جهد كثير من الباحثين والمعنيين بتاريخ محمد مهدي الجواهري (1898-1997) وحياته، للوقوف عند توثيقاته لأحداث العراق، والأمة، والانسانية شعراً، دون تركيز واسع في هذا السياق على مشاركاته المباشرة في الفعاليات والأنشطة السياسية، برغم تأكيدنا بأن لا يمكن فصل قصيد الشاعر الخالد عن تلك المواقف والرؤى والاراء السياسية، التي تواترت طوال ثمانية عقود ..

  ... وتعود أولى مشاركات الجواهري الوطنية حين قام وهو فتى، في لصق وتوزيع المنشورات على جدران وأبواب مرقد الامام علي ابن ابي طالب في النجف اثناء حصارها عام 1917. ومن ثم في قصائده المباشرة عن الثورة العربية ضد العثمانيين، وبعدها في ثورة العشرين، وعنها، وحتى انتقاله إلى بغداد وانضمامه فترة من الوقت لديوان ملك العراق، الأول، فيصل بن الحسين، وذلك أواخر عشرينات القرن الماضي، وهي عشرينات الجواهري في آن..

   ثم يترك الجواهري البلاط الملكي منتقلاً للصحافة، ليمارس عبرها التنوير والتثوير والدخول في المعترك السياسي المباشر دون حدود. وهكذا راحت مقالاته في صحفه الخاصة (الفرات، الجهاد، الرأي العام..) او في الصحف الاخرى، دعوا عنكم قصائده، تاتي أُكلها في احداث البلاد السياسية والوطنية وأطرها المختلفة، ومنها انحيازه لانقلاب بكر صدقي، ثم انقلابه عليه أواسط الثلاثينات، وفي معمعان احداث آيار/ مايس 1941  التي اضطر بسببها للخروج من العراق فترة قصيرة. ليعود بعدها فيشارك بفاعلية وحماس في تأسيس حزب الاتحاد الوطني عام 1946 مع عبد الفتاح ابراهيم وناظم الزهاوي، ونخبة من مثقفي ذلكم الزمان، وليستقيل منه بعد فترة وجيزة بسبب اختلاف الرؤى والمواقف..

   وفي هذا السياق يهـمّ الجواهري ان يدخل في مضمار النشاط البرلماني فيترشح في الانتخابات التشريعية عام 1946 ويفشل فيها، ثم يترشح ثانية ليدخل مجلس النواب مرة أولى، وأخيرة، عام 1947 وليستقيل منه بعيّـد ما اصطلح عليه "وثبة كانون" عام 1948 منحازاً للجماهير، ورحاب التنوير، وقد تحمل ما تحمل جراء ذلك..

    وبعد فترة انكفاء سياسية قصيرة، بحسب ما وثقه الجواهري ذلك، للتاريخ، عام 1953 استنهض الشاعر الرمز، النفس تالياً ليخوض غمار السياسية المباشرة مجدداً، وليضطر لطلب اللجوء السياسي في سوريا عام 1956 ويعود منها عشية حركة/ ثورة الرابع عشر من تموز 1958 فيشارك في أحداثها، ليس شعراً وحسب، بل وفي خضم نجاحاتها وتداعياتها، ومنها رئاسته لأبرز موقعيّن ثقافيين في البلاد في آن واحد، ونعني بهما اتحاد الأدباء، ونقابة الصحفيين. ولم يكتف بذلك بل دخل ضمن أبرز طالبي تأسيس الحزب الجمهوري عام 1960 والذي لم تجــزه الحكومة..

   وبسبب مواقفه السياسية ومقالاته، فضلا عن قصائده- طبعا- تعرّض الجواهري من جديد لمضايقات السلطة الجمهورية، وزعيمها عبد الكريم قاسم مباشرة، وصلت التحريض عليه، وتهديد حياته، ولحد اعتقاله، ولو لساعات... فقرر من جديد ، بعد مصر وايران وسوريا، الابتعاد من البلاد، إلى مغترب جديد، في براغ عام 1961..

   وهناك، لم يكف الجواهري عن دأبه الوطني، وليس بالشعر فقط .. فكان بيته ومقامه في العاصمة التشيكية، مزار الزعماء والمسؤولين السياسيين العراقيين بشكل رئيس : لقاءات واستشارات وتبادل آراء، بل واستشفاف نبوءات بحسب أحاديثه الخاصة للمقربين. ثم، وإلى المعترك مباشرة حين ترأس اللجنة العليا للدفاع عن الشعب العراقي بعيّـد الانقلاب الدموي البعثي في شباط 1963 والتي ضمت جمعا متميزا من مثقفين وسياسيين وطنيين، وشيوعيين، من بينهم: نزيهة الدلمي  وفيصل السامر وجلال الطالباني وذو النون ايوب ومحمود صبري.. 

   وفي خريف عام 1968 يعود الجواهري للبلاد متفائلاً، كما هي حال الكثير من الأحزاب والقوى السياسية والزعماء والأفراد... وجُددت له رئاسة اتحاد الأدباء، وعضوية الهيئة العليا لمجلس السلم والتضامن العراقيين، ومعروف ما ترتب على ذلك من انشغالات ثقافية وسياسية وغيرها، مثل المشاركات العديدة في ندوات ومؤتمرات واحتفالات عقدت ونظمت في الكثير من العواصم والمدن العربية والاجنبية..

   وإذ تتأزم الأوضاع في أواخر السبعينات الماضية الى مديات بلا حدود، في البلاد العراقية، فتشمل الاعتقالات والعسف حتى بعض افراد عائلته، يشدّ الجواهري الرحال، وإلى براغ مرة أخرى، وكذلك دمشق الشام،  حيث واصل اهتماماته الوطنية والتي تراوحت في صمت مدوي رأى فيه موقفا، او في قصائد واحاديث واراء مباشرة من أحداث البلاد وتداعيات سياسات النظام الدكتاتوري الذي كشف كل أوراقه، وممارساته المدمرة، ومن أشدها الحرب مع ايران، وغزوه دولة الكويت... ولعل أبرز مواقف الجواهري المناهضة بهذا الشأن مشاركته في مؤتمر المعارضة العراقية في بيروت عام 1991 فكان، بحسب مشاركين يعّتـد بهم: فصيلاً وطنيا سابعاً، بمفرده، إلى جانب الفصائل القومية والاسلامية والديمقراطية الستة التي شاركت في ذلك المؤتمر. وهكذا دامت المواقف والقصائد والمشاركات، دون حدود، وحتى لفترة قصيرة قبيل رحيله الى الخلود، عام 1997.

    أخيراً لابد من الاشارة أيضاً في هذه التأرخة السريعة، الموجزة والمحدودة كما هو واضح،  إلى أن الجواهري لم يحصر مواقفه ومشاركاته السياسية في بلاده وحسب، بل انشغل ووثق – بالشعر على الأقل – للاحداث والشؤون العربية، بأتراحها وأفراحها،  في قصائد متفردة تتحدث بنفسها عن نفسها، وكذلك للكثير من المناسبات والمنعطفات الانسانية والدولية.. وكل ذلك يتطلب دراسات وتأرخات اضافية اخرى، الى جانب ما جاء به العديد من البحوث الاكاديمية، والمتابعات، والمنشورة في كثيـر من وسائل الاعلام، المقرؤة والمرأية والمسموعة..

-----------------------------------* رواء الجصاني: براغ اوائل آيار/ مايو 2022

*هوامش ومصادر:

1/ ديوان الجواهري، طبعة بغداد عام 2021 بستة اجزاء

2/ جزأا مؤلف " ذكرياتي" للجواهري عامي 1989-1990

3/ كتاب " الجواهري.. بعيون حميمة" لـرواء الجصاني / بغداد براغ عام 2016

4/ شهادات ووثائق خاصة

 

عرض مقالات: