قاعة كولبنكيان، آخر المعارض

على يمين مدخل قاعة كولبنكيان، ما أن يخطو المتابع خطوات عدة حتى يكتشف آثار لوحة كانت معلقة منذ سنوات. امرأة تقتعد كرسيا حديديا وتمسك بسلسلة تنتهي بطوق جلدي حول رقبة كلبة تشبه دمية، حين دخلت ما يشبه العتمة، كان الوقت ضحى، وكانت المرأة تطعم كلبتها، وكنت اشم رائحة "باسطرمة"، الرواد تماثيل، واللوحات تعاين ما وراء طيلسان المرأة، والتشكيلي الذي ما زال دفتر الزيارات ابيض، على منضدة يلفها غبار رصاصي، ربما هو بسبب انفجارات ساحة الطيران الأخيرة.
عند المساء، وعندما يهبط الحارس الليلي، تقول المرأة: لا أعرف من أين؟ بندقيته القديمة، الأمن العامة لم توافق على مقترح مديرية المعارض على ضرورة تزويده ببندقية حديثة، بسبب سوء سمعته، هكذا يقول تقرير سري رفع بحقه من قبل فنان حكومي!
دكة عند شمال البوابة، يقتعدها، أو يتخذ منها سريرا، الحارس الليلي بجنوبيته لا يخرج عن تكوين رجل اسمه منعم فرات. يقول الحارس الليلي: كل صباح ومعي بعض المارة أعيد اللوحات إلى أماكنها، بعض المرسومات تبدل أماكنها، رجل يدخل غرفة امرأة قد خرجت توا من الحمام، نخلة تحس بقلة الضوء تترك حديقة منزل ضيق إلى بستان مجاور، النهر الذي في أول اللوحات يطلق بعض امواجه لتصل اعشابا، كثيرا ما أعلنت تبرمها من عبث كلبة السيدة بها، الرجل الحارس الذي اتفق البعض على أنه منعم فرات، كل صباح يرتب لنفسه حكاية، عن فنانين يجوبون القاعة، هيئات انيقة، حركات متقنة تبدو ميكانيكية، يتبادلون الانخاب أو الآراء أو التوقعات، لا يشبهون أحدا، ربما يشبهون حراسا ليليين يخرجون من جسد الحارس الجنوبي، شخصيات على شكل مجسمات وتماثيل، شيء من الفزع، حيث تتراكم العتمة على انوف وشفاه وعيون، ووجوه منتفخة، اللوحة ذات التسلسل الثامن والعشرين، حيث الفتى العشريني المهووس بمراقبة فتاة ما، يكون حضورها شبه إلزامي منذ افتتاح المعرض، منذ سنوات عديدة، كانت تحدق بوجوه الحارس الليلي، والزوار، حين تهم الفتاة بالخروج يترك الفتى اللوحة ليتبعها، المرأة تمسك به، و بهدوء غير مرئي تعيده إلى وسط الألوان، قاعة كولبنكيان ما زالت على هيئتها، ومنعم فرات يراقب المارة، وكلبة السيدة تنبح على الفتى العشريني الذي غطته بعض شظايا الانفجار الأخير.
* * *
حافلة مرقمة 1944 كوتستان، خصوصي

سأدفع بالحافلة المرقمة 1944، كوتستان خصوصي الى شارع فرعي، كانت متجهة نحوك، وانت منشغلة عما في نهر الشارع، كان عبورك من المناطق المخصصة للأطفال، في المرة القادمة انتبهي، ربما لن أكون حاضرا، وربما يكون شرطي المرور منشغلا بمحاسبتي، وقد يكون سائق التاكسي يتحدث مع أحد الركاب حول تشكيل الحكومة فيحصل الحادث الخطأ.
ما الذي اقدر أن أفعله لحظة الكتابة، لا بد أن أنهي السطر بنقطة، وابحث عن حدث آخر، انك بأفعالك الصبيانية تبعثرين جهدي السردي، كما حدث في القصة القصيرة جدا، حين انتهيت إلى خروجك المتسرع من النص، لأمزق الورقة، واذهب إلى أقرب مقهى لالتقي بأصدقاء السوء.
كنت استعد حين غادرت وحدة البيت الشعري، هكذا اعترضك الحدث، كنت استعد لأن يكون أبو الطيب المتنبي من يدير نص الصورة، وبإشارة للاخشيدي ينهي ما انوي كتابته.
كنت تتحركين لحظة عبورك الشارع غير متأكدة من متابعتك لبائع الكتب القديمة، تذكرت حركتك تلك لحظة مغادرتك صالة الاستقبال، داخلة فضاء المكتبة، وكنت اضيء حركة ساقيك على الكاربت الأخضر الذي يشبه عشبا اصطناعيا، ببعض الاحتفاء، وأن لم اتذكر لحظتها الطائر الهولندي، إلا أنك استطعت أن تعيدي الي الرغبة بقراءة نص سردي شائع، حول النص داخل النص.
حركاتك بعضها ذكوري، شيء أنثوي يظهر بخجل على ملامحك، فأقرئه السلام، فتهبطين عند حافة النافذة مقترحة قراءة ثانية لقصيدة قرأتها من قبل لامرأة أخرى.
كانت تحاول أن تثير مكامني، أن تسقطني بالضربة القاضية، كما يقول الفن النبيل، وإن كان العمل بالنيات، إلا أن القصيدة تقول غير ذلك، هل كان اقتراحك ذاك وانت تردين الباب الخلفي للحديقة من ورائك بريئا؟ من غير مخطط لإيقاعي بشباك ما يشبه الخيانة.
لا أحب ان اكون فريسة للأصدقاء، المزاح الثقيل غير مأمون العواقب، والنباهة أن لا تسيء المرأة الظن بشخص ينتظرها عند نقطة العبور، أو التقاطع، ربما أعيد النظر بآخر ما كتبت إليك، لأوفر لك سلامة المرور من أمام المركبات الطويلة.
عندها ستجدينني مستعدا لاستقبالك، مزينا حافلتي الصغيرة بحدائقك، ربما تكون برقم آخر غير 1944، كوتستان، خصوصي.
* * *
سينما البلدية

الزبائن من سكنة الفنادق، فندق النجوم مثالا، ونحن في فصل الصيف. اللذين تركوا أجسادهم على أسرة السطح، القريولات من الممكن أن تبدأ سهراتهم مع بدء تحضيرات المشرف على عمل سينما البلدية، التي تشغل "واجهتها بأضوائها، وأصوات مطربيها التي تطلقها مكبرات الصوت، السماعات.
المتسع من المكان المقابل لفندق النجوم أولا، وللمجرشة ثانيا، ويطل من فوق المسقفات المعقودة، الطارمة على الشارع الرئيس القادم جنوبا نحو ساحة العامل والذاهبة شمالا نحو نافورة 14 تموز. فما أن يحل المساء حتى تبدا أجهزة بث الاغاني عبر مكبرات الصوت مجموعة من الأغاني العربية تحديدا، لتعلن من غير إعلان عن وجود العروض السينمائية الليلية، أم كلثوم، كوكب الشرق، وسيدة الغناء العربي واغنيتها انت عمري، أو الاوله في الغرام، وجددت حبك ليه، أو مجموعة من أغاني محمد عبد المطلب ومحمد طه، ومحمد قنديل، وفريد الأطرش وشادية. عند هذه اللحظة يبدأ زبائن فندق النجوم وما يلحق به من مطعم المشويات، أو مقهى الرصيف، عند هذه اللحظة تبدأ سهراتهم على موسيقى محمد الموجي، وبليغ حمدي، و محمد عبد الوهاب، وقد يعتلي البعض سطوح البيوت القريبة أو الأبنية المطلة على شاشة السينما كما هي الحال مع سطح كراج البلدية المحاذي لدار السينما، أو الأبنية التي تقع ضمن علوة المخضرات، التي ستكون في قابل الأيام مكانا لإقامة مشتملات لبناية الأسواق المركزية التابعة لوزارة التجارة، وإذا ما كان الفيلم ناطقا باللغة العربية أو مدبلجا باللهجة المحلية، العراقية العامية كما هي الحال مع الافلام الإيرانية، ،هذه الميزة ،النطق باللغة العربية، أو اللهجة الدارجة تدفع بالكثيرين من كبار السن من المتابعين لهذا نوع من الأفلام إلى الحضور المبكر احتفاء بما يتوافق مع رغباتهم.
كذلك الحال مع زبائن فندق النجوم اللذين جلسوا على اسرتهم ليعاينوا عروضا مجانية، أو ليشنفوا اسماعهم بموسيقى رياض السنباطي.
زبائن النوم على السطوح قد تأخذهم سنة النوم، أو قد تمسك بهم حوارات الممثلين أمثال رشدي أباظة، وعمر الشريف، وأحمد رمزي وفاتن حمامة، وسعاد حسني، وفتوة شخصيات فلم أيامنا الحلوة ورصيف نمرة خمسة، أو قد تأخذ بهم الاغاني بعيدا، فهم من رواد السينما الدائميين، سواء كانوا على مستوى السماع، أو على مستوى الرؤية بالعين، رواد "البلوشي"، ولا تنتهي هذه المشاركات المجانية رغم أنف المشرفين على عمل الدار، إلا بانتهاء عرض الفلم، ليعود كل إلى اشغاله ومشاغله وهموم النهار القادم، أو ليعاين سماء تزخرفها النجوم، أو ليدخلوا أفرادا ظلمة لا رؤية من خلالها، ليدخلوا لجة الصمت حالهم حال الشارع وسابلته، وأصحاب محال بيع المشروبات الكحولية، العراقية والعربية والافرنجية، ،صمت يشمل الجميع إلا فيما ندر، إلا ما يخدش السمع من نباح كلب، أو صفارة حارس ليلي، أو صوت سكران يغني.
تبدأ واجهة السينما مكانيا من تداخل مكاني، انبعاج، خسفة، من إلغاء وجود ما اتفق على تسميته الركن.
من دخول الركن الجنوبي الغربي إلى باطن المكان، وكثيرا ما تشكل أركان البيوت والبنايات المطلة على الشارع على شكل قوس، في محاولة للحد من قساوة الخط المستقيم وانكساره المفاجئ، والحصول على رؤية شبه منحنى توفر نظرة فيها شيء من الليونة. التداخل، الخسفي أعلاه تمثل ربع دائرة، محيط ربع دائرة ونصفا قطر متعامدان يشكلان فضاء الدخول إلى حيز السينما، هذا التراجع، ربع الدائرة يوفر مكانا، عبر الجدارين المتعاملين الذين هما نصفا الدائرة فراغا، فضاءات لطلب حديدي هو مدخل السينما لدرجة أبو 60 وأبو 80، وكذلك هو السبيل للوصول إلى المرقاة، السلم إلى السطح، حيث غرفة ماكنة العرض، وكذلك مجموعة كراسي الدرجة الأولى أبو 100، وإلى حيث توجد في مقدمة السطح مجموعة من المقصورات، اللوج، وهي أماكن شبه معزولة، كثيرا ما تتم عملية تأجيرها من قبل العوائل، كمكان آمن وبعيد عن الأعين والالسن.
رواد الدرجة الأولى لن يكونوا مضطرين إلى رفع أعناقهم ليعاينوا ما على الشاشة كما هي الحال مع رواد درجة أبو الأربعين، أو "اثنين ابطاقة"، بل إن رواد الدرجة الأولى يتمتعون بشيء من الوجاهة، فقد يكونون من علية القوم، ومن وجهاء المدينة.
في الجدار المطل على الضلع الجنوبي لدار العرض السينمائي الذي كان في يوم ما مجموعة منافذ ،فتحات ،أبواب تؤدي إلى مجموعة مايخانات. في خمسينيات القرن الماضي، اول الستينات، في هذه الامكنة الخاصة، العامة تشكل الطاولات المشتركة السمة المميزة.
في هذه الفضاءات كثيرا ما يكون الزبائن ينتمون إلى مجموعات حرفية، أو معرفية، صداقات، انتماءات، ولتتحول هذه اللقاءات إلى حفلات غناء وسمر، ونقاشات، حيث يرفع الغطاء عن الممنوعات ويكشف الجميع عن أوراقهم المخبوءة. الشارع المبلط، والرصيفان المحددان باللونين بالأبيض والأصفر في يومنا هذا والمغلق للداخل والمفتوح للخارج الذاهب إلى شمال البلدة، النافورة، والفاصل بين بناية الاورزديباك، الأسواق المركزية، والمحلات التي ازيلت في وقتنا الحاضر، والتي تبدأ قبل عام 2018 ببائع الشربت، العصائر، وبائع الثلج، وبصانع الداطلي، بلح الشام، ولتبدأ بعد ذلك مجموعة محلات ،وقد تمت إزالتها، المختصة ببيع الحجابات والملابس والأحذية، والشحاطات ذات المنشأ الصيني.
هذا الشارع الحديث الآن ما كان سوى جادة ترابية تتميز بحالة انحدار تؤدي المارة إلى الخلاء، "الفراغ الموجود الآن خلف الأسواق ما كان حينذاك إلا مكانا، مربطا، خانا للحيوانات، الحمير التي يجيء بها الفلاحون محملة بالخضراوات والمزروعات، وما كانت نهاية بناية السينما آنذاك إلا نهاية العالم.

عرض مقالات: