نص ( ضحك) :

 أضحك كثيرا

على الذين يجلسون

في الصف الأمامي

يتصورون المسؤولية والشخصية

والأبهة هناك

أضحك لالشيء

سوى

انهم لم يعرفوا

انّ الذين يجلسون في الصف الاخير

يعرفون كل شيء

ويشاهدون كل شيء

ويرون كل شيء

 يقول الكاتب الفرنسي (البيركامو) لاتمشي ورائي فأكن قائدك ولاتمشي أمامي فأكن تابعك بل أمشي بجانبي وكن صديقي.فمانفع المتجبرين ممن ينتمون الى علم ودستور ومجلس أمة كل عن المعنى الصحيح محرف(الرصافي)،وما نفعهم في الرتل الأمامي إن كانوا متخاذلين وما فائدة ممن يجلسون في أول الكراسي في صالة السينما كمحكمين بينما هم بعيدون كل البعد عما يتطلبه الفن السابع. ومانفع قومٌ إذا كان دليلهم وأمامَهم غراب أعمى . فهنا حتما الذي سيرى جيدا هو من كان في الرتل الخلفي لمعرفة ماسيجري أمامه بوضوح تام . فصدق عبدالسادة وبقي لايداهن لكنه ذلك الناسك الذي يكره كل مايشير الى الغلو والعلو الناجم عن الفراغ . بل هو ذلك المناضل اليساري السجين في الأمن العامة كما ورد في القصيدة المهداة لصديقه الشاعر كريم جخيور ( عند مهبط الملائكة) :

 عندما إكتحلت عيناي بالضوء

كم صفعت خدي سجون ومعتقلات

لا لشيء

سوى مشاكسة الجنوبيين التي أحملها حرزا

إتسعت الخطوات وكثرت التجارب

فصارت العبارة اضيق

 كلما ضاقت االعبارة إتسع المدى .. النفري

العظيم ديستويفسكي أول رواية له عن فقراء السجون ( بيت الأموات) حيث انها تحكي عن معاناة السجناء في السجون ومشاكلهم وتعذيبهم وحتى القيصر نفسه بكى حين قرأ الرواية وعندها منع التعذيب في السجون وأجرى تعديلات كثيرة على الدستورالروسي بخصوص ذلك . ولذلك نرى عبدالسادة في تعبيره الدقيق للغاية (الملائكة) أولئك الذين خلقهم الله بلاشهوة خلافا

عن البشر فهنا عبد السادة قد نزع كل شهوات الحياة ورماها خارجا عند دخوله السجن ليكن صلبا واثقا ومتحدياً ومع ضيق السجن عليه إتسع المدى عند خروجه. وهو مع ذاكرة الألم هذي التي في رأسه عن سجنه والتي لايمكن محوها،لكننا نقول لو تم إحتجاز البشرقسراً وظلما لايمكن إحتجاز أحلامهم وهذا ماحصل في سجن العديد من الأبطال الجنوبيين لآنهم أصحاب المباديء والفن والشعر والبناء والهندسة لكنهم بقوا مادام هناك إصرار وتحدي للعقلية الفاشية التي حصدت أرواح الكثيرين وسرقت أحلام الغد الآتي التي تحدث عنها عبدالسادة في (سرقوا الغيم ليصنعوا لغما) :

 انه المطر ..لامدينة العاب ..ولا متنزهات

ولاحتى ساعة صفاء

ياللرعب ، قلق مجهول من مفخخٍ بالكراهية

مستقبلنا يبحث عن حب وعن مطر

انه المطر الذي سافر بعيدا

بعدما سرقوا الغيم

كي يصنعوا لغما

ضمائر لم تعد ضمائر

فكل يوم نشاهد سيناريو لمقتل عصفور

انه المطر لكننا لم نبصره

لم نفتح أكفنا له

لم نرقص تحت قطراته فرحين 

     علينا أن نعّلم أنفسنا حين نجد الحب كيف ننحني له باحترام..مثلٌ هندي

عالم عربيٌ يديم نفسه ذاتيا في جحيمه ، جحيم الرب،طبيب يعذب طبيبا،خادمٌ يناكفُ خادماً، سياسيٌ يقاتلُ آخراً،جندي يحاصر جندياً،عالم يقتل الزنابق دون سائلِ،عالم لايعرف كيف يمسك أمطار السماء بكفيه فبقينا في سنوات القحط مثلما قالها السياب ( مامر عام والعراق ليس فيه جوع).عالم شرقي وساسته عندهم مبدأ في السرقات : إذا أردت ان تسرق فاسرق الدجاجة كلها لا البيض وحده . عالم الكراهية والطائفية الذي فاق الأخوة الأعداء في رائعة كزانتزاكيس ( المسيح يصلب من جديد) . لذلك عبدالسادة إستلهم كل ذلك وصار لايتوقف عن الحركة وهو الشاعر الذي له من الكلمات البندولية الصارخة،هناك الديالكتيك في كل حلقةٍ من حلقات قصائده،هناك حبها الذي سار في قلب إمرئ القيس وجميل بثينة وبقي سائرا في الأمصار حتى اليوم.نجد السحب في شذراته وكإنها القطارات البخارية أيام زمان ( الريل وحمد) ومظفر النواب،حتى تدونت في التأريخ صوب الأبدية والخلود وبقيت في أذهان الشعراء والمبدعين في أمصارهم أو مدنهم ينشدون الجمالات أو الاحزان الضاربة في العميق لنقرأ الشاعر بهذا الخصوص في ( مدينتي) :

 من أقصى جنوبها المضمخ بالحناء

وحتى سوابيط أعنابها شمالا

تطش الهيل والزعفران

في جمعتها تسمع الأدعية والدرابك

والسبت أغنية جذلى

من زارها ظل يبكي عليها وسكنته الحكايات    

عبد السادة يكتب بكل اللحون المؤلمة ، ومهما دار وجهته ، يمينا او شمالا ، شرقا او غربا ، يشتغل المدار الأوتوماتيكي الذي يعود بالرقبة الى أن تصلّي وفق قبلتها الأساسية التي رافقته هناك في إلتقاء ماء دجلة والفرات وفي مدينته التي لا زالت تسير مع السرمدية الحزينة التي لايمكن الخلاص منها ، إنها مثل أضلعنا التي تحمي قلوبنا من الصدمات والكدمات والحظوظ العاثرة،فلابد لنا أنْ ندفع ضريبة الذكرى التي تجرجرنا أنى كنا ، تسحلنا سحلاً فوق الإسفلت حتى تنسلخ جلودنا،وعندها نستفيق على مراراتنا التي تقتلنا في اليوم الف مرة ومرة . ومثما قالها اليوناني الشهيركافافيس حين غادر مدينته (ستلاحقك المدينة وستهيم في الشوارع ذاتها وستدركك الشيخوخة في ألأحياء بعينها،لاتأمل في بقاع أخرى ما من سبيل مادمت خربت حياتك هنا في الركن الصغير  فهي خراب أينما حللت في الوجود ).

ينقل لنا الشاعر ما يحدث في الأمكنة العراقية الشهيرة ومنها البصرة لما فيها من أصالة البناء والنفس العراقية الأبية التواقة للنبل والكرم، لما فيها من القداسة وغناء الخشابة وموسيقى الفلكلور الشعبي ومافيها من النبهار والبهار البصري المعروف. هي البوابة الرئيسية لإطلالة العراق على بحار العالم لكنها ظلّت تُبكي كل من يراها على غير ماتستحق نتيجة إهمال الطغاة. بل ظلّت حتى الآن في قتال جديد ولاناقة ولاجمل لها مع سيل الضحاياالشائك والواضح في ( شهداء) :

 صورهم

معلقة على الحيطان

وفي الشوارع

الساحات العامة

تحثنا

عن زمن أعوج

 يقول محمود درويش ( عندما يذهبُ الشهداء الى النوم / أصحو وأحرسهم من هواة الرثاء) ...

النص أعلاه القصير للغاية يتحدث عن إختلاط المعرفة بكلمة الشهيد وماتعنيه في بلداننا فلقد كثرت الفرق المتحاربة وكل يدعي موتاه بالشهيد وهذه ترجعنا الى الماضوية حين يقف زيد بن حارثة في معركة بدر ويقول( قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار) . واليوم نرى إختلاط الحابل بالنابل فمن هو الشهيد ومن هو غير ذلك بحيث أننا أتخمنا من كثرة الصور المعلقة على الحيطان بينما في الأبستمولوجي أول من أطلق اسم الشهيد هم الآغريق martyros ، والتي تعني الموت في سبيل قضية نبيلة وعلى يد الآخرين ثم تطورت وأصبحت من يموت في سبيل معتقد أو فكرة معينة.أما لدى شعوبنا فتعني الموت في سبيل الله وهنا نقف ونقول من أن كل الاطراف المتحاربة ترفع لواء السماء فمن هو الشهيد هنا. لذلك نرى الشاعر عبدالسادة يقف منذهلا مزعوجا في أخر النص فيقول( تحثنا عن زمنٍ أعوج). ومن بين هذا الرماد يتخذ عبدالسادة نهجا مغايرا لايعلوعليه من نهج الا وهو الحب الأسمى في ذهبيته( حب) :

 قلم ينزف أحلام الروح

ووريقات أتعبها الترحال

التقيا

عند رصيف منسي

رسمت دموع القلم الحائر

فوق شغاف الورقة

صوراً تحكي عن ماهو آتٍ

وافترقا..

 هناك حرف واحد يفرّق بين كلمتي الحب والحرب

وهذه كانت طبيعة عشتار ربة الحب والحرب .. مقولة فرنسية

 في هذا النص نجد الشاعر عبدالسادة باحثا عن الحب لاغيره مثلما قالها في مضي التأريخ السحيق صاحب موشح الوصل ( لسان الدين الخطيب ) النار والحريق في قلب العاشق جليّة . في الأبيات الرونقية لعبد السادة نجد القلق الدوار الذي يجعل المحب وكأنه في إرجوحة الحياة التي تصعد به وتنزل إعتمادا على حسراته وآهاته التي ستخمد حتما في الوصال إن كان محبا لإمرأة فتستكين القلوب عندما تؤثر بها نرجس العيون أو زرقتها أو يصعد بها الشبق والجمال الى ذروة النرفانا. ويبقى طعم الحب رمزا نستعين به أينما حلت بنا الضاقة،إنه العنفوان والحركة،إنه الإرادة اللامنتهية،إنه سباق الزمن،إنه الحياة التي لابد لها أن تتلطف علينا بلذائذ الأنس بين الآونة والأخرى وهذا هو دوام الحال من صيرورة الشاعر عبدالسادة الذي يصرعلى الحب الذي يتخيلهُ لغزاً محيرا،إنه زفيره،وجناحاه،وسراجه المستنير مثلما قالها بلزاك (الحب هو شعر الحواس).

سطور أخيرة بحق الشاعر :

أصدر الشاعر حتى الان ثمانية دواوين شعرية وله تحت الطبع العديد ولازال على الدرب مستمرا ومن دون نضوب.له عمود إسبوعي في طريق الشعب وفي الكثير من الصحف المقروءة والألكترونية. عضو المجلس المركزي للاتحاد العام لادباء العراق و رئيس ملتقى جيكور الثقافي.وفي أغلب أعماله هذه نرى الثورة والتصدي، الإسلوب البانورامي الثابت منذ أول شقائه وحتى اليوم.نرى بوصلته تتجه الى الإنسانية المعذبة الى الطبقة العاملة التي تئنّ تحت غول رأس المال،الى الوطن الذي أدركه جيدا بحيث أنه أعطى الموسومية لديوانه هذا ( غرقى ويقتلنا الظمأ) إشارة الى البيت العربي الشهير ( كالعيس في البيداء يقتلها الضمأ / والماء فوق ظهورها محمولُ).الوطن الفائض بماء دجلة والفرات وحقول النفط والبساتين والنخيل لكننا جائعون وعطشى على إمتداد الدهور .

أما حين  نقرأ الشاعر في غزلياته ، ولو أني لم أجد في هذا الديوان الا القليل منها ولكننا نجد أنفسنا في فردوسٍ من التفاصيل،صغيرها وعظيمها، والتي تشكل كل الجمالات التي نراها ونحن نطرق مداخل هذا الجنان : مثل النظرة الأولى ، القدرية في الحب ، القلوب حين تفتقد شيئاً ، الإلتفاتة ، ماذا نفعل حيال الحب ، وصف الحبيب ، تبادل النظرات ، العفوية في اللقاءات ، الندم ، الإنجذاب ، التعلق ، العذل ، عظمة القلق ، اللواعج ، وكل ماعرفناه وما لم نعرفه عن الجنس اللطيف ومايخبئهُ تحت طيّات الحرير ، فالمرأة هي تحفة الله الفنية خاصة عندما يكون الشيطان في جسدها(الفونس كار).ويبقى عبد السادة شاعرٌ يشار له بالبنان وانّ معظم الوجدانيات والإنسانيات بالنسبة له هي عادات وواجبات ومثلٌ عليا لانملك الشجاعة والجرأة لتحطيمها .

 

هاتف بشبوش/شاعروناقدعراقي

عرض مقالات: