاعر:
أيامئذ
انتكس القلب مرة
وانتكس النهر مراتٍ
فلم يبق لقلبي سوى ظلَّ أنثى
ولم يبق لنهرنا الشقي
سوى حثالة الأهل المتسربين.
وتبنى علاقات هذا المقطع على الفعل "انتكس" والذي يرتبط بالقلب تارة وبالنهر تارة اخرى، حيث نلاحظ ان انتكاسة القلب مرتبطة بغياب المرأة، التي لم يبقى منها سوى "ظل انثى"، وانتكاسة النهر ترتبط بغياب الناس، والذين لم يبقى منهم سوى "حثالة الاهل"، وهذا ربما ما تعززه الاشارة التي تنوب عن العدد، حيث انتكاسة غياب المرأة "مرة" وانتكاسة غياب الناس "مرات"، وايضا العلاقة الاخرى بين "القلب- المرأة"، المرأة الغائبة المتمثل وجودها بـ "ظل الانثى"، و "النهر- الناس"، الناس الغائبون المتمثلون بـ "حثالة الاهل"، حيث تشير العلاقة الاولى بين "انا النص- القلب" و"هي المرأة - ظل انثى"، الى علاقة وجودية مباشرة، وهي الحب الغائب او العلاقة الانسانية، بينما العلاقة الثانية وهي "النهر- الناس" فهي علاقة تثير اشكالية ما، فهل يرتبط وجود النهر بوجود الناس، الا اذا كان يحيل الى دلالة احتمالية اخرى، وهي المكان "الوطن" مثلا، حيث تتأثر هذه الدلالة الجديدة بغياب الناس، او تسربهم، والتي تحيل الى الهجرة والاغتراب نوعا ما.
فبينما تشير العلاقة الاولى الى ارتباط وجودي، حيث تحيل الى غياب المرأة سبب انتكاسة للقلب، لذلك فوجود القلب او العاطفة مرتهن بوجود تلك المرأة او الانثى، مثلما تحيلنا العلاقة الثانية الى ان وجود النهر "الوطن" مرتهن بوجود ناسه، وإن هذه الانتكاسات تعادل غياب اولئك الناس المتسربين او المهاجرين، ولكن العلاقة بين كلا الدلالتين تحيلنا ضمنا الى ان هذا الغياب ليس غيابا فعليا ربما، وانما هو غياب عاطفي وانفصال شعوري، سبب تلك الانتكاسات المتكررة.
وهذا الاجراء التحليلي الذي اتبعناه في مقاربة هذين المقطعين، يمكن ان يكون نموذجا للتطبيق على باقي اجزاء النص او مقاطعه، والذي ربما بقود الى تحليل كامل نصوص المجموعة وفق هذه العلاقات.